مجلة الرسالة/العدد 834/تعقيبات
مجلة الرسالة/العدد 834/تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
(كلهن نساء) للأديب اللبناني سهيل إدريس:
لصاحب هذه المجموعة القصصية مجموعتان أخريان صدرا من قبل وكتبت عنهما في مكان آخر غير (الرسالة)؛ ومعنى هذا أنني تتبعت هذا القصاص اللبناني الشاب منذ أن كتب أول قصة حتى فرغ من آخر قصة. . . هناك تطور لا شك فيه، فالوثبة الأولى كانت وثبة الأديب الذي يعالج فن القصة لأول مرة: جناح يصعد به نحو القمة، وجناح يهبط به إلى السفح، وبين الصعود والهبوط تلمح موهبة أصيلة ينقصها الزمن والمران لتنضج وتكتمل وهكذا كان سهيل إدريس في (أشواق).
ومضت فترة أخرى أخرج بعدها مجموعته القصصية الثانية (نيران وثلوج). . . في هذه الوثبة الجديدة لمست أن القصاص الشاب قد قطع مرحلة بعد بها عن نقطة البدء حتى أوشك أن أن يبلغ منتصف الطريق. لقد كان خط السير في المجموعة الأولى بكثرة تعاريجه، يشعرك أن المؤلف لا يصل إلى نهاية الشوط إلا وهو مكدود فاتر الأنفاس! أما في هذه المجموعة الثانية فقد استطاع أن يبصر المسالك التي تدفع به في خط مستقيم تقل فيه الدروب والمنحنيات. . . وكانت محاولة ثالثة تبلورت فيها القطرات الأولى في بوتقة التجربة النفسية والفنية، وإذا (كلهن نساء) دليل مادي حي على أن الجهد والمثابرة جديران بخلق عمل فني مهما حوى من مآخذ فهو جدير بالتهنئة! وتبقى بعد ذلك حقيقة نسجلها قبل أن نسجل غيرها من حقائق، وهي أن سهيل إدريس كاتب قصة أدبية سواء في مجموعته الأولى أو في مجموعته الثانية أو في مجموعة الثالثة. . . هذه في رأيي ميزة كبرى؛ لأن القصة العربية القصيرة التي تطالعها في هذه الأيام قد فصلت عن هيكل الفن التعبيري الرفيع؛ لقد أخرجها القصاصون العوام من حظيرة الأدب ليلحقوها بحظيرة الربورتاجات الصحفية!
هذا هو قصاص الأمس أشت إليه في كلمات، أما قصاص اليوم فمن حقه على أن أحدد اتجاهه القصصي الجديد على ضوء هذه الخطوط الفنية: الخط الأول هو خط النزعة التحليلية التي تضحي بالحادثة في سبيل الفكرة ذات الطابع التصويري، والخط الثاني هو خط التمثيل للواقع المحس عن طريق النماذج النفسية والبشرية، والخط الثالث هو خط تحديد الزاوية التي تلائم بين الفكرة التصويرية والنموذج النفسي، والخط الرابع هو خط امتداد نقط الارتكاز الفنية في ثنايا العرض، والخط الخامس هو خط التقاء العناصر الرئيسية التي تكون الهيكل الأخير للقصة الكاملة. . . هذه الخطوط التي تبرز التصميم الفني العام للقصة، أو هذه الخيوط التي تنسج الثوب الفني العام للقصة، قد توفرت منها أشياء في (أشواق)، وتوفرت منها أشياء أخرى في (نيران وثلوج)، وتوفر منها الكثير في (كلهن نساء). هناك في (عودة الماضي) و (أنانية) و (الخطيئة الطاهرة) و (لعنة الحب) و (القصاص) و (دموع في الكونتننتال)!. . . إن هذا الترتيب الذي نراه هنا قد أمته على أساس من الصدق الفني أولاً، وعلى أساس من الصدق الشعوري ثانياً، وأخيراً على مدار اللمعات الفكرية والنفسية فيما حدثتك عنه من خطوط القصة.
بعد هذا أقدم إليك قصة من قصص هذه المجموعة هي (عودة الماضي). . . هذه القصة في رأيي من القصص التي تعرض لك موهبة الأستاذ إدريس خير عرض، وتصور ملكته القاصة أكمل تصوير، وتطلعك على نموذج قصصي ناضج يشير إلى فنه ويدل عليه. إنها قصة الحب بين فتى وفتاة، الحب القوي الجارف الذي يجمع في النهاية بين قلبين تحت ظل وريف من الرباط المقدس وتمضي الأيام وتصبح الفتاة امرأة ويصبح الفتى رجلاً ويتخطى كلاهما دور الشباب! ويبقى الحب بين الزوجين ما بقى الوفاء المتبادل والبيت الآمن والأبناء الأحباء. ولكن القدر يضرب ضربته ليتصدع البناء ويتفرق الشمل ويتناثر عقد السعادة حبات من دموع! ستة عشر عاماً ذاق فيها العش الجميل الهادئ ما ذاق من ألوان البهجة وضروب النعيم، ثم ختمت أيامه بأبشع ما يتلقاه الأحياء من معاني الألم والحسرة والعذاب. . . لقد عصفت ريح الغواية بوفاء الزوجة المخلصة فنبذت منطق العقل وانقادت لمنطق العاطفة، وفي سبيل حبها الجديد نسيت الزوج والبيت والولد، وهذا الماضي الأثير بكل ما فيه من ذكريات! ولم يكن الشيطان الذي طرق أبواب الجنة غير أخ تجمع بينه وبين أخيه رابطة الدم وينتهي الأمر بالزوجة الوفية إلى أن تمل السير في طريق الشباب الآفل لتنحرف إلى طريق الشباب المقيم، ولا بد من جمرة تشع تحت الرماد لتلهب الضمير الذي مات. . وفي رسالة يتلقاها الزوج من شريكة حياته تقع عيناه على قصة حبه الشهيد؛ لقد مضت تستعرض فصول القصة كما وقعت على مسرح الحياة: مبتدئة بدور الزوج، معرجة على دور الزوجة، منتهية بدور الحبيب. ولم تنس الهاجرة وهي في غمرة الوفاء للذكرى الباقية أن تطلب الصفح والمغفرة!
هذا هو الإطار الخارجي لقصة الأستاذ إدريس، إنني لو اقتصرت عليه لبدت لك القصة هيكلاً عظمياً عارياً من اللحم والدم والروح. . . إن الحياة تكمن هناك، في تلك الصورة النفسية التي تعرض طبيعة امرأة؛ امرأة يضع المؤلف بين يديك مفتاح شخصيتها وكل شخصية تمثل المرأة الخالدة! وهذه هي الصورة التي حملتها رسالة الزوجة إلى الزوج، أقدمها إليك منتزعة من معرض السطور: (لقد حمل نايف إلى جونا الاضطراب والخوف والعذاب، ولكنه مع ذلك هز مني الأعماق أعنف الهز، وكشف أمام عيني دنيا جديدة تزخر بالمتناقضات وتمتلئ بالمفارقات. ولست أدري يا صبري كيف أعبر لك عن الأثر الذي تركه أخوك في نفس ساعة وصوله!). . . (وسرعان ما أسبلت جفنيَّ، كأنما خشيت أن تنفر من عيني صور كثيرة، جلية، تعيد إلى الماضي بحذافيره فتبعث في نفسي فيضاً غنياً من المشاعر العذبة. أجل! إن الماضي تدفق ساعتذاك يا صبري كأنه نبع جار يحمل في ثنايا أمواجه ذكريات وذكريات). . . (وفتحت عيني مرة أخرى، لا يا صبري! لم يكن نايف يشبهك، وإنما كان هو نفسك. . . أجل! كان أنت في شبابك، يوم عرفتك للمرة الأولى. لقد رجع في نايف ماضي شبابك يا صبري، شبابك ذاك الذي أغرمت به قبل أن يولي وعشقته يوماً حتى الجنون!). . . (لا يا صبري! أنا لم أخنك! إنني مقيمة على شدة إخلاصي لك، إنني أحبك في نايف، وسأظل أحبك إلى الأبد. أراك تود أن تسألني: وأولادنا؟ وحاضرنا؟ ومستقبلنا؟. . . لا تكن ساذجاً يا عزيزي! أما أدركت أنه لم يبق لي شيء بعد، وأنه لا حاضر عندي ولا مستقبل غير هذا الماضي الذي يعود؟!).
أرأيت كيف حلت الفكرة الناضجة من جسم القصة محل الروح، وكيف سما بها النموذج النفسي النابض إلى الأوج؟. . . هكذا تخلق القصة، وهكذا تحيا، وهكذا تتنفس، وهكذا يكتب لها البقاء! إنك تستطيع أن تجد في هذه المجموعة القصصية نماذج أخرى لا أقول إنها تبلغ هذا المستوى الممتاز، ولكنها تقترب منه وتنبع من نفس المنبع وتدور في نفس الأفق.
وتسألني بعد هذا كله ماذا ينقص سهيل إدريس ككاتب قصة؟. . إنني أعود إلى ما سبق أن كتبته عنه في مكان آخر غير (الرسالة)، أعود إليه لأحذف منه فقرات وأقتطف فقرات، تبعاً لما جد من أسباب الكمال وما بقى من أسباب القصور.
إن كل ما يؤخذ على فن الأستاذ إدريس ظاهرتان: الظاهرة الأولى هي أنه لا يكاد ينظر إلى الحياة إلا من زواياها الضيقة، تلك التي لا تتمثل الخلجات النفسية إلا في إنسان يحب وإنسانة تحب، مع أن في الحياة زوايا متعددة وألواناً لا حصر لها من المشاعر الإنسانية! أما الظاهرة الثانية فهي خلو قصصه من النماذج البشرية؛ إن سهيل إدريس لا يقدم إليك نموذجاً بشرياً واحداً يمكن أن يمثل شخصية من الشخصيات المحلية في المجتمع اللبناني الذي يعيش فيه، ومن هنا كان نقص النماذج البشرية في قصصه يفقدها عنصراً ممتازاً من عناصر التصوير الوصفي، ذلك الذي يعني برسم الملامح الخارجية للشخوص كما هي في واقع الحياة! وتسألني مرة أخرى عن حكمي الأخير على هذه المجموعة القصصية فأقول لك: إنها عمل فني جدير بالتهنئة!
(من وراء الأبد) ورسالة من شرق الأردن:
قبل أن أكتب إليك ما أريد كتابته عن قصتك الخالدة (من وراء الأبد) المنشورة في الرسالة الغراء العدد (838)، أقدم إليك تحية التقدير والثناء، تحية القلب من الأعماق إلى روحك الطهور المثالي وقلبك الخفاق، يفيض الإبداع في شجون القلب وشئون الفكر.
لقد ساقت إليك الأقدار فتاة أحلامك، فوجدت فيها الجمال الروحي الذي كنت تنشده في سماء الوهم يوم أن هبطت إليك وأنت على أرض البشر لتأخذ باقة من الزهور فأحببتها، وأنت تعرف جيداً زيارتها لأملها الدفين يوم كنت تقدم لها تلك الباقة في صباح كل ثلاثاء، لتعطر ثرى ذلك القبر. . . ثم تقدمت إلى تلك الروح بغير تردد حين وجدت أنها ضالتك المنشودة، لتملأ فراغ قلبك ودنياك. فلم كرهت ذهابها إلى القبر بعد الزواج، حتى أدى ذلك إلى القطيعة والفراق؟ أليس الحب شعوراً مقدساً قبل الزواج وبعده؟! ولماذا لم تستطع أن تملأ هذا الفراغ الموحش من قلبها (إن كان موجوداً) بعد الزواج بأحاسيسك وشعورك وأنت صاحب الأحاسيس والشعور والخيال؟!
