مجلة الرسالة/العدد 844/البريد الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 844/البريد الأدبي
قطرة في قطرة:
تلقى صديق الأستاذ أنور المعداوي رسالة حملتها إليه (حقيبة البريد) من السيد حسني الشريف وفيها أن قطرة من قطرات نداي سببت له مشكلة يرجو لها حلاً، وخير القطرات عندي تلك التي تثير المشكلات. أما القطرة فهي إنني خفت على الذين يقضون السنوات في المطالعات ولا يكتبون أن يصابوا وقد غصت النفس بما فيها ولم تجد لها منفذاً، بالاستسقاء الذهني والاختناق ودعوتهم إلى الكتابة والتعبير عما يجيش في نفوسهم بين الحين والحين، ويقول المراسل إنه لا يستطيع أن يعبر بما يرضي الأديب الكبير فهل يكف عن المطالعة وهو يحبها؟
أنا حين أقول للسيد حسني الشريف وأمثاله الذين يطالعون ولا يكتبون: إكتبوا كلما قرأتم لكي لا تصابوا بالاختناق وبما سميته الاستسقاء الذهني لا أطلب إليهم أن يأتوا بما يأتي به هوميروس وشكسبير وهيجل وملتن فللتعبير ألف وجه ولون وأسلوب ويكفي أن يعبر المرء عما يجول في صدره بالطريقة التي تلائم مزاجه وذهنيته وقالبه الوراثي وما انتهى إليه عقله وقلبه بحيث يأتي التعبير صدى للصوت الخارج من أعماق النفس ولكل نفس طبقاتها وأعماقها ولونها وهيكلها وجذورها وهواتفها وأرحامها، ومتى عبر المرء بطريقته الخاصة نفس عن نفسه وظهر بوجهه الذي خلق له ولم يستعر وجه غيره وأقبح الوجوه الوجه المستعار وأمن شر ذلك الداء، داء الاستسقاء. . كل يعبر بلسانه وأسلوبه فللأسد زئيره وللعصفور تغريده وللحمام هديله وللاقواس حنينها وللورود شذاها وللرعد هزيمة وللبركان حتمه، وليست القرائح كلها براكين، ومن الخير أن لا تكون كلها براكين ليظل للعبقرية ندورتها وللموهبة مكانتها، وفي كل قريحة تنفجر شيء من البركان وإن كانت لا تطلق المعجزات والروائع.
وإني لأعجب لمن يسلخ الساعات الطوال من نهاره وليله في المطالعة كيف لا يثير فيه ما يقرؤه ويتمثله قوة التعبير ويوقظ ما رقد في نفسه وتلك الخواطر والرسوم التي يلقي بها المؤلفون في ساحات النفس وأعماق العقل والخيال والشعور بذور صالحة للنمو وكائنات حية لها أعصابها وطرقها وأيامها وحيويتها التي تأبى إلا أن تشق لها المنافذ إلى أهدافها. .
إن الذي يغنم كنوز المطالعات ما يغنم ولا يكتب بدوره سطوراً يقدمها للحياة وللناس يقف موقف من ينعم بمال الدائن ولا يفي الدين وليس ذلك بالموقف الكريم المستحب. . . إن من أخذ يجب أن يعطي، هكذا تقول لنا الطبيعة. . .
ولاشك أن تاجرنا المراسل الذي يهوى الأدب ويحب (الرسالة) يعرف من تجارته أنها استيراد وتصدير، وكذلك هو الأدب، وإني لأدعوه إلى الكتابة بالشكل الذي يراه وقد تكون فيه وراء شغفه بالمطالعة قوة كامنة لم يهتد إليها بعهد ولم يسمع صوتها. . إن فينا من القوى الخفية ما يفوق بكثير ما يطفو على بحورنا من القوى الظاهرة. وكم من أديب قضى الحياة والقلم من يده خائف متردد والينبوع كامن راقد في أعماقه ينتظر حريته ويومه. . .
راجي الراعي
ليس في كلام العرب:
نقرأ كثيراً في هذه الأيام تصحيحات لغوية لبعض الكاتبين في الصحف والمجلات وعلى كثرة هذه التصحيحات لم نجد إلا القليل منها سلم من التصحيح، مما يدلنا على أن الكاتبين لا يتعمقون في البحث والاستقراء. وليست اللغة ضيقة المادة، حتى يتمكن كل من تحدثه نفسه بأن يقول هذا خطأ. وهذا لم يرد عن العرب، بل الواقع أن لهجات العرب كثيرة متشعبة، ولذلك قالوا: عجبت لنحوي يخطئ، ومجال التوسع في الاستعمال فسيح، الاستعارة والمجاز، والاشتقاق، كل ذلك مما يجعل مهمة (المخطئ) شاقة وعسيرة.
