مجلة الرسالة/العدد 832/أمم حائرة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 832/أمم حائرة

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 06 - 1949


7 - أمم حائرة

المرأة في هذا العصر

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية

قلت في خاتمة مقالي عن الأسرة وما أخشاه عليها: (والمرأة وقاية من هذا الشر، وطب لهذا الداء، وشفاء لهذه العلة).

وفي هذا المقال نظرات إلى المرأة في هذا العصر. وأقدم قبل حديث المرأة في عصرنا هذا ثلاث مقدمات:

الأولى أنه لا يمكن أن تقع خصومة بين الرجال والنساء، فيكون الرجال فريقاً والنساء فريقاً، ويتحزب هؤلاء بعضهم لبعض، وبتحزب أولئك بعضهن لبعض، وينحاز الذُّكْران كلهم إلى جانب، والإناث كلهن إلى جانب؛ إلا أن تكون الخصومة ضرباً من المزاح وأسلوباً من الفكاهة.

ذلك بأن الرجل أبو المرأة وابنها وأخوها، وأن المرأة أم الرجل وبنته وأخته. وهيهات أن تثور عصبية بين هذه الأواصر، أو يقطع تحزبٌ هذا الوشائج، أو يفرّق خلاف ما جمعه الله، أو يفصل نزاع ما وصله الخالق.

فالخصومة في كل أمور المرأة واقعة بين رجال ورجال، ونساء ونساء، يقال الرأي فينصره نساء ورجال، ويخذله نساء ورجال، وتُدَّعى الدعوة فيستجيب لها رجال ونساء، ويردَّها كذلك رجال ونساء.

فالرجال قبل النساء طَلبوا بعض ما يُطلب للمرأة في هذا الزمان، والنساء قبل الرجال عارضوا بعض ما يُطلب للمرأة في هذا العصر.

وأحسب الرجال المنتصرين لمطالب للمرأة أكثر من النساء المنتصرات لها، كما أحسب النساء النافرات من مطالب المرأة أكثر من الرجال النافرين منها.

ولو تعرفنا آراء النساء وحدهن في كل ما يختلف فيه الرأي من شئون المرأة في عصرنا هذا لكانت الكثرة الكاثرة، والغلَبة الغالبة، مخالفة لما ينادَي به من حقوق المرأة أو مطالبه ودعاويها.

ومن كان في ريبة من هذا فليجربّه، ومَن أكبر هذه الدعوى فليستَفتِ النساء فيها. . . هذه المقدمة الأولى.

والمقدمة الثانية، وهي لا جرم، متصلة بالأولى:

إن المخالفين فيما يُدَّعى للمرأة في زماننا، ويُطلب باسمها في أيامنا، لا يخالفون استخفافاً بشأن المرأة، وازدراء لها، واحتقاراً لمكانتها، وإنكاراً لفضلها، وغفلة عن أياديها. بل المخالفون من أولى العلم والفكر والرأي يخالفون في بعض هذه المطالب إعظاماً لشأن المرأة، وإجلالا لها، وإكباراً لمكانتها، واعترافاً بفضلها، ومعرفة بأياديها. يرون في هذه الدعاوى تعظيماً ظاهراً، وتحقيراً باطناً، ورحمة في القول، وقسوة في الفعل، وتحريراً في الوهم، وتسخيراً في الحقيقة، ونعمة على المرأة بادي الرأي، ونقمة عليها حين التأمل. ويخافون أن تُمتَهن كرامتها، وأن تُبتذل صيانتها، ويشفقون أن تذِل عزتها، وتذال سيادتها، ويحذرون أن تنتهك حرمتها، وتستباح قداستها، ويخافون أن تستبدل بكرامة الأمومة، وعزة الزوجية، ذلَّ الخدمة، وأن تعُطَى بحرمة البيت ابتذال السوق، وأن تترك سيادة الأسرة إلى عبودية المصنع، وأن تُهمل جمال الخلقة ونضرة الطبيعة إلى زيف الأصباغ والألوان، وتدع زينة الثياب إلى سخرية الأشكال التي نراها.

والمقدمة الثالثة: أن للمرأة حقوقاً لا تنكر، وعلى الجماعة للمرأة واجبات لا يرقى إليها خلاف. ونحن - المسلمين - سبقنا إلى تكريم المرأة، والإشادة بحقها وفضلها، وحسبنا من آيات كثيرة هذه الآية الجامعة (ولهنَّ مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة). وحسبنا من أحاديث كثيرة هذا الحديث (سووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مؤثراً أحداً لآثرت النساء).

وقد اعترفنا - قبل غيرنا - بحق المرأة في الميراث والملك، والتصرف فيما تملك بكل الوجوه، وتوليها كل أنواع العقود - أمور لم تنلها المرأة الأوربية في بعض الدول حتى يومنا هذا - ودعونا المرأة إلى التعلم وفرضناه على النساء والرجال سواء، وزخر تاريخنا بالمحدّثات والفقيهات والأديبات والشاعرات.

بل بلغنا في تدليل المرأة أن قال فقهاؤنا: إن المرأة لا تُلزم بخدمة دارها إن كان الرجل قادراً على أجرة خادم، بل لا يجب عليها إرضاع ولدها إن كان في مكنة الزوج أن يأتي لولده بمرضع.

هذا موضوع يتسع فيه مجال القول، ولكنه ليس من قصدنا في هذا المقال.

ولا ننكر أن هذه الشريعة العادلة، وهذه السنة الكريمة، غطى عليها الجهل في أوطان وأزمان، كما غطى على حقوق كثيرة للجماعات، وأن المرأة ظُلمت وما تزال مظلومة في بعض البلدان أو بعض الطوائف، وأن علينا أن نأخذ بيدها وندفع عنها ونرد إليها كرامتها ومكانتها، ونعترف بسلطانها في الأسرة، ويدها على الأمة.

خلصنا من هذه المقدمات إلى أن الخصومة في قضايا المرأة ليست خصومة بين الرجال والنساء، وأن المخالفين في هذه القضايا لا يغضون من قدر المرأة، بل يعظمونها ويحرصون على كرامتها وسعادتها، وإن أحداً لا ينكر أن للمرأة حقوقاً على الجماعة يجب أن تؤدَّي إليها، وفضلاً على الأمة يجب أن يُعترف به.

بعد هذه المقدمات يضيق مجال الخلاف، ويُحد موضع النزاع، ويستبين الطريق. علام الخلاف إذاً بين المختلفين؟ وفيم الخصومة بين المختصمين؟ الخلاف كله أو جله في هذه القضية:

يقول قائلون وقائلات: (إن مكان المرأة دارها، ومملكتها أسرتها، ومعقلها بيتها، وعملها القيام على العش وإسعاد نفسها وزوجها وأولادها فيه، لا تتجاوز هذه المملكة أو تهملها إلا معتديةً ظالمةً، ولا تُخرج منها أو تُقهر فيها إلا معتدىً عليها مظلومة).

وتقول جماعة أخرى: (بل للمرأة السوق، والمصنع، والمنصِب، ومُعترك السياسة، والمقهى والملهى والمرقص وما وراء هذه. . . ولها أن تزاحم الرجل بالمَنكِب في كل مُزدحم، وأن تغالبه في كل معترك).

فتقول الجماعة الأولى: مَن للبيت إذاً؟ من للأسرة؟ من يربي الأولاد وينشِّئ النشء، ويقوم على هذه المدرسة أو المعبد أو الجنة التي ذكرنا آنفاً؟ إلى من يسكن الزوج المرهق حين يفر إلى داره من ضوضاء الأسواق ومعترك العيش؟ وبمن يعتصم الناشئ حين يأوي إلى بيته؟ وأية يد رحيمة - غيرَ يد المرآة - تُطعم وتُسقي، وتُفرش وتُنيم؟ وأي قلب غير قلبها يسع الرأفة والرحمة والحب والود، ويُشيع النظام والجمال في الدار؟ من غيرها يَطب للأدواء، ويضع في مواضعه الدواء؟!

إنما أخرج المرأة الأوربية من معقلها، وأنزلها عن عرشها هذه الوحشية المدمرة التي قتَّلتْ الرجال فحرمت المرأة عائلها، فخرجت تسعى لنفسها، وتكدح لقوتها. . . ولو خيّرت ما اختارت هذا الشقاء! وما على وجه الأرض امرأة تؤثر السوق والمصنع على سكينة البيت ونعيم الأسرة! إن هذه ضرورات أدَّى إليها تعاسة الإنسان وشقاوته، والضرورة تُقدَّر بقدرها، وينبغي السعي لدفعها، وألاّ نقر لها ونخضع لسلطانها، ونجعلها قانوناً تسير عليه المعيشة، فإنما هي شذوذ عارض، وخلل طارئ، في نظام الأسرة وقانون الأمة.

ويقول فريق: حرَّرنا المرأة من أغلال العصور الأولى، وفككناها من إسار العادات القديمة، وأخرجناها من الظلمات إلى النور، وأطلقناها تمرح كما تشاء، وتخالط الرجال في كل مجتمع، وتغالبهم في كل عمل.

فيقول فريق آخر: نحن ننصركم في التحرير وفك الإسار، والإخراج من الظلمات، ولكنا نرى في كثير مما تفخرون به تسخيراً لا تحريراً، وأسراً لا فكاكاً، ومهانة لا كرامة، وشقاء لا سعادة!

إنا ننظر إلى مدنيتكم هذه فنرى فيها مُتعاً وفِتناً، وملاعب وملاهي، وأسواقاً للذات رائجة، ومجامع للمرح صاخبة، وفنادق للترف آهلة، ونرى تجاراً وسماسرة، وشياطين وسحرة. ثم لا نجد في متعكم وفتنكم وملاهيكم وملاعبكم وأسواقكم ومجامعكم وفنادقكم إلا سلعة واحدة تتداولونها، وبضاعة مفردة تديرونها، ومخلوقاً تعبثون به وتلهون، وتجمعون به المال في أساليب شتى وتتّجرون، هو المرأة البائسة الشقية! لقد أدرتم عليها المسارح والمراقص والحانات، وكل دار للهو، وكل مباءة للاثم، وعرضتموها على النظّارة رقيقة في صورة حرة، ومُكرهة كأنها مختارة، وباكية بوجه ضاحكة، وشقية في ثياب سعيدة، ومبتذلة بدعوى التكريم، ومسخّرة باسم التحرير. . . جعلتموها وسيلة إلى كل كسب، وشركاً لكل صيد، وجلبتم بها المشترين إلى متاجركم، ونشرتم صورها في آلاف الأشكال للترويج لبضائعكم، وجذب القراء إلى صحفكم. . . وأخذتموها إلى سواحل البحار، وإلى مسابح الملاهي، فعرَّيتموها ولهوتم بها ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً، وكذبتم على أنفسكم وعلى الحقائق، فقلتم: حررناها وأسعدناها، وليس للمرأة في هذا كله تحرير، ولا لها من السعادة نصيب. إنها مسخَّرة مسيَّرة بأهواء الرجال، وإشراك عبَّاد المال. وليس لها في الحق نصيب من هذه المتع، ولا اختيار في هذه الأسواق. وهان على العابثين كرامة المرأة، وخفّت على اللاهين كرامة الأمة، واستوى عندهم صلاحها وفسادها، وصحتها ومرضها، وعزها وهونها.

ثم استدرجتم المرأة إلى الطرق والأسواق كاسية كعارية، وجعلتموها أُلهِيَّة لِكل سائر، ومتعة لكل ناظر، وحديثاً لكل عابث، وهوَّنتم أمرها على الدهماء، فلقيها الأوباش بالأقوال والإشارات، حتى لم تبق للسيدة في الطريق حرمة، ولا لربة البيت في السوق من الأشرار عاصم!

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام