مجلة الرسالة/العدد 831/المستغربون
مجلة الرسالة/العدد 831/المستغربون
(مهداة إلى الأستاذ عباس خضر)
للأستاذ علي محمد سرطاوي
الاستغراب كالاستشراق، حذوك النعل بالنعل - إذا جاز هذا التعبير - هو الهيام بالغرب والوله في حبه وكل ما يصدر عنه من خير وشر وأوهام وأباطيل.
والمستشرقون فحول من أبناء الغرب، بسقوا من جرثومة شعوب قد استكملت الاستقرار الاجتماعي الصحيح العميق، وفتحوا عيونهم في الحياة على كيان قد توطدت أركان الأسرة فيه على أسس من تصميم الزمن، وبناء من مجتمع قد أرهفت الثقافة الشاملة الفرد فيه.
والشعوب الغربية التي نشأ فيها المستشرقون قد نضج الفرد فيها وفني في المجموع فناء تاماً. والمواطن الصحيح عند تلك الشعوب، ذلك الذي يؤدي واجبه في الخدمة الاجتماعية تاماً غير منقوص، وهو الذي يفتش عن أحسن دور يستطيع تمثيله على مسرح الخدمة العامة مهما تجشم من صعاب في سبيل إتقان ذلك الدور دون أن ينتظر ثناء أو تقديراً.
ولم يكن كل ما قدمه المستشرقون من الدراسات المضنية التي وقفوا حياتهم عليها خالصاً لوجه العلم؛ بل إنما كان في كثير من الأحايين ضرباً شاقاً من الخدمة الاجتماعية يؤديه المستشرق لأمته في هذا الميدان الذي يحطم الأعصاب، ولا يصمد فيه غير الأبطال والجبارين الموهوبين.
والمستغربون عندنا نكرات اجتماعية بسقوا من جرثومة شعوب لا تزال تعتز بالعظام، وتعيش على أمجاد التاريخ، وتدور حول حقائق الحياة، وتدبر عن النور وتقبل على الظلام، وتغفو في وادي الأحلام.
وهؤلاء ليسوا إلا أفراداً تميزوا عن القطيع الذي لا يزال في مستوى الحيوان يرعى العشب ويرضى بالهوان ويقيم على الضيم كالأذلين: عير الحي والوتد.
والذكاء على قلة عند الفقراء، والثراء على كثرة عند الأغنياء، هما اللذان دفعا بعض الشرقيين إلى حضارة الغرب يتتلمذون عليه في دراسات لا تزيد على بضع سنوات، كان بعضها خالصاً لوجه العلم بالنسبة للذين كان يصرفهم عن العبث نقص جسدي في العينين أو مادي في الجيب، وبعضها كان بريئاً في العلم بالنسبة للذين آتاهم الله بسطة في الج وسخاء في الإنفاق، ومصدراً لا ينضب له معين من النضار.
هذه السنوات لم تصنع المعجزة في أولئك الرواد المستغربين في الشرق، أو الغربان التي تنعق - على أصح تعبير - وكل ما في الأمر أنها صبغت ظواهرهم بطلاء براق من الألقاب العليمة ولم تنفذ إلى جوهر الروح الذي بقي مربوطاً بالأمة التي لا يزال مجموعها يعيش في الجهل، وبالأسرة التي لا تزال على غرار أسرة الإنسان الأول في طفولة الحياة البشرية.
ولا نستطيع أن ننكر عقولنا ونسلم جدلا بأن هؤلاء قد أصبحوا - على سوء الجيرة - كالغربيين روحاً وذوقاً وفناً، وإنما كل ما في الأمر - وهو الصحيح والواقع - أن حضارة الغرب قد بهرتهم ماديتها ولم يفهموها فهماً صحيحاً، وفي محاولتهم تجريح الشرق بأظافر مستعارة من روح الغرب، البرهان الذي لا يقبل الجدل على أنهم يشعرون بذلك في أعماق نفوسهم ويحاولون التضليل.
والبيئة الجغرافية تترك أثراً عميقاً من سماتها في الأخلاق والدين والفن والذوق والاجتماع في الجماعات التي تعيش فيها وتطبعها بطابع خاص لا تجد سبيلا إلى الخلاص منه مهما أوتيت من عزيمة وجبروت.
ولو أنك غرست شجرة من مناطق خط الاستواء في غير تربتها ومناخها، وحاولت كل طريقة لاستدامة روعتها ورونقها ولذة فاكهتها، لما وجدت إلى ذلك سبيلا.
والأفكار المستوردة من بيئات بعيدة لا تستطيع الحياة في مناخ غير مناخها، وفي تربة غير تربتها، وغالباً ما يكون نصيبها الموت.
أرأيت نتيجة تلك المحاولة التي قام بها ملك من الشرق لينقل حضارة الغرب إلى بلاده عن طريق اللباس في بلاد الأفغان، وهي على بعد سحيق من أوربا، غير مقدر النتائج الخطيرة التي آلت إليها، وغير مفرق بين موضع تركيا الجغرافي والفارق البعيد بين الأتراك والأفغان؟
وأولئك المربين المستغربين الذين يغيرون على أفكار أساطين التربية في الغرب - تلك الآراء التي ترعرعت وشبت في جو ملائم وبيئة جغرافية خاصة - فيملئون بها المجلدات نقلا حرفياً وتقليداً وتشويهاً ومسخاً للعمل بها في بيئات وشعوب لا صلة لها بالشعوب التي انتزعت من حياتها تلك الأفكار. أليس مثلهم مثل الطبيب الذي يأتيه المريض وقد هد جسمه الداء فلا يستأصل شأفة المرض، وإنما يصبغ وجه المريض باللون الأحمر، وكفى الله المؤمنين القتال؟
والنكسات الروحية والخلقية والقومية التي تصاب بها الأمم والشعوب من حين إلى آخر في سير الزمن لا تمس جوهر الروح في تلك الأمم والشعوب، بل لعلها تجدد شبابها وتخلع عليها أبراداً قشيبة من اليقظة فتفيق من سباتها وتعاود السير من جديد، عزيزة الجانب، قوية الخلق، متحدة كالبنيان المرصوص.
والكسب المادي، والأشخاص الذين حرمهم الله نعمة الذوق الذي لا تعلمه الكتب والجامعات، والذين في نفوسهم مرض - كل ذلك وهؤلاء لا يزيدون في نظر الواقع على غبار تثيره أقدام الأمة في مسالك الحياة دهى سائرة إلى غايتها البعيدة.
ولعل شر فئة من هؤلاء المستغربين تلك الفئة الخاملة الجاهلة التي تعيش في الحياة كالنباتات الطفيلية على أفكار غيرها من مرضى الضمائر ومعتلي النفوس، فقد يضمك مجلس مع جماعة فينبري منها من يكيل الثناء لشكسبير لأنه غربي، ويطعن في المتنبي لأنه شرقي، حتى إذا حز في نفسك هذا المسلك وطلبت منه تحديد النقد وتقديم الأمثلة، تكشف لك عن عامية مغرقة في الجهل، لأنه لم يقرأ للمتنبي، ولم يعرف لغة شكسبير، وإنما كل ما في الأمر أنه يقلد التقليد الأعمى ليضاف إلى قائمة أصحاب الرأي الحر الذين يهدمون بيوتهم ليبنوا من حجارتها بيوتاً للآخرين.
وفي كل قطر عربي مجموعة من هؤلاء المستغربين يحملون الإجازات الدراسية العالية وقد مكنت لهم تلك الدراسات من الجلوس على المقاعد الأمامية في رواية الحياة وتوجيه الأجيال المقبلة التي تضع الأمة العربية آمالها وأحلامها فيها.
ومن رعاية الله لهذه الأمة أن جعل في جذورها الغضة التي تستمد حياتها إلى الغد المجهول قوة شديدة تقاوم تلك الرياح اللافحة، وجعل في كنانته جنوداً يذودون عن المجد التليد والدين الحنيف والتاريخ المشرق، ولا تأخذهم في الحق لومة لائم، ومكن (لرسالته) في النفوس.
(العراق) علي محمد سرطاوي
مدرس في متوسطة المسيب