إن الحب لا يبلغ أعلى مراتب السمو إلا بالتضحية وأنت هنا لم تضح بشعورك وقلبك في سبيل إسعادها. . . إذ الحب المثالي العميق يقضي عليك في هذه الحالة أن تقدم إليها باقة الزهور، ولو أنك؟؟؟ لتناست ذلك القبر الكئيب البغيض الرابض في صحراء الإمام، ولأصبح مع الأيام طيفاً ضئيلاً وبالتالي تمسي وأنت مسيطر على أحاسيسها ووجدانها مالكاً كل قلبها بأطيافه وأحلامه هذا إذا فرضنا جدلاً أنها مازالت تحن إلى أملها الأول، ولكنها وهبت لك قلبها وأخلصت لك الحب طيلة مدة الزواج، بدليل أنك لم تستشف من خلال شعورها أن هنالك طيفاً يملأ فراغ قلبها وتتشوق إليه بقلب مفجوع وأنت صاحب الشعور والنظرات العميقة، ولو لم تكن تلك العودة لما اكتشفت سرها الذي لم يكن إلا وفاء بعهد.
ألم تشعر أخيراً يا سيدي أنك سببت لها نكبة أخرى فوق نكبتها الأولى، وسببت لك لوعة تصرخ بين الضلوع كلما عاودتك ذكرها؟. . . أنا في انتظار جوابك.
محمد دوبلة
عمان - شرق الأردن
أود قبل كل شيء أن أشكر للأديب الفاضل هذه العاطفة الكريمة النبيلة التي أملت عليه هذه الكلمات. . . الحق أنني لم أتلق في حقيبة البريد أجمل من هذه الرسالة ولا أطرف حول قصتي (من وراء الأبد)؛ هذه القصة التي حركت مشاعر الأديب الأردني الفاضل وأثارت شجونه، حتى دفعته إلى أن ينقل إلى هذا الفيض من المشاركة الوجدانية العميقة التي عشت في أجوائها يوم أن عكست من الحياة على الورق مأساة فنان جني عليه الخيال!
لقد ظن الأديب الفاضل أن القصة قصتي الذاتية، ولعل هذا الظن قد استقر في نفسه من أن القصة كانت في رسالة. . الحق يا صديقي أنني قد نقلت القصة من حياة الناس حيث ألف القدر فصولها لا من حياتي! وصدقني إذا قلت لك إنني مازلت واقفاً على الشاطئ أرقب كل زورق حالم يمخر عباب النهر المقدس، منتظراً أن تدفع أمواج السعادة إلى شاطئ بالحلم الجميل الكبير، بالزورق الذي يمكن أن يحمل إلى أعذب أماني العمر. . وأعني بها رفيق القلب وشريك الحياة! متى تتحقق الأحلام؟ متى تتألق الأيام؟ لست أدري!!
لفتة إنسانية للأستاذ العقاد:
قرأت في (المصور) منذ أيام مقالا تحليلياً للأستاذ العقاد حول نفسية المنتحر، وقد كتب المقال بمناسبة حادث الانتحار الذي وقع في وزارة المعارف وراح ضحيته موظف بائس. . ولست أبغي من وراء هذه الكلمة أن أعقب على هذا التحليل النفسي الموفق الذي ورد في مقال الأستاذ العقاد، وإنما أحب أن أشير إلى كلمة حق تهز كل صاحب ضمير كضمير الرجل العادل وزير المعارف. كلمة حق نطق بها العقاد الإنسان حين طالب بمعاقبة المسئولين عن الحالة النفسية التي دفعت بالموظف البائس إلى التخلص من الحياة، فيما إذا ثبت بالتحقيق الدقيق أن رؤساءه قد حالوا بينه وبين حقوقه التي كان يطالب بها كانسان يحتاج إلى شيء من العطف والرعاية!
إننا نسجل هذه اللفتة الإنسانية للأستاذ العقاد، ونتوجه بها في نفس الوقت إلى معالي وزير المعارف.
أنور المعداوي