مجلة الرسالة/العدد 840/وداع مصر. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 840/وداع مصر. . .

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 08 - 1949



للشاعر الكبير الأستاذ محمد علي الحوماني

جددي يا مصر. . . فينا الخيلاء ... نُخِف الأرض ونحتل السماء

(المعز) اختال في كل حشا ... من بنيك الشوس، عزا وإباء

منذ كان (النيل) كانت (مصره) ... جنة تطفح بشراً وراء

وعلى شطيه من فم. . . ... درة تضفي على الفجر الضياء

يا لماء النيل ما اسمره! ... في شريانك ناراً لا دماء

تنشدين المجد من عبقرية ... زاحفاً جيشاً، وخفاقاً لواء

كل قرم قذفت (مصر) به ... لم يخر عزماً ولم ينكل مضاء

سل فلسطين به إذ رخصت ... عندها الأنفس بيعاً وشراء

في سبيل الحق من أمته ... نبذ الفردوس واختار العراء

يا لمرأى النيل، ما أروعه ... تحت أفيائك صبحاً ومساء

يا لأفق النيل ما أحفله ... بالمنى منك خلوصاً وصفاء

بالوشى النيل ما أبهجه ... فوق إعطائك ظلا لا رداء

يا لصوت الفن ما أعذبه ... في فم النيل خريراً لا غناء

كلما أمعنت في تحليله ... هزني العجب وعفت الكيمياء

ذهب سال فأجني ثمراً ... لفظ الشمس، ومج الكهرباء

بالماء النيل، ما أنضره ... في وجوه الغيد، لوناً لا طلاء

شفق ذاب على كل فم. . . ... فجلا الكأس وحيا الندماء

وبدا خلف المآقي حورا ... يرصد ويصطاد الظباء

وعلى المعصم من كل يد ... أفعوانا يتحدى السفهاء

هذه (مصر) وهذا نيلها ... خصنا الله بما شاءت وشاء

شرف من عهد (خوفو) لم يزل ... يخلع الدهر عليه الكبرياء

ثقف الدنيا على أمجاده ... فتغض الطرف أو تغضى حياء

وجمال يحلم (السين) به ... فيرى (باريس) أن لا تتراءى فاتها من (مصر) أفق لم تفت ... أوجه الأقمار صيفاً وشتاء

وعلى ضاحية النيل رؤى ... تذهل الرائي أماماً ووراء

يرد النزهة والماء معاً ... كتل الخلق رجالاً ونساء

فقبيل حال منهم بشراً ... وقبيل لم يزل طيناً وماء

فبنات القصر يركعن الطلا ... وبنات الكوخ يشددن الوكاء

مشهد إن شئت أغواك وإن ... شئت أشجاك وساء

بالماء النيل، ما أعرقه!! ... في الدم المصري، حذقاً ودهاء

عالجوا الحكم فسادوا ساسة ... ورعوا الفن فسادوا أدباء

وبنو الأزهر فاءوا بنا ... للهدى بروا فكانوا حنفاء

لغة القرآن عزت بهمو ... فمشوا فيها إلى الله ظماء

ينشدون الحق فيما كتبوا ... أبعد الناس، خداعاً ورياء

عهد الفن أقلامهم ... بأمانيه فكانوا أمناء

لا يريم الخلد عن ساحتهم، ... وعلى الأهرام، باثوا خفراء

يا لماء النيل، ما أحفله!! ... بالدم الفائر خوفا ورجاء

يتقي الزائف فيما يتقي ... ويرجى من بنيه الخلصاء

حكمة أفضت به عن كثب ... أن يري الداء ويختار الدواء

لم أجد في البلد أنظمة ... قام أهلوه عليها حكماء

ورأيت النيل يحمى بلداً ... سادت الحكمة فيه الرؤساء

رب شخص أو شخص منيت ... بهمُ مصر، فكانوا دخلاء

بيد أن النيل لم ينبت على ... ضفتيه شجر يثمر داء

يا لماء النيل،، ما أطهره ... في الدم المصري عطفاً وإخاء

كن كما شئت، ولكن مسلماً ... عربياً، تنل (النيل) جزاء

يحسب النازل فيهم أنه ... وطني ويراهم غرباء

هكذا أعرق فيهم خلق ... حال في الأعراق نبلا ووفاء

لم أقف منهم على غير يد ... تمطر الدنيا عفافاً وسخاء لطفت في يد من لاطفها ... وجفت في يد من أولى الجفاء

إيه: يا مصر، على أي يد ... لك عندي، أبعث الشعر ثناء؟؟

كم جديد حفل الغرب به ... طبق الداعي له الأرض نداء

لم يسوءني منه إلا أسف ... كلما خامرني زدت استياء

كل زهر نغمت عيني به ... لم يهب روحي من العطر غذاء

وجمال صبت النفس له ... لم أجد فيه من الروح شفاء

وغناء وعت الأذن به ... لم يجد عنك به السمع غناء

ولدى أن همست روح الصبي ... بين جنبي تنسمت الهواء

وعرفت السر في الزهر الذي ... وهب الصب له القلب وعاء

هو من روضك في (أندلس) ... يحسد النجم عليه الظرفاء

هو في (الندوة) حيث اتقدت ... شهب الندوة من (عين ذكاء)

هو في (الجيزة) روض وشعث ... حبب الكاس لياليه الوضاء

سر هذا الزهر عطر لبست ... ضفة النيل به هذا الكساء

وجمال هو في كل دم: ... حركات تستخف الشعراء

هذه مصر وهذا نيلها ... تنعم الدنيا بها ما أفاء

هذه (نويرك) لم تبطر ولم ... يغبط العقل عليها الرقعاء

ناطحات السحاب فيها همم ... شمخت عزاً ولم تشمخ بناء

إنها (نويرك) لم تعمل بها ... يد إسرائيل كيداً وبغاء

هذه (لندن) لم تطغ ولم ... يملك البغي عليها النبلاء

كانت الدنيا. فلما عبثت ... يد (صهيون) بها عادت هباء

وستلقى ضعف ما ألقت على ... جيرة (الأردن) ذلا وشقاء

هذه (باريس) لم تخسف ولم ... تبذل العرض من الخسف وقاء

تنشد القوة لم يعصف بها ... نزوان يسترق الضعفاء

هذه الدنيا يرى السعد بها ... محسن الناس ويشقى من أساء

أي مستقبل عز ظافر ... لك يا مصر. يناديك النجباء! عرب الدنيا تفديك بما ... لم تجد إلا لك الدنيا فداء

نحن يا مصر، بنو الصيد الأولى ... فتحوا غُلباً وسادوا رُحماء

لا ترى في قول من ينعتنا ... أننا عُرج الوفا، إلا افتراء

لم ترم (دجلة) عن نصرتكم ... في (فلسطين) ولم تحجم عداء

البلاء المر في (أهرامنا) ... لم يزل في (بابل) ذاك البلاء

لا يرد الغرب عن إجرامه ... أن يرى منا خصوما شرفاء

غمة لا تنجلي ما لم نعد ... مرة أخرى غزاة رُعناء

ضيف مصر (1949)

محمد علي الحوماني