انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 839/تعقيبات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 839/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 08 - 1949



للأستاذ أنور المعداوي

(بنات) للأستاذ أحمد الصاوي محمد:

كتاب يطرق أبواب الشعور في النفس الإنسانية طرقاً عنيفاً في كل فصل من فصوله قصة، وفي كل قصة قلب، وفي كل قلب عاطفة. ويقف المؤلف من وراء هذا كله ليلهب القلب الذي يخفق، وليؤجج العاطفة التي تحرق، وليقدم من صور الحياة نماذج فيها من زهر الشرق، وفيها من عطر الغرب، وفيها القلم الذي يصب الزهر والعطر في قارورة الوجدان! في هذا الكتاب فتاة ظلمها الصاوي كل الظلم حين لخص قصتها الرائعة في ثلاثين صفحة؛ فتاة ليست ككل الفتيات، لأن مبدع شخصيتها كاتب ليس ككل الكتاب! هذا الكتاب الفرنسي أخفض قلمي تحية لفنه، ولا تصفني بالغلو إذا أحنيت رأسي إجلالا لعبقريته! وتسألني لماذا ظلمها الصاوي؟ فأقول لك: لأن هذه المسرحية تهز منك الأعماق وهي ملخصة في ثلاثين صفحة، فما بالك لو أفرد لها الصاوي كتاباً نقل في كل همسة نفسية من همسات الكتاب الفرنسي وكل وثبة فنية من وثبات قلمه؟! مسرحية تعد في رأي النقد نموذجاً فنياً بلغ من النضج في كل عنصر من عناصره ما يدفع إلى القمة من الأدب المسرحي الحديث. . . الفكرة من تلك الأفكار التي لا يلتقطها من أعماق النفس إلا ملقط خبير بمسارب الشعور الإنساني حين يرتطم بواقع الحياة، والحوار موهبة فذة ترقب الشخوص من مرصد الوعي المرهف لتسجل الحركة النفسية قبل الحركة الفكرية، والصراع من هذا اللون الذي تستحيل معه الكلمات إلى متحف من متاحف العرض الفني لصور الأهواء والنزعات، أما طريقة التوزيع المسرحي للأدوار الرئيسية فتذكرك بطريقة الكاتب النرويجي إبسن في مسرحيته الخالدة البطة المتوحشة؛ كل دور يلائم شخصيته القائمة به ملاءمة تجمع بين منطق الحياة ومنطق الفن. ويبقى بعد ذك للكتاب الفرنسي تفرده بحرارة الصراع وعنف الوجيب في القلب الإنساني!

دعني أقدم إليك هذه المسرحية الرائعة التي لخصها الصاوي تلخيصاً أميناً تحت عنوان (بنت بين أبوين). . . هي فتاة كما قلت لك ليست ككل الفتيات، فتاة رقيقة الحس، مكتملة العقل، مشبوبة العاطفة. نشأت في بيت من تلك البيوت التي تظلل سماءها الصافية غيوم من الحيرة والشك والضلال؛ فأبوها رجل مغلق القلب، مغمض العينين، متبلد الشعور والوجدان. زوجته في رأيه ليست زوجته، وابنته في وهمه ليست ابنته. . وتمضي عجلة الزمن لتطوي من حياة الأسرة المعذبة الحائرة عشرين عاما؛ ً لقيت فيها الزوجة ما لقيت من شكوك الزوج وإهماله، ولقيت فيها الفتاة ما لقيت من خشونة الأب وإعراضه! وتشب الفتاة عن الطوق وبين جنبيها قلب يتقلب على جمرات من الحقد على هذا الأب الذي لم يشعرها يوماً بحنان الأبوة، وعلى تلك الأم التي حرمتها هذا الحنان في فجر العمر وشبابه، حين جاءت بها إلى الحياة من رجل غير الرجل. . . وللأسرة صديق يتهمه الزوج بانتهاك حرمة العطر في زهرة كان يمكن أن تملأ بيته بالأرج، وتقف الزوجة والصديق أمام هذا الاتهام السافر موقف المظلوم من القاضي الجائر، فهو إن قدم الدليل على براءته يجد الأذن التي تسمع ولا القلب الذي يشفع! والفتاة البائسة تجلس في الصف الأول من صفوف النظارة لتشهد المأساة بكل خلجة من خلجات الفكر الموزع والعقل المشتت والضمير الملتاع. وينتهي الفصل الأخير بأن تغادر الفتاة المسرح الذي ملأ عينيها بالدمع وأرمض جوانحها بالعذاب، ولكن أين؟. . . إلى هناك إلى البيت الآخر الذي يضم بين جدرانه رجلاً كانت تناديه أبداً بيا (أبي) تناديه بها بالقلب والروح واللسان! كان أبوها حقاً ذلك الرجل الذي لجأت إليه؟ الله يشهد أنه لم يكن للعائلة غير صديق، صديق يحب الزوج ويجل الزوجة ويعطف على الفتاة، ولكن الشك قد أظهره في عيني الزوج المضل بظهر العاشق وفي عيني الفتاة الشقية بمظهر الأب، وما أثقلها من كلمة كانت تلهب شعوره بسياط الأسى الدفين حين تناديه الفتاة بنداء الأبوة وهو عنه بعيد! ويأتي يوم يتدخل فيه القدر ليرفع الغطاء عن وجه الحقيقة، والغشاوة عن عيني الزوج، وكما يستيقظ النائم من نومه الطويل وأحلامه المفزعة، فقد استيقظ الزوج بعد عشرين عاماً ليطلب الصفح من الزوجة والابنة والصديق. . . . ويصفح الصديق عن زلته، وتعفو الزوجة عن سقطته، وتبقى الفتاة يحول البغض والحقد بينها وبين الصفح والمغفرة! وهنا يبد الصراع النفسي العنيف الذي يرتفع بالفن المسرحي إلى الأوج. . . أب يتوسل إلى ابنته أن تصفح، وأت تعفو، وان تعود إليه، أب فرغ قلبه وفرغت حياته من الحب البنوي عشرين عاماً ويريد أن يملأ فراغ القلب والحياة، أب يئن أمام عاطفة ابنته المتحجرة أنين حيوان شجته السهام فراح يلعق جراحه، أب يحاول أن يقنعها بأنه أبوها وأنها ابنته، وكلما شق طريقاً إلى القلب المغلق وقف الماضي البغيض ليعترض طريق أحلامه وأمانيه!. . . إذا قال لها إن عينيه تشبهان عينيها قال له: أجل يا أبي بما ليس فيهما من حنان! وإذا قال لها يجب أن تؤمن بطهارة الأم التي أنجبتك، قالت له: إن من يعيش معك يا أبي لا يؤمن بأحد! وإذا قال لها أحبي يا ابنتي ما كرهته واجتويته ونفرت منه عشرين عاماً، أنا بشكلي ورأسي ويدي وظهري قالت له: ولكن ابتسامتك يا أبي، ونبرة صوتك، ووقع خطا! وإذا قال لها ألا نحاول يا ابنتي أن يقترب أحدنا من الآخر قالت له: إن من واجبنا يا أبي أن نحاول! ويهتف الأب وهو يغص بلوعته: أرأيت يا ابنتي أن الكلمة الوحيدة التي وجدتها هي كلمة (الواجب) وهي كلمة ينقصها السحر؟! وتجيبه الفتاة وهي تشرق بالدمع: آه لو أمكننا! ويهمس الأب من أعماقه: أن نتسامح، وأن ونتصافح! وأمام اللهفة الضارعة تقول له: تكفي لحظة حنان في حياتنا العدائية، وتذكر شيئاً، شيئا نستطيع أن ننسج عليه مودتنا، ثم محبتنا ثم سعادتنا تذكر عندما كنت طفلة ومرضت، ألا تذكر؟ فلنبحث عن شيء آخر يا أبي، شيء أكون قد قلته لك. . . . كلمة. . . . أو إشارة تسعفنا وتقرب أحدنا إلى الآخرّ ويصرخ الأب في يأس مرير: آه يا ابنتي، لا أكاد أجد شيئاً، لقد كنت بلا ريب طفلة لطيفة، ثم بنتاً جميلة، ولكنني لن أنظر إليك، لقد كرهتك منذ مولدك، أما الآن فلشد ما أحبك يا ابنتي!!. . . انظري أليس مثلنا كمثل كفيفين عمى منهما البصر وهما يتخبطان في الظلام مادين أيديهما ليلتقيا؟ هيا يا ابنتي إلى البيت، ولن نكون الأسرة الوحيدة على ظهر الأرض التي يعيش فيها أب وابنته جنباً إلى جنب بغير حب!

ترى هل ذهبت معه؟ كلا! إن الريشة المبدعة تريد أن تختم المسرحية الفذة ختاماً نفسياً لا نظير له. . إن الكاتب الفرنسي يريد أن يلقي على رجال الفن دروساً ترسم لهم الطريق؛ وها هوذا ينطق الفتاة بأعمق وأروع ما يمكن تنطقها به الحياة: (لن أذهب معك يا أبي لأنني أريد أن أحبك. . . يجب أن نتحاب يا أبي وقد أحبك لأنني أريد أن أحبك. . . يجب أن نتحاب يا أبي وقد أحبك إذا سافرت إلى أي مكان بعيد! إنني لا أستطيع أن أنطق أمامك بشعور الميل والانعطاف لأنك أمامي وحتى لو قلت لي أرني ما عندك فإني لم أتأثر به إذ أنك تقوله بذلك الصوت الذي طالما تثلجت منه أرافي وجرح فؤادي. . لا حيلة لي فيه فهو ما زال يثلجني ويجرحني! حتى لو بكيت يا أبي فإن دموعك تسيل على وجهك الذي ظل عشرين عاماً وهو يتجهم لي!!. . . وعلى ذلك فلا بد لبناء شيء بيننا من أن نهدم أولا كل شيء، ولكي أحبك لا بد لي من أن أنساك. . . ولكي تزداد قرباً مني ينبغي أن تزداد بعداً. . . سافر إذن لأفكر فيك. وأكتب إليك. . . ولكي تكون أبي الذي بعد عني والذي سيعود إلي. . . أبي المجهول الذي لا يعرفنني، والذي سيجيء يوماً ما. . . سوف ترى، فإنه ما إن يتم البعد بينا قليلاً حتى يشب الحب بيننا قليلاً. . . وفي رسالة من رسائلنا، نزداد جرأة عل إبدائه، والتعبير عنه. . . ثم نتحاب حقاً يوماً، وعندئذ تعود. . . أتريد ذلك يا أبي)؟ ويجيبها الأب وهو يجر قدميه مندفعاً إلى الخارج وفي صوته رائحة الدموع: نعم يا بنيتي. . . وسأنتظر رسالتك الأولى!!

فتاة كما قلت لك ليست ككل الفتيات، لأن القلم الذي قدمها إلى الناس قلم كاتب ليس ككل الكتاب. . . وأقرأ بعد ذلك للصاوي قصصاً أخر وبعضها لكتاب آخرين من الأدب الفرنسي، ومهما بدا لك من الاعتراض هنا وهناك فلن تستطيع أن تنكر على الصاوي أنه إنسان، إنسان يستشير قلبه في قصصه حين يكتب، ويرجع إليه دائماً في قصص غيره حين يعرب! اقرأ مثلاً في الفصل الأول قصة الفتاة التي تضحي بحبها الذاتي في سبيل الكرامة، وفي الفصل الثاني قصة الفتاة التي تضحي بحبها الأبوي في سبيل الزوج، وفي الفصل الرابع قصة الفتاة التي تضحي بحبها الخيالي في سبيل الوطن! واقرأ إذ شئت في الفصول الأخرى ألواناً من المرأة وألواناً من الحب، وإذا كانت هذه الألوان لا تبلغ المستوى الرفيع في قصة الكاتب الفرنسي والقصص الأربع التي أشرت إليها في الفصل الأول والثاني والرابع والأخير، فحسبك أن خفقات القلب فيها تسبق وثبات القلم!

بعض الرسائل من حقيبة البريد:

قلت وما زلت أقول لماذا يؤثر بعض القراء أن يظلوا مجهولين وهم أصدقاء؟. . هذه رسالة من (القضارف - سودان) تحمل إلي من أديب لم يذكر اسمه تحية ملؤها التقدير الكريم لهذا القلم المتواضع الذي يسطر تعقيباته من أسبوع إلى أسبوع. إن هذه التحية الكريمة وأمثالها من التحايا الصادرة من أعماق الشعور والقلب والعاطفة، لتؤكد لي أن رسالة الأدب بخير ما دام هناك خلق وعقل وذوق ووفاء، أما أنا فلا أملك لهؤلاء القراء الأصدقاء جميعاً غير الشكر، وإنه لشكر العاجز المقصر عن بلوغ ما يريد!. وهذه رسالة أخرى من (الإسكندرية) تحمل إلي أيضاً ما حملته الرسالة السابقة من عاطر الثناء، ولكن مرسلها الأديب الفاضل سعيد كامل غير راض عن الكلمة التي كتبتها منذ أسبوعين عن الريف، لأن قضية الريف كانت تنتظر مني تصويراً أصدق وأوفى واكثر إحاطة مما كتبت! إن ردي على الأديب الفاضل بعد خالص شكري له هو أنني ما أردت من وراء كلمتي عن الريف إلا أن أسجل حالة شعورية صادقة تركت أثرها في نفسي وحسي، وأعتقد أنني قد نقلت حديث الشعور إلى الورق نقلاً يمكن أن يحرك ذوي النفوس الشاعرة من أصحاب الأقلام وأصحاب السلطان أما الرسالة الثالثة فمن تاجر فاضل (بمحلة مرحوم) يهوى الأدب ويحب (الرسالة) وهو السيد حنفي الشريف. . . يسألني التاجر الأديب حلاً لمشكلة سببها له صديقي الأستاذ راجي الراعي في قطرات نداه حين قال: (أتعس الناس رجل ذو ذاكرة قوية يصرف الساعات الطوال من نهاره وليله في المطالعة ولا يرى فيه قوة لتعبير عما يشعر به، فتظل تلك الخلائق في رحامه لا تقوى على الخروج وتتراكم مع الزمن حتى يصاب بالاستسقاء الذهني وفي مساء يوم من أيامه ينفجر رازحاً تحت أثقاله ويسلم الروح منتحراً أو مجنوناً! إن النفس إذا غصت ساحتها بما فيها ولم تجد منفذاً أصيبت بالاختناق، فلا تصرفوا أوقاتكم في القراءة إذا كنتم لا تستطيعون أن تكتبوا. القلم فرجة الروح فاكتبوا كلما قرأتم لترتفع أشجاركم بدورها بين تلك الأشجار التي تتفيأونها في غابات الفكر والإحساس. افتحوا كوى أرواحكم بين الحين والحين لئلا يفسد هواؤها)!. . . إن مشكلة التاجر الأديب أنه مشغوف بالقراءة والاطلاع والاغتراف من منابع الأدب، ولكنه لا يملك القدرة على التعبير عما يجيش بنفسه من شتى لا خواطر والأحاسيس بما يرضي أديباً كبيراً كالأستاذ الراعي، فهل يترك القراءة والاطلاع لأنه لا يستطيع أن يعبر؟! هذا السؤال يوجهه إلي صاحب الرسالة، وأنا أترك الجواب للأستاذ راجي الراعي لأن الموضوع موضوعه وهو أحق مني بالجواب! وتبقى بعد ذلك الرسالة الرابعة وهي من (السودان) أيضاً إنها رسالة عزيزة علي لأن ما فيها من عتاب وطني حار قد لفح مني الشعور والوجدان! أود أن أقول لمرسلها الأديب الفاضل ج. البشير إنني سأفرد للموضوع الذي أثرته بكلماتك الملتهبة بصدق الوطنية والإيمان مكاناً خاصاً من (تعقيبات) العدد القادم. . .

قصة (مالك الحزين) في مجلة الثقافة:

قصة مالك الحزين قصة معروفة لكل من قرأ كتاب (كليلة ودمنة)، وهي قصة قصها بيدبا الفيليسوف على دبشليم الملك حين طلب إليه أن يضرب له مثلاً للرجل يرى الرأي لغيره ولا يراه لنفسه. . هذا المثل الذي ضربه الفيلسوف لهذا الصنف من الناس مستمداً معناه من شخصية مالك الحزين، هذا المثل تستطيع أن تعثر عليه في العدد الصادر منذ أسبوعين من الثقافة في صورة دكتور من الدكاترة الشبان يلذ له دائماً أن يحمل عصا الأستاذية في النقد الأدبي! قال الدكتور وهو يعرض لأحد الكتب بالنقد والتوجيه: (دعوت في مقال إلى أن لا يكتب المؤلف كتاباً إلا وقد أصبحت أفكاره تجارب يعيشها ويحياها، حتى يكون الكتاب ذا قيمة حقيقية وحتى يمكن أن ينتفع به الناس؛ فإن الكتاب إن لم يصدر عن منطق المؤلف وروحه، ولم يصبح جزءاً لا يتجزأ من ذهنه ونفسه، يكون شيئاً تافهاً، ولا يكون خليقاً بالنظر والدرس. وقد يظن بعض المؤلفين في هذا عنفاً وقسوة في الحكم على الكتب، ولكنهم إذا نظروا في الساعات التي اقتطعوها من القارئ في غير جدوى، إلا أن يأتوا بأخبار من هنا وهناك، حتى ليغدو الكتاب كأنه سوق غير منظمة يختلط فيها الزائف بغير الزائف والمهوش، إذا نظروا في ذلك اعترفوا بصحة ما تذهب إليه). كلمات الدكتور الناقد حق في حق، ولكن هل يتفصل بتطبيقها على كتبه قبل أن يطبقها على كتب الناس؟ أم أنه يريد أن يعيد لنا قصة مالك الحزين، ذلك الذي قال عنه بيدبا الفيلسوف أنه يرى الرأي لغيره ولا يراه لنفسه؟!. .

أنور المعداوي