وقديماً ألف الحريري كتابه (درة الغواص في أوهام الخواص) وأطال فيما أعتقد أنه من الأوهام ولكن الشهاب الخفاجي تتبعه في (شرح الدرة) ورد أكثر ما كتبه.
وبين أيدينا كتاب (ليس في كلام العرب) لابن خالويه، وهو كتاب مملوء بالفوائد العلمية، وقد أثنى عليه ابن خلكان ثناء مستطاباً، غير أنه جاء ناقص الاستقراء، والقارئ للجزء الموجود بين أيدينا من الكتاب يجد فيه مواضع كثيرة فيها نظر، وقد اعتمد بعض مؤلفينا الكبار على هذا الكتاب فتابعوه في الخطأ، وأريد أن أذكر أمثلة مما قصر فيه ابن خالويه حتى يطيل الناشئون التريث قبل أن يقدموا على الحكم في المواد اللغوية.
1 - يقول: ليس في كلام العرب أسم جمع ست مرات غير الجمل، فقد جمع على جمال وأجمل وجماله وجمالات وجامل وأجمال لأنه أكثر ما يكون الجمع مرتين أو ثلاثاً وهذا ست مرات فهو نادر، يقولون نعم وأنعام وأناعيم وقوم وأقوام وأقاويم لا يجاوزون ذلك. وينقل الرافعي رحمه الله هذا القول بنصه في كتاب (تاريخ آداب العرب)، ويزيد أنه وجد صاحب القاموس عد للجمل جموعا ثمانية.
وهذا كله غير صحيح؛ فإن هناك أسماء جمعت أكثر من هذا الجمع، ولنذكر على سبيل المثال (الدار) فقد ذكر لها صاحب القاموس أحد عشر جمعا، وكذلك ذكر للفظة (الشيخ). وذكر لبعض الكلمات جموعا ستة، وعبارة الرافعي الأخيرة غير صحيحة لأن صاحب القاموس ذكر للجمل أثنى عشر جمعا، فإنه قال: وجماله وجمالات مثلثين، ومعنى ذلك أن هذين اللفظين مع الضبط ينتجان جموعاً ستة.
2 - ويقول: ليس في كلام العرب أفعلت أنا وفعلته لأنه صند كلام العرب غير أكب وأقشع، ولكن في كتب اللغة من ذلك أفعال، وقد أوصلها بعضهم إلى ثلاثة عشر فعلا، ومنها أنقض وألام وأظأرت الناقة وأنزفت البئر وأمرت الناقة، وأسبق البعير وقلعه الله فأقلع، وحجمه فأحجم وأنسل ريش الطائر ونسلته.
3 - ليس في كلام العرب اسم على فعال ليس بمصدر إلا كلمة واحدة وهي قولهم أدخل الفعال في خرق الحدثان فأس له رأس واحد، والفعال خشبة الفأس، فأما المصادر تطرد على الفعال في باب فاعل نحو ضارب مضاربة وضراباً وهو منقوص بنحو زمام الناقة وسوار المرآة وصوان الثوب وملاك الأمر ووجار الضبع. . . الخ.
علي العماري
أخطاء مطبعية:
تقع أحياناً رغم التصحيح والمراجعة بعض الأخطاء المطبعية التي لا تغيب عن فطنة القراء. . . ومن هذه الأخطاء ما جاء بمقال الأستاذ أنور المعداوي عن فقيد الأدب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في العدد (842) من الرسالة حيث ورد هذا التعبير: (ومن دواعي الأسف حقاً أن يمسي الأحياء ويصبحون فلا يجدون المازني يملأ مكانة) وصحته: (ومن دواعي الأسف حقاً أن يمسي الأحياء ويصبحوا الخ). كما ورد في مقال الأستاذ المعداوي أيضاً عن (مدام ريكامبيه) في العدد الماضي من الرسالة هذه الكلمات: (وتنادي شفتيها شفاههم الظامئة. . . وتصافحت روح بروح) وصحتها: (وتنادي شفتيها شفاههم. . . وتصافحت روح وروح).
وفي العدد (840) من الرسالة ورد هذا البيت في قصيدة الأستاذ محمد علي الحوماني:
جددي يا مصر فينا الخيلاء ... نخف الأرض ونحتل السماء
وصحته:
جددي يا مصر فينا الخيلاء ... نخسف الأرض ونحتل السماء
وفي العدد الماضي ورد هذا التعبير في مقال الأستاذ إبراهيم الوائلي على كتاب (موسيقى الشعر): (والذي جعله يمزج بين البحرين هو هذا الخلط العجيب الذي درج عليه بعض المحدثين فلم يفرقا بين الهزج ومجزوء الوافر) وصحته: (. . . فلم يفرقوا بين الهزج ومجزوء الوافر) كما ورد هذا البيت: لا وحق ما أنا فيه فلا أرتجيه وصحته: فلا أرجيه.
(الرسالة)