مجلة الرسالة/العدد 836/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 836/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 07 - 1949



الطفل الضال

للكاتب الهندي ملك راج أناند

ترجمة الأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب

كان ذلك اليوم مهرجان الربيع، وقد خرج الناس مبتهجين في حلل قشيبة، وازدحمت بهم الطرقات، يسيرون وكأنهم حشد من الأرانب المتعددة الألوان اندفعت خارجة من أجحارها. وأغرقّتهم الشمس في بحار أشعتها العسجدية، أثناء سيرهم قاصدين السوق. فمشى البعض على قدميه، وامتطى البعض صهوة جواده، وجلس البعض الآخر تحمله مختلف المركبات.

وهرول صبي صغير، مفعم بالنشاط والبشر، وكأنه ذلك الصباح المشرق البسام يرحب بالناس في حرارة ويدعوهم بصدر رحب إلى ارتياد الحقول بأزهارها وأغأنيها.

وناداه والداه (هلم يا بني، هلم) وقد تباطأ خلفهما. كانت قد جذبته رؤية الدمى القائمة في الحوانيت المصطفة على جانبي الطريق. وأسرع الصبي الخطى صوب والديه. وقد لبت قدماه نداءيها ولما تزل عيناه تتطلعان إلى الدمى وهي تبتعد عن ناظريه. وعندما أقبل إلى حيث وقفا ينتظرانه لم يستطع كبت رغبة فؤاده على الرغم من مشاهدته نظرات الرفض الباردة التي كانت تبدو في أعينهما، والتي كأن معتاداً رؤيتها في توسل (أريد تلك الدمية).

ونظر إليه والده نظرة صارمة بعينين متقدتين، وأولته والدته - وقد ذاب فؤادها بهجة ذلك اليوم - نظرة من العطف، ثم ناولته أصابعها ليمسك به وهي تقول (أنتبه أمامك يا بني).

وما كد ضيق الطفل - الذي أنتابه لعدم تحقيق رغبته - يخمد في الزفرة الحارة المتصاعدة مع أنفاسه وهو ينادي والدته بصوت متقطع، حتى امتلأت عيناه الشفافتان بهجة ما بدا أمامه. كانوا قد تركوا الطريق وغباره، ومشوا في حركة التفاف صوب الشمال، ثم سلكوا طريقاً داخل حقل مزدهر ينبتان الخردل الباهت وكأنه الذهب السائل، أنتشر أميالاً وكأنه نهر من الضوء الأصفر يتماوج مع الريح، وتجري أمواجه لتصب في محيط الضوء اللجيني للأفق البعيد. وقامت الديار على جوانب الحقل بجدرانها الطينيه، وقد تعالت منها أصوات قطانها وصفيرها وصخبهم وهمهمتهم، ترتفع صوب قبة السماء الزرقاء وكانه صوت ضحكة (سيفا) الجنونية.

ورنا الطفل إلى والديه وقد غمرته البهجة والإعجاب بتلك الغابة الشاسعة. وبدا له كأنما أشرقت السعادة على محياهما، فترك الطريق، واخترق الحقل، يعدو ويطفر وكأنه المهر.

كانت جموع من اليعاسيب تطن بأجنحتها الشفافة الأرجوانية وتترقب تحليق نحلة سوداء منفردة أو فراشة تبحث عن رحيق شذى من أعماق الزهور. وتبعها الطفل بناظريه، وحاول أن يمسك أحدها وقد طوى جناحيه. ولكن سرعان ما فردهما وحام في الهواء. وقامت نحلة سوداء جريئة باستهوائه بطنينها حول أذنيه حتى تتجنب القبض عليها، أن تستقر على شفتيه لولا أن نبهته والدته قائلة (هلم يا بني، هلم، تعال إلى الطريق).

وقصد إلى والديه مبتهجاً، وسار معهما جنباً إلى جنب. ثم إذا به يتركهما وقد جذبته رؤية الحشرات والديدان تسعى على طول الطريق، وقد خرجت من مخابئها لتتمتع بأشعة الشمس.

وناداه والداه وقد جلسا على حافة بئر، يتفيآن ظل دغل، فجرى صوبهما، كانت شجرة التين قد بسطت أذرعتها القوية على الأهليج المزدهر وغيره من النباتات، وألقت بظلها على أحواض الزهور الذهبية والقرمزية، وكأنها جدة بسطت ذيلها على أحفادها الصغار. وقامت البراعم بعبادة الشمس وقد كشفت قليلاً عن أوراقها في حياء. واختلط العبيق الشذي بحبوب لقاحها بالنسيم العليل يهب بين الفينة والفينة.

وتساقط فيض من الزهور الصغيرة على الطفل عندما أتى الدغل، فنسي والديه وأخذ يجمع بين يديه أوراقها المنهملة كالمطر. ولكن. . ما هذا!؟ لقد سمع هديل الحمام، فأسرع إلى الخطى صوب والديه هاتفاً (الحمامة! الحمامة!) وسقطت أوراق الزهور العديدة من يديه المتخاذلتين، وبدا على وجه والديه نظرات الاستغراب والفضول وهتفا يناديان الطفل (تعال يا بني، تعال).

كان الصبي قد ذهب يعدو في طفرات جنونية حول الشجرة فانضموا إليه، ثم سلكوا الطريق الضيق المنحني الذي يؤدي إلى السوق. واستطاع الطفل عند وصوله أن يشاهد العديد من الطرق تعج بالناس القادمين إليه.

ونادى بائع على ما يعرضه من الحلوى، وهو قابع في ركن من أركان السوق، واحتشد الناس حوله وقد قامت تحت أقدامه أكوام منتظمة من الحلوى الملونة المزكرشة بأوراق مذهبة ومفضضة وحدق الطفل فيها وقد اتسعت عيناه وسال لعابه من رؤيته حلواه المفضلة (البوفي)، وتمتم في بطأ قائلاً (أريد البوفي). ولكنه كان يدري أن هذا الطلب لن يلقى أذناً صاغية، فقد يقول عنه والده أنه شره ولذلك أبتعد دون أن ينتظر أية إجابة.

ونادى بائع الزهر على باقته المختلفة، وبدا الطفل كأنه جذب بالشذى الدائم الذي أتى إليه سابحاً على أجنحة النسيم الواهن. فذهب صوب السلة حيث ترقد باقات الزهور وتمتم قائلاً: (أريد تلك الباقة). ولكنه كان يعرف جيداً أن والديه سيرفضان شراءها، فقد يقولون أنها زهور تافهة، ولذلك تحرك مبتعداً قبل أن ينتظر أجابتهما.

وأمسك رجل بعمود خشبي تدلت منه بالونات تتطايح بألوانها المتعددة، فمنها الأصفر والأحمر والأرجواني، ودهش الطفل من جمال ألوانها وكأنها قوس قرح. وغمرته رغبة جارفة في امتلاكها جميعاً. ولكنه كان يدرك تماماً أن والديه لن يبتاعاها له، فسيقولان أنه أكبر من أن يلعب بمثل هذه الألعاب، ولذلك سار مبتعداً عنها.

ووقف مشعوذ يصفر بمزماره لأفعى تتلوى في سلة، وقد أرتفع رأسها في انحناءة لطيفة وكأنها عنق إوزة. وانسابت الموسيقى إلى أذنيه الخفيفتين وكأنها خرير مسقط ماء صغير. وكاد الصبي أن يتجه إلى والديه لولا أنه كأن واثقاً أن والديه سيمنعانه عن سماع مثل هذه الموسيقى الفظة، فتابع سيره مبتعداً.

وكانت هناك عجلة دائرة في أبان حركتها محملة بالرجال والنساء والأطفال وهي تتحرك بهم حركة سريعة. وشاهدهم يتصايحون في ضحكات جزلة، وراقبهم يدورون ويدورون وقد علت شفتيه ابتسامة حياء زاهية. وعينيه تتماوجان مع حركة العجلة، وفغر فاه دهشته وقد بدأت العجلة تهدئ من سرعتها تدريجياً. ووقف الطفل مذهولا وإصبعه في فمه يشاهدها وهي تقف. وفي هذه المرة - وقبل أن ينطفئ شوقه الشديد بذلك الإصرار الأبدي على رفض كل طلب له - قال في جرأة (أريد أن أركب العجلة الدائرة، أرجو يا أبتي، وأنت ياأماه) فلم يسمع أي جواب وتلفت ينظر إلى والديه فلم يجد لهما أثراً.

وانفلتت من حنجرته الجافة صيحة مدوية عميقة، وفجأة أندفع يجري وهو يصيح في رعب (أبي، أمي) وانهملت الدموع من عينيه، غزيرة جارفة. واختلج وجهه الممتقع خوفاً، وعدا وقد تملكه الفزع، من ناحية إلى أخرى، في شتى الاتجاهات، دون أن يدري أين يذهب. ونشج بالبكاء وهو ينادي (أماه، أبتاه) وقد تبللت حنجرته بما أبتلعه من لعاب، وانحلت عمامته الصفراء، وثقل جسمه الخفيف، وصار ككتلة الرصاص، بعدما ابتلت ملابسه بما تصبب من جسمه من العرق وما أختلط بها من غبار.

وبعد أن هرول هنا وهناك مقهوراً على أمره، وقد تحول صوته إلى عويل. وشاهد عن بعد، خلال عينيه وقد علتهما طبقتان شفافتان من الدمع، رجالا ونساء راقدين على العشب الأخضر، يتحدثون ويتسامرون. وحدق فيهم بين رقع ملابسهم الصفراء اللامعة، لعله يشاهد أثراً لوالدته أو والديه بين أولئك الناس، وقد بدا المرح على ملامحهم، يتحدثون ويضحكون لمجرد الضحك والحديث وجرى لفي حرارة مرة أخرى، وقصة حرم معبد احتشد فيه الناس. كانت كل بقعة من الأرض تموج بالناس، وعدا بين أرجلهم، وكانت صيحاته الصغيرة تنادي لهفة (أماه، أبتاه) وازردادت كثافة الحشد قرب المعبد. كان الناس يتدافعون بالمناكب، رجال ثقلاء بأعين لامعة من الغدر وأكتاف ثقيلة. وجاهد الطفل يشق طريقه بين أقدامهم، ولكن كانوا يدفعونه هنا وهناك بمخالبهم المتوحشة. وكادوا أن يطئوه بأقدامهم لولا أنه صرخ يقول في صوت جوهري (أبتاه، أماه) فسمعه رجل منهم وانحنى في مشقة ورفعه بين ذراعيه.

وسأله الرجل وهو ينأى به بعيداً عن هذه الكتل المتراصة (كيف جئت إلى هنا يا بني؟ أبن من أنت؟).

وبكي الطفل في مرارة زادت عن ذي قبل وصاح قائلاً (أريد أبي، أريد أمي).

وحاول الرجل أن يهدئ من روعه فأخذه إلى العجلة الطائرة وقال له وهو يقترب منها (ألا تود أن تجلس على أحد جياد العجلة.؟)

وخرجت من حنجرة الطفل آلاف النشجات المدوية، ولم يجب إلا بقوله صائحاً (أريد أمي، أريد أبي).

واتجه الرجل صوب المكان الذي لا يزال المشعوذ يصفر فيه بمزماره إلى الكوبرا الراقصة وقال في رجاء (استمع إلى هذه الموسيقى الساحرة يا بني) ولكن الطفل صم أذنيه وصاح (أريد أمي، أريد أبي).

وحمله الرجل إلى مدخل المدينة، وكان لا يزال يشفق على الطفل ويرغب في الترفيه عنه، ووقف أمام بائع الزهور وقال له (أنظر، ألا تود أن تشم شذى هذه الزهور اللطيفة يا بني؟ ألا تريد باقة تضعها حول عنقك؟).

وأبعد الطفل أنفه عن السلة وردد نشيجه قائلاً (أريد أبي، أريد أمي).

وظن الرجل أنه قد يبتهج الطفل وتذهب عنه كآبته لو أهداه قطعة من الحلوى، فأخذه إلى البائع وسأله (ما الذي تختاره من هذه الحلوى يا بني؟).

ونحى الصبي وجهه عنها وبكى قائلاً (أريد أبي، أريد أمي)

محمد فتحي عبد الوهاب