مجلة الرسالة/العدد 832/ترجمة وتحليل:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 832/ترجمة وتحليل:

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 06 - 1949



الخلود

لشاعر الحب والجمال لامرتين

ترجمة الأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

- 2 -

وما ينفك الفضول مستأثراً بلب الشاعر، فهو يريد أن يعرف كل شيء عن هذا الضيف الكريم الذي فتح عليه سجنه وحطم له قيده؛ فما الذي حمله على الهبوط من سمائه إلى الأرض، ومن دار الخلود إلى دار الفناء؟ وما هذه القدرة الخارقة التي أمسكته عن الطيران، ووقفته عن الجوَلان، ثم حبسته في هذا الكوكب الأرضي بين أجساد مخلوقة من سلالة من طين؟ وأنى يتسنى له وهو سجين أن يتصل بالبدن الذي تحللت عناصره، فأمسى رميم العظام؟ وما هذه العرى المدهشة للعقول، والصلات الخفية عن الأبصار التي تربط بينهما هذا الربط المحكم الوثيق؟

(أي قدرة ألقتك على هذه الأرض الفانية؟

أي يد غيبتك في سجن من الطين؟

وبأي عرى مدهشة، وروابط خافية،

يمسك بك الجسم كما تمسك به وأنت سجين؟

ولم يكتف لامرتين بهذه الأسئلة؛ فهو يرتقب بشوق لجوج يوم يُفصل بين الروح والبدن، يوم لا تنفع العرى والروابط مهما حفيت على الأبصار؛ وينتظر مفارقة الروح لهذه الأرض وصعوده إلى السماء حيث يجد قصراً مشيداً بدلاً من القبر الذي كان يشترك فيه مع البدن.

(متى يوم الفصل بين الروح والبدن؟

متى تغادر الأرض إلى قصرك المشيد؟

هل نسيت كل شيء؟ ألن يبعثك الزمن

من أعماق القبر إلى مجهل جديد؟. .)

وإذا انفصل الروح عن البدن وتحرر من قيوده وطار من هذه الأرض إلى السماء، وانتق من قبره إلى قصره - فكيف تكون حياته المقبلة؟ أهي مماثلة لحياته الماضية؟ أفيها متع عاجلة وشهوات زائلة، ومطامح سرعان ما تُنسى، ورغائب ما أقل ما تبقى؟ أم فيها نعيم خالد لا يُصدَّع عنه ولا يُنزف، ولا ينقطع ولا يفتر، ولا يُمل ولا يُستكره، لأنه يتدفق من عين قدسية تنبع من الذات الإلهية؟

(هل ستحيا غداً حياتك الماضية؟

أم ستتمتعْ أخيراً بنعيم السماء

دافقاً من نفس الإله عينك الجارية،

بعد أن تحررت إلى الأبد من قيود الفناء؟)

وهنا يثوب الشاعر إلى وعيه، ويصحو على نفسه، فيوقن أنه لم يمت ولم يُقبر، وأنه لم يُبعث ولم يُنشر؛ وأن نفسه جالت فأكثرت التجوال، وتخيلت فأسهبت في الخيال؛ وأن كل ما تصوره وتمثله لم يعدُ أن يكون آمالاً عذاباً كثيراً ما تراءت أمام عينيه؛ وإنما شخص له هذه الآمال ذكراه لحبيبته التي انفصلت عنه انفصال الروح عن البدن، وعرجت إلى ملكوت السماء بعد أن خلفته وراءها جسداً محطماً وأعضاء جامدة، ومشاعر خامدة؛ فكيف لا يناجي روحه الذي فارقه، ولم لا يتمنى أن يلحق به ولو بالموت والفناء؟

لا. لن يندم لامرتين على جسده إن كان فناؤه قرباناً لروحه؛ فإن أمله في لقاء المحبوبة يهوِّن عليه كل شيء، وأن هذا الأمل نفسه هو الذي جعله لا يُراع ولا يضطرب حين رأى شحوب الموت على وجه (جوليا) الجذاب كأنه صفرة ألوان الربيع بعد أن تذوي وتحول: كلاهما أمر جرت به سنة الحياة، وقضت به حكمة الوجود.

من أجل ذلك عاد يناجي روحه - وهو في الحقيقة لا يناجي غير حبيبته - بهذه الكلمة التي لا تفيض إلا من قلب نقي وسريرة طاهرة.

(بلى. . . تلك - يا نصف حياتي - آمالي العِذاب

فبها استطاعت نفسي أن تجول،

وترى بلا روْع على وجهك الجذاب

ألوان الربيع الزاهيات تحول. .)

ويؤكد هذا المعنى النبيل بأن آماله في لقاء (جوليا) ومناقلتها الحديث ومشاركتها في نعيم السماء لم تبعثه على الصبر والاحتمال فقط، وعلى الرضا بحكم القضاء فحسب، وإنما ستبعثه على الشجاعة وقت الشدة؛ فهو سيبتسم ساعة يتأرجح بين الوجود والعدم، ساعة يحتضر على فراش موته؛ ثم هو لن يأسف على صباه حين يفصم الدهر عُراه، وإنما سيبكي من فرط سروره بلقيا حبيبته منية نفسه، ونصف حياته.

(وبها ستراني أبتسم وأنا أحتضر،

بعد أن يفصم الدهر عُرى صباي

وأن دموعي من فرط السرور ستطفر

في لقائنا. . . فتتلألأ بها عيناني!)

ويستمر لامرتين في نجواه - وما أروعها من نجوى! - فيتمثل حبيبته ويجثو بين يديها مقلباً لها صفحات الماضي البهيج بذكرياته الحلوة؛ وما يفتأ يخاطبها على أنها روحه الذي انفصل عنه فيذكر هذا الروح باليوم السعيد الذي ولد فيه الحب بينهما من نظرة عاجلة تلاها حديث لطيف ومجلس عفيف، ثم جولات جميلة وسكرات نبيلة، في محراب الطبيعة حين تأخذ زخرفها وتزَّين تارة على رءوس صخورها الناتئة كأنها رقيب نشوان يرهف أذنيه ليسمع أحاديث الهوى؛ وتارة حول بحيراتها الحزينة كأنها صديق أسوان يقاسم الحبيبين ما كتبت لهما يد القضاء؛ وأحياناً على شطئانها الجُردْ وكثبانها النواعم التي تكتم السر فلا تفشيه وتحفظ العهد فلا تنساه؛ والحبيبان - في تلك الأويقات كلها - لا يحسان مرور الزمن، ولا يكترثان بالظلال التي تهوي من الجبال، ماحية القرى في أذيالها السود، فإنهما لفي نشوة، وإنهما لطائران عن هذا العالم المادي المحدود إلى عالم عرضه السموات والأرض تصفو فيه الأنفس، وتمتزج الأرواح، وتأتلف القلوب!

(كثيراً ما تستعيد الذكرى في هذا المقام السعيد

الذي وُلد فيه حبنا الخالد من نظر عجلان،

تارة على رءوس هذه الصخور الجلاميد،

وتارة حول البحيرات الحزينة على موحش الشطئان،

حيث كنت أقتحم معك الظلمات الغاشية،

طائرين - بنجوة عن العالم - على جناح الأمل المنشود وكانت الظلال - وهي من الجبال هاوية -

تمحو أمامنا القرى في طياتها السود!)

ولكن الله زين السماء الدنيا بمصابيح جعلها كمنثور اللآلي، موشية برقع الليالي. إن لها لأنواراً رخية تغشى الفضاء، وإن لأنوارها لألحاناً توقعها أنامل قدسية في الخفاء، وإن في ألحانها لسراً عجزت عن فهمه العقول؛ فربما كان رجعاً لزفزفة الرياح، أو صدى لزقزقة الأطيار، أو ترديداً لخرير الأنهار، أو تسجيلاً لسحر العشاق.

وقد اكتفى الشاعر بوصف ألحان الليل بالخفاء، وبدنوها بلا ضوضاء؛ فانطوى تحت وصفه الوجيز ما تشاء أخيلة الشعراء من سبْح في العالم المجهول.

(لكنَّ كواكب الليل بألحانها الخفية

- وهي تدنو بلا صخب ولا ضوضاء -

تغشَى الفضاء بأنوارها الرخية،

ملقيةً على كل شيء نقابها الوضاء!)

وما كان أسرع لامرتين إلى اقتناص التشبيهات المحكمة!

فلقد رأى صورة الكوكب الذي يضيء في الليل محراب الطبيعة أدنى إلى صورة المصباح الذي ينير بضوئه الخاشع جنبات المعابد بعد أن تنمحي آية النهار: وكما أن هذا المصباح يعوض لألاء الشمس عند الراهب المتبتل، فيحسب ضوءه الباهت الخاشع نوراً ساطعاً وهاجاً، لأنه يشعره بمعاني الورع والتقى والزهادة، فإن الكوكب يعوِّض النهار الأضحيان، عند العاشق الولهان، فيخلع على ضوئه الرخيّ معاني شعرية، وأسراراً علوية، إذ يوحي إليه سمراً شجياً، وحديثاً حلواً ندياً. . .

(كذلك. . . حين تشحب رويداً رويداً أشعة المساء

في معابدنا المقدسة التي تضيئها آية النهار،

يملأ المصباح - وهو يرسل خاشع الضياء -

جوانب المحراب بساطع الأنوار.)

ولعلَّ ألحان الكواكب - بلطفها وخفائها - هي التي ذكَّرت الشاعر بألحان روحه، وقتما كان هذا الروح يسكر سكرته الوديعة، وهو يتأمل مناظر الطبيعة، ويرجع البصر فيها بين السماء والأرض فينقلب إليه البصر خاسئاً وهو حسير، ثم إذا يوقظ بسكرته عيني الشاعر الحالمتين، ليطلعه على جمال الوجود، ويسبِّح معه للإله المعبود، ويبرهن له على عقيدة (الخلود).

وما يبرح لامرتين خالعاً على روحه شخص حبيبته، ليستدل في هذا الجو العاطفي على الإيمان بالله، مهاجماً من طرْف خفي الفلاسفة الأبيقوريين والماديين الذين ينفون خلود الروح.

وكأني بالشاعر - في إصاخته لصوْت الغريزة ورفضه البراهين المنطقية - يريد أن يطوي في غضون شعره مذهبه في تمثل الإيمان وتعقل معانيه. . . فليدع تلك المناقشات البيزنطية العقيمة، وتلك البراهين الجدلية السقيمة، ولينطق في نفس الإنسان لسان حاله إذا ما تأمل معبد الطبيعة القدسي، وسمع ألحان الأرض والسماء حتى استنارت بصيرته بما رأى بصره، فتجلت له حقيقة الإيمان.

ألا وإن هذه الحقيقة السامية لتسبيحه خالدة طالما تمتم بها روح الشاعر، فأيقظه من سباته، وبعثه من مرقده.

(حينئذ توقظ عينيَّ بسكرتك الوديعة

وأنت ترجع في السماء والأرض طرفك الحيران

قائلاً: (أيها الإله الباطن! معبد الطبيعة.

فإذا تأملها البصر شهدتك البصيرة في كل مكان)

(البقية في العدد القادم)

صبحي إبراهيم الصالح