مجلة الرسالة/العدد 839/أمم حائرة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 839/أمم حائرة

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 08 - 1949


13 - أمم حائرة

العدل أيضاً

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك

(وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية)

إذا أنار الأيمان النفوس ورفعها وهداها إلى العدل، ثم أنفت العدل ودربت عليه واطمأنت إليه، وأخذت به في الكبير والصغير والعظيم والحقير، والجليل والدقيق، وارتفعت عن الأهواء المتصادمة، والمنافع المتقاتلة، وأََمَرٌّتْ كلَّ هذا في الأنفس الثقافة والتربية والأسوة الحسنة، والمثل الصالح، سيطر العدل على الآراء والأقوال والأفعال، وماتت العصبيات المضلة، وهلك الهوى المفرَّق. يخلص الإنسان في الفكر، ويتنزه فيه عن الهوى، ويعدل بين الحجج، ويلتمس الصواب حيث كان، يسأل الله الهدى، ويحرص عليه مبرأ من الميل، والجور وابتغاء مصلحة له أو مضرة لغيره فيدرك الحق أو يقاربه، ويخلص الإنسان في قوله، فلا يقول إلا بالحق، وبالعدل، ولا يتزيد لنفسه، ولا يبخس حق غيره، ويهجر الكلمة المضللة، والقولة الفاتنة، ولا يلبس الحق بالباطل فيما يدعي لنفسه أو جماعته وفيما يدعي على غيره من الآحاد والجماعات، ويتعاون الوحدان والجماعات على بيان الحق، وإيضاعه، وحياطته، والدفع عنه، وتيسيره للعقول، وتقريبه إلى الأذهان، وعرضه على الناس، نقياً جلياً، لا يحجبه ضباب الباطل، ولا يخفيه زخرف الكذب وتمويهه (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا) ولو سار الناس على هذه السيرة أو قريب منها، ما فتنتهم الدعاوي الباطلة، وما أضلتهم الأقوال الخادعة، وما سولت لهم أنفسهم أن يلبسوا الباطل ثوب الحق ابتغاء منفعة لهم، ويصوروا الحق في صورة الباطل للأضرار بغيرهم، وما ابتليت الأمم بهذه الجلبة والضوضاء التي يسمونها الدعاوة، يدعى كل قبيل لنفسه، ويزين باطله، ويفترى على غيره ويبطل حقه، وما أخذت الناس هذه الفتن، والمحن في العقائد والأقوال والأعمال، وما سد القوى على الضعيف الآفاق، وضرب عليه الأسداد بما ينشره يذيع ويكرر نشره وأذاعته ابتغاء الغلب بالحق والباطل بل إيثاراً للغلب بالباطل وحباً للظفر الفرية والبهتان. لو سار الناس على السيرة العادلة أو قاربوها ما استعانو بالنشر والإذاعة لترويج الأباطيل، يفسدون بها الاخلاق، ويفتنون بها الضعفاء ويثيرون الخوف والقلق ويشيعون الهرج والمرج ويزلزلون الجماعات لينالوا في الفتن المائجة رغائبهم، ويبلغوا في النقع المثار رغائبهم، لا يبالون انصروا الحق أم خذلوه، وباعدوا العدل أم قاربوه لو عدل الناس في الرأي والقول، وجعلوا العدل قسطاساً لهم ولغيرهم، وحداً بينهم وبين إخوانهم، ما أجازوا بذل الأموال، لفتنة الأفكار، والتوسل بالشهوات إلى تضليل العقول، وما رضوا أن يحكم السلاح في نشر المذاهب، وزلزلة الجماعات ليبثوا فيها رأياً أو مذهباً. ثم لو عمل الناس في أعمالهم. ما شهدت الأمم هذا النزاع المستمر، والقتال المستعر بين أمة وأمة، وما رأينا قوياً يظلم ضعيفاً، ولا غنياً يجور على فقير. ولا رأينا أنفس الأنيس كأنفس السباع يتفارسن جهرة واغتيالا كم قال أبو الطب. لو عدل الناس في أعمالهم لجمعهم العدل على الحب، وأحاطهم الحب بالاخوة، وتعاونوا بالاخوة على الخير، وأدى التعاون إلى الرفاهية والطمأنينة والسعادة. لو فكر الناس بالعدل وقالوا به، وعملوا، كما قال القرآن: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون). ما شقي الناس في هذه المدينة الحاضرة، وقد أتت بكل عجاب، واخترعت كل بدع من الصناعات وكشفت الخليقة عن أسرارها، وسخرتها بقوانينها، وبلغت في العلوم والمعارف ما تمنى الناس بل أكثر مما تمنوا. لو عدل الناس ما رأينا هذه الأمم التي بلغت الذروة من هذه الحضارة تفرق بين شرقي وغربي، وأبيض وأسود، وما شهدناها تشقى بعلمها، وتهلك بصنعها، وتقاد إلى الموت بأسباب الحياة، وتتوسل إلى الدمار بوسائل العمران، ولما صارت، كما ترى، أجساداً تتصادم، وآلات تتقاتل، وقطعاناً تتفانى. لقد حرموا العدل في كل نفس، وبين الواحد والواحد والطائفة والطائفة، والأمة والامة، والشعب والشعب. ففرقتهم المعارف وكانت حرية أن تجمعهم، وأهلكتهم الصناعات، وكانت جديرة أن تحييهم. ولو عدلوا ما تفرق بهم السبل، واختلفت الوجهات، ولجمعهم سبيل الحق الواحد، وطريق العدالة البين. (وأن هذا صراطي مستقيماً فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) إن الناس يريدون الاخوة، ويحاولون السلام، ويسعون ليجمع أممهم نظام واحد من الحق والعدل، ولكن تخفق أعمالهم وتخيب مساعيهم بما أستقر في أنفسهم، من الأثرة والهوى، وتمكن فيها من العصبية والجور. وقد رأينا هيئة الأمم تتكلم باسم الامم، وتتحدث عن الحق والعدل والاخوة والسلام حتى إذا امتحنها الحادثات القضايا، رأينا الهواء تنأى بهم هن الحق والعدل، والتبعد عنهم عن الاخوة والسلام. وشهدنا المنافع والشهوات تسخرهم للباطل، وتغريهم بالظلم. فعرفنا أنهم أهلاً للأمانة التي حملوها، وأن دون ما يبتغون من السلام، ولكنهم حرموا العدل والإيمان. إن البشر لا يجتمعون على الأهواء المختلفة، ولا يأتلفون الشهوات المتفرقة، فلا مناص لهم - إن أرادوا السعادة يحكموا العدل في الأهواء والشهوات ليجمعهم على ويشملهم بقانون، ويربط بينهم بالحق، ويحكم بينهم إلا ولن يستطيعوا حتى تغلب الروح المادة في أنفسهم وتنتصر القوانين على الجزيئات في معيشتهم، قوانين والعدل والخير. ولن يبلغوا هذا المستوى إلا بإيمان ينير النفوس ويرفعها ويعظمها. . .

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام