مجلة الرسالة/العدد 838/حديث الصيام

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 838/حديث الصيام

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 07 - 1949



عدالة قاض

للأستاذ محمد رجب البيومي

(مهداة إلى أستاذي الأديب الشاعر الرواية أحمد شفيع السيد)

- 1 -

كلفت أخيراً بالبحث في تاريخ القضاء الإسلامي فشاهدت صفحات لامعة تغري بالتتبع والاستقصاء، ووقفت على جهود محمودة لنخبة ممتازة من رجال الحق وأنصار العدالة، فتعجبت كيف لا تُجمع هذه الدرر الوضيئة في عقد نضيد يكون موضعاً للمفاخرة والمباهاة!!

وتحن لا نستغرب إذ نجد رجال القضاء في عصور الإسلام الزاهية على جانب كبير من التحرر والدقة، فقد تمكنت تعاليم الإسلام الخالدة من نفوسهم فعرفوا الله حق معرفة، وقرءوا الكتاب والحديث ودرسوا مسائل القياس وقوانين النظر. هذا إلى ما يشرق في قلب المؤمن التقي من نور يهديه إلى الحق مهما تكاثف الظلام!!

ومن هؤلاء الأئمة الأفذاذ القاضي أبو جعفر أحمد بن اسحق أبن البهلول التنوخي الأنباري. وقد أجمع الذين كتبوا عنه على سلامة استنباط وصحة توجهه، وصدق تعليله. وأنت تجدهم يصفونه - في إسهاب زائد - بالبلاغة العالية إذا خطب أو ترسل كما ينقلون شذرات ثمينة من شعره تُنبئ عن عاطفة وذوق، ويجعلونه حجة في التفسير والحديث والرواية والإسناد. أما تبحره في الفقه على مذهب أهل القياس فقد بوّأه منصة القضاء أكثر حياته التي زادت على الثمانين. وإذا اجتمع لفاضل من الناس كلُّ هذه المميزات الرفيعة، فماذا ينقصه من الشمائل والصفات؟!

على أننا لا نكبر الرجل لعلمه وحده، فكثير من الأئمة في القديم والحديث قد جاوزوه في التحصيل والدراية، ولكننا ننظر بكثير من الإجلال والإكبار إلى صرامته في الحق دون مبالاة، وهجومه على الباطل في غير هوادة، مهما جر عليه ذلك من بلاء وعنت. وناهيك بمن يفاجئ رؤساء وصدور الدولة في عهد بما لا يطيق المؤمن الورع صبراً عليه من عن الحق ونكوص عن الجادة، وولوع في البهتان!!

وهاأنذا أقدم للقارئ الكريم موقفين متشابهين له في نصرة الحق، راجياً أن يكون أسوة حسنة، ومثالا يحتذيه الناس.

- 2 -

نحن في أوائل القرن الرابع الهجري وقد انحدرت الدولة العباسية من أوجها السابق إلى وهدة سحيقة سقطت فيها هيبة الخلفاء والأمراء، وتنازع الوزراء وأعيان الدولة على الحكم شر تنازع وأبشعه، فكان هم كلُّ وزير أن ينكل بمن سبقه، فيخلق له الاتهامات الخطيرة التي تطيح بحياته ليأمن على منصبه وجاهه فلا يجد المنافس العنيد. وقد كان حامد بن العباس وزير الخليفة المقتدر بالله يضيق ذرعاً بسلفة الوزير أبي الحسن بن الفرات.

فحاك له من خياله الآثم أفظع تهمة يمكن أن توجه إلى إنسان حيث اختلى بالخليفة، وأخبره أنه عثر على وثائق هامة تثبت اتصال ابن الفرات ببعض العلويين المطالبين بالخلافة، وأن الحزم يوجب أخذه بالشدة لتجري الأمور في وضعنا الصحيح. وقد لهتم الخليفة المقتدر بالأمر، فعقد لفوره مجلساً برئاسة لمحاكمة الوزير السابق، وقد أحضر فيه على بن عيسى بن إسحق بن البهلول وأبا عمر محمد بن يوسف. وجئ بابن الفرات مخفوراً إلى المحاكمة حيث وقف غريمة الوزير حامد بن أمام الخليفة يبسط التهمة الخطيرة، ويبين مغبتها الجريئة، ثم اتجه إلى الباب فجأة وصاح بأحد الحجاب: أدخل الجندي في الحال!

فدخل جندي مديد القامة، مكتمل الصحة، فاتجه حامد إلى المقتدر وقال: لقد ضبط هذا الجندي قادماً من مدينة (أردبيل) ومعه كتب خاصة من لأبن الفرات إلى ابن أبي الساج يطلب فيها معاونه الداعي العلوي وتجهيزه للغد إلى بغداد، حيث يستقبله ابن الفرات فيتعاونان معاً على تقويض الخلافة العباسية، وإنهائها إلى العلويين!!

ثم التفت الوزير إلى الجندي وقال له: قل ما سبق أن اعترفت به لدي فقال الجندي: لقد ترددت بضع مرات على ابن أبي الساج في أردبيل أحمل الرسائل المتنوعة من ابن أبى الفرات جاهلا عاقبتها الخطيرة، فهو المسئول عنها وحده، وما أنا غير حامل فدم يتكسب بالمسير والتجول.

دهش الخليفة من هذا الاعتراف الجرئ، وطار شرر الغصب من عينه، وأخذ يصوب نظراته المحرقة إلى أبي الفرات وهو يتملل في مكانه ممتقع الوجه منقبض الأسارير!

ثم التفت المقتدر إلى القاضي أبي عمر فسأله: ما عندك في ذلك يا أبا عمر؟! فقال في غير روية: لقد أتى ابن الفرات أمراً تخر له الجبال، وللخليفة - أيده الله - أن ينزل به ما شاء من العقاب!. .

فتألق وجه الوزير بالبشر وظن أن المحاكمة ستنتهي على ما يريده من البطش بصاحبه، وجعل يرنح عطفه في نشوة الظافر المنتصر ولكنه رأى الخليفة يتجه إلى بن أسحق فسأله: وما عندك في ذلك يا أبا جعفر؟ فيقول القاضي: لا بد من مناقشة الجندي، فهل يأذن الخليفة بذلك؟ فيجيبه إلى طلبة، ثم تدو هذه الأسئلة بين القاضي والجندي.

القاضي - تدعي أنك رسول ابن الفرات ابن أبي الساج في أردبيل؟

الجندي - نعم رأيتها ودخلها عدة مرات.

- صف لي أردبيل، أعليها سور أم لا؟

فسكت الجندي.

قال القاضي: وما صفة باب الإمارة الذي دخلت منه؟ أحديد أم خشب؟

فسكت الجندي أيضاً.

قال القاضي: ومن هو كاتب ابن أبي الساج الذي ذهبت إليه؟ ما اسمه؟ ما كنيته؟ ما لقبه؟

فبهت الجندي، ولم يرد بشيء.

قال القاضي: وأين الكتب التي كانت معك من أبن أبي الساج لابن الفرات؟

فقال الجندي متلجلجاً مضطرباً: رميتها في البحر حين وقعت في أيدي الجنود.

فاتجه القاضي إلى الخليفة وقال: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، وقد صح عندي أن هذا الجندي جاهل متكسب مدسوس على ابن الفرات.

فقال علي بن عيسى في حماسة مشتعلة: قد قلت ذلك مراراً للوزير حامد بن العباس فلم يقبل قولي، وأرى أن يهدد هذا الجندي بالضرب حتى يقر بالواقع الصريح!

أمر الخليفة بإحضار من يضرب الجندي في المجلس، فما كان السوط يلهب جسمه حتى صار: كذبتُ وغدرت، وضمنت لي الضمانات. والله ما رأيت أردبيل، ولا حملت كتباً إليها طيلة الحياة!

وهنا أمر الخليفة بحبس الجندي وتعذيبه. وكاد يغشي على الوزير المختلق من الهم والانكسار، وانتصر الحق على الباطل بصرامة القاضي النزيه أبى جعفر أحمد بن إسحاق البهلول!

- 3 -

كرت الأعوام تلو الأعوام، فتغير الخليفة المقتدر على وزيره حامد بن العباس فأقاله من منصبه مخفوراً، وأسند الوزارة إلى المتهم السابق أبي الحسن بن الفرات، وتلك الأيام نداولها بين الناس.

ولقد سعى الوزير الجديد - لأول عهده بالرئاسة - إلى قتل غريمه السابق فشفى لواعج صدره، واستراح من ناحيته، ثم دار بذهنه فيمن حوله من المقربين لدى الخليفة، فرأى أن الوزير الأسبق علي بن عيسى لا يزال متمتعاً بالحياة، وقد يتم صفاؤه مع الخليفة في وقت من الأوقات فيعيده إلى الحكم رامياً يأبى الحسن إلى غياهب السجن، ومن ثم أخذ الوزير يدبر لعلي مكيدة تردبه مع أنه كان من أنصاره المتحمسين يوم حوكم في التهمة الخطيرة، ولكن يالضيعة الوفاء!

رأى ابن الفرات - لانحطاط نفسه - أن يقتدي بسلفه السابق في الاختلاق والوقيعة، فاتجه إلى الخليفة المقتدر وأفهمه أن علي بن عيسى على اتصال بالقرامطة أعداء الدولة، وقد أرسل لهم في مدة وزارته بعض المواد الحربية التي يحظر إرسالها إلى العدو كما أنه لا يعترف بتفكيرهم وخروجهم عن مبادئ الإسلام!

أهتم الخليفة بالوقيعة، وأصدر أمره بمحاكمة علي، على أن يسمع بأذنه ما يدور المحاكمة من وراء حجاب، وقد تم الأمر في أسرع من البرق وشكلت لجنة المحاكمة برئاسة الوزير، وحضر القاضيان السابقان في المحاكمة الأولى: أبو عمر محمد بن يوسف وأبو جعفر أحمد بن إسحاق البهلول.

أفتتح الرئيس الجلسة، وسيق علي بن عيسى إلى المحاكمة وبدأ الوزير فأسرع بإحضار رجل يدعى (ابن قليجة) وأذن له في الكلام فقال:

لقد أرسلني علي بن عيسى إلى القرامطة مبتدئاً، فكاتبوه يلتمسون منه المساحي والطلق وعدة حوائج فأنفذها إليهم، ومعي خطابه الذي بعث به في هذا الشأن، ثم قرأ الخطاب فُوجد خالياً من تكفيرهم وسبهم كما ينبغي أن يكون في نظر ابن الفرات.

وشاء الرئيس أن يلخص الاتهام في نقط مركزة محدودة، فصاح في وجه علي، والمقتدر يسمع من وراء حجاب.

تقول إن القرامطة مسلمون والإجماع قد وقع على كفرهم، فهل أهل ردة لا يصومون ولا يصلون، وتبعث لهم الأدوات الحربية وهم أعداء الخلافة ومبعث الفساد والشقاق!

قال علي: أردت بذلك المصلحة وإعادتهم إلى الطاعة، دون أن تراق الدماء.

قال الرئيس: ويحك لقد أقررت بما لو أقر به إمام لما وسع الناس طاعته، فكيف يجوز لك التعاون مع أهل الفساد؟!

ثم التفت إلى القاضي أبي عمر فقال له: ما عندك في أمر علي؟ فأفحم ولم ينطق بحرف. فاتجه إلى أبي جعفر وسأله ما عندك يا أحمد ابن أسحاق؟!

قال أحمد: لقد صح عندي أن علياً افتدى بكتابه إلى القرامطة ثلاثة آلاف رجل من المسلمين كانوا مستعبدين فرجعوا إلى أوطانهم أحراراً، فإذا فعل إنسان ذلك على سبيل المغالطة للعدو، فلا لوم عليه بل يستحق أطيب الثناء.

تجهم وجه ابن الفرات، وسأل القاضي: ما تقول فيما أقر به علي من إسلام القرامطة وهم أهل طغيان.

قال القاضي: إنهم كاتبوه بحمد الله والصلاة على رسوله فلم يصح عنده كفرهم، فهم لا ينازعون في الإسلام ولكن ينازعون في الإمامة فقط، ومن نازع فيها فهو غير كافر عند الأئمة الأعلام دهش الوزير من الرد المفحم، ثم أستأنف أسئلته فقال:

- ما رأيك في الأدوات الحربية التي أرسلها إلى الأعداء، أكان ينوي بذلك تقويتهم على الشغب والفساد؟!

- هو لم يعترف بذلك فلا تؤاخذه به.

- كيف نصدقه مع أن رسوله وثقته ابن قليجة قد قال إنه أرسل لهم المعدات!

- إذا قال رسوله ذلك فهو مدع وعليه البينة!

- كيف يكون مدعياً وهو ثقته الذي أستأمنه على حمل الكتب والرسائل؟ - إن علياً قد استوثق به في حمل الكتب، فلا يقبل قوله في الأدوات الحربية بحال من الأحوال.

- أأنت وكيله حتى تحتج عنه أم أنت حاكم وقاض؟

- لست وكيله، ولكني أقول الحق كما قلته فيك يوم أراد حامد بن العباس أن يتهمك أمام الخليفة بما هو أعظم من هذه التهمة، فهل كنت وكيلك حينذاك؟

بهت الوزير، وانكسر انسكاراً طأطأ رأسه إلى الغبراء، وانتصر الحق مرة ثانية على يد أحمد بن إسحاق.

- 4 -

وبعد فقد كان الورع والصلاح ديدن قضاة السلف الصالح في صدر الإسلام، فكانوا يتحرزون ويدققون، مقدرين عظم المسئولية وفداحة التبعة، ومهما قارنت هؤلاء الأتقياء بأعلام القضاء الحديث في الشرق والغرب، فهم الراجحون الفائزون، حيث كانوا يبتغون وجه الله وحده، فأنزلهم منازل الصالحين، وفازوا بأعظم الدرجات!

تبينت أن لا دار من بعد عالج ... تسر وأن لا خلة غير زينب.

(الكفر الجديد)

محمد رجب البيومي