مجلة الرسالة/العدد 841/من ظرفاء العصر العباسي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 841/من ظرفاء العصر العباسي

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 08 - 1949



أبو دلامة

توفي سنة 161هـ

للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

- 3 -

عرف أبو دلامة بخل المنصور، وانه لن ينال منه العطاء إلا بعد تعب طويل، فكان ينتهز الفرصة في إرضائه إلى ما يعلم انه يستريح إلى سماعه. فهو يعرف مثلا المنصور - بعد قتله أبا مسلم الخرساني - كان يحب من الناس ان يبرروا عمله ويعتبروا أبا مسلم مستحقا لتلك المأساة التي ختمت بها حياته، فلينتهز أبو دلامة هذه الفرصة ولينشد المنصور في محفل من الناس:

أبا مسلم خوفتني القتل فانتحى ... عليك بما خوفتني الأسد الورْدُ

أبا مسلم ما غير الله نعمةً ... على عبده حتى يغيرها العبد

وانك لتجد في هذين البيتين قوة في السبك تشعرك بان أبا دلامة في القصيدة لم يكن شيئا يستهان به أو يستخف بوزنه. لذلك سر المنصور بهذه القصيدة وقال لأبى دلامة: احتكم، قال: عشرة ألف درهم. فأمر له بها: فلما خلا به قال له مازحاً: ايه! إماوالله لو تعديتها لقتلتك!

بل أعطاه المنصور دارا وكسوة لإعجابه بقصيدة وصف له فيها سوء حاله وقلة ماله وجوع أهله، ومدحه فيها أثنى على بني العباس واسمع إذ شئت هذه القصيدة:

هاتيك والدتي عجوز همةٌ ... مثل البليلة دِرعها في المِشجب

مهزولة اللَحيين من يرها يقلْ ... أبصرتُ غولاً أو خيالَ القُطرب

ما إن تركتُ لها ولا لابن لها ... مالاً يؤمل غير بَكْر اجرب

ودجائجاً خمساً يُرحن إليهمُ ... لما يبضن، وغيرَ عَيْرٍ مغرب

كتبوا إليَ صحيفة مطبوعة ... جعلوا عليها طينة كالعقرب

فعلمت ان الشر عند فكاكها ... ففككتها عن مثل ريح الجو وإذا شبيه بالأفعى رُقشتْ ... يوعدني بتلمُظ وتثؤب

يشكون أن الجوع اهلك بعضهم ... لَزَباً فهل لك من عيال لزَُب

لا يسألونك غير طل سحابة ... تغشاهمُمن سيلك المتحلب

يا باذل الخيرات يا بن بذولها ... وابن الكرام وكلٍ قرم منجب

أنتم بنو العباس يُعلَم أنكم ... قدْماً فوارسُ كل يوم أشهب

احلاس خيل الله وهي مغيرة ... يخرجن من خَلَل الغبار الاكهب

وكانت الدار التي أعطاها المنصور أبو دلامة قريبة من قصره، فأمر بان تزاد في قصره بعد ذلك لحاجة دعته إليها. فدخل عليه أبو دلامة فانشده قوله:

يا ابن عم النبي دعوة شيخٍ ... قد دنا هدم داره ودمارُه

فهو كالماخض التي اعتادها الطلـ - ق فقرَت وما يقر قراره

ان تحزْ عسرة بكفيك يوماً ... فبكفيك عسره ويساره

أو تدَعه فللبوار وأني ... ولماذا وأنت حي بواره؟

هل يخاف الهلاك شاعرُ قوم ... قدمتْ في مديحه أشعارُه؟

لكم الأرض كلها فأعيروا ... شيخكم ما احتوى عليه جداره

فكأنْ قد مضى وخلَف فيكم ... ما أعرتم أقفرت منه داره

فاستعبر المنصور، أمر بتعويضه داراً خيرا منها ووصله. ولو لم يتأثر بمعاني الشعر أبو جعفر، لما دمعت عيناه فاستعبر، ولما عوض عليه تلك الدار بأحسن منها وطيب خاطره واجزل سلته مع علمه بأنه اكثر إجادة للتمثيل منه لوصف حقيقة حاله. وانظر إلى تمثيل أبى دلامة واستخدامه الأساليب التي ترقق من قلب المنصور تارة، وتضحكه حتى تبدو نواجذه تارة أخرى، يوم دخل عليه فانشد قصيدته التي يقول فيها:

ان الخليط أجد البيَنَ فانتجعوا ... وزودوك خبالاً بئس ما صنعوا

والله يعلم ان كادت لبيْنيهمُ ... يوم الفراق حصاة القلب تنصدع

عجبتُ من صبيتي يوماً وأمهمُ ... أمَ الدلامة لما هاجها الجزَع

لا بارك الله فيها منْ منبهة ... هبت تلوم عيالي بعد ما هجعوا

ونحن مشتبهون الألوان أوجُهنا ... سُودُ قباح وفي أسمائنا شَنع أذابك الجوع مذ صارت عيالتنا ... على الخليفة منه الرَيُ والشبع

لا والذي يا أمير المؤمنين قضى ... لك الخلافةَ في أسبابها الرَفع

ما زلت أخلصها كسبي فتأكله ... دوني ودون عيالي ثم تضطجع

شوهاء مشنأةُ في بطنها ثجَلُ ... وفي المفاصل من أوصالها فدع

ذكرتها بكتاب الله حرمتنا ... ولم تكن بكتاب الله تنتفع

فاخرنطمتْ ثم قالت وهي مغضبةُ ... أأنت تتلو كتاب الله يا لكعُ

أخرج لتبلغ لنا مالاً ومزرعة ... كما لجيراننا مال ومزدَرَعُ

واخدع خليفتنا عنها بمسألة ... ان الخليفة للسؤال ينخدع

ولقد انخدع أبو جعفر حقا بهذه المسالة فانه ضحك ثم قال: أرضوها عني واكتبوا له بمائتي جريب عامرة ومائتي جريب غامرة فقال له: أنا اقطعك يا أمير المؤمنين أربعة آلاف تجريب غامرة فيما بين الحيرة والنجف، وان شئت أزدك. فضحك وقال: اجعلها كلها عامرة.

ولعلك تذكر أن قد مر بك - حول الجريب العامر والجريب الغامر محاورة شبيهة بهذه بين أبي دلامة والسفاح فلا تسرع إلى اعتبار أحدهما موضوعة، فكثيراً ما يستطيع اللاحق نكته للسابق فيتناقلها استمتاعاً بها ورغبة في سماع جواب جديد عليها. وجواب أبي دلامة للمنصور هنا - وان أشبه جوابه للسفاح - إلا ان الرد الجديد اكثر طرافة. فقد قال هناك. لقد اقطعتك أنا يا أمير المؤمنين خمسمائة ألف جريب غامرة من فيافي بني أسد، ولم يكتفي بفيافي بني أتسد فقد ابعد الثقة فقال له: أنا اقطعتك يا أمير المؤمنين أربعة ألف جريب غامرة فيما بين الحيرة والنجف، وان شئت زدتك.

ولأبي دلامة في مسألة المنصور والوصول إلى عطائه أسلوب ادعى إلى الغرابة من كل ما سبق، فقد تطوع له نفسه تلفيق الرؤيا، وهو يعلم انه متهم بالكذب فيطلب من الخليفة تصديقه كأنه يريد ان يشهده على خداعه.

دخل على المنصور يوماً فانشده:

رأيتك في المنام كسوت جلدي ... ثياباً جمةً وقضيت دَيني

فكان بنفسجيُ الخز فيها ... وساجٌ ناعم فأتم زيني فصدقْ يا فدتك النفس رؤيا ... رأتها في المنام كذاك عيني

فأمر له بذلك وقال له: لا تعد ان تتحلم علي ثانية، فاجعل حلمك أضغاثا ولا أحققه

ونديم يجد في نفسه الجرأة على تلفيق الرؤيا إما م الخليفة له من الدلال عليه ما يشفع له، وإلا لالتمس لنفسه أسلوبا اسلم. ونعرف دلال أبى دلامة على المنصور من إعفائه إياه من السواد والقلانس دون الناس: فقد أمر أبو جعفر أصحابه بلبس السواد وقلانس طوال تدعم بعيدان من داخلها، وان يلقوا السيوف في المناطق ويكتبوا على ظهورهم (فسيكفيكم الله وهو السميع العليم). فدخل عليه أبو دلامة في هذا الزي فقال له أبو جعفر: ما حالك؟ قال: شر حال، وجهي في نصفي، وسيفي في استي، وكتاب الله وراء ظهري، وقد صبغت بالسواد ثيابي. فضحك منه وأعفاه وحده من ذلك، وقال له: إياك ان يسمع هذا منك أحد.

وفي هذا يقول أبو دلامة:

وكنا نرجى من إما م زيادة ... فجاد بطول زاده في القلانس

تراها على هام الرجال كأنها ... دنان يهود جللت بالبرانس

فهل كان الخليفة يعفيه من ذلك اللباس من دون الناس لولا دلاله عليه؟. . .

(يتبع)

صبحي إبراهيم الصالح