انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 830/أمم حائرة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 830/أمم حائرة

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 05 - 1949


5 - أمم حائرة

المدارس أو دور العلم

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية

أعني كل موضع درس، من المدارس الابتدائية والمدارس الثانوية والمدارس العالية ومنها الجامعات، فلنتوجه إليها لعلنا نجد هدى بعد حيرة، واطمئناناً بعد قلق. ولعلنا نجد صلاحاً لأمورنا، وطباً لأدوائنا، وتأليفاً لنفرتنا، وجمعاً لشملنا:

كان من عناية الأمم والحكومات بالتعليم والتربية أن أنشئت هذه الأنواع من المدارس وعم نظامها؛ وقد سرنا على نهج الأوربيين في أنواعها، وموضوعات دروسها، ومناهجها، إلا قليلا. وكثرت هذه المدارس وشاعت في المدن والقرى ولا تزال تكثر وتشيع.

وزالت، أو كادت تزول، ضروب الدراسة القديمة؛ سواء ما كان لتعليم الصبيان مثل الكتاتيب أو دور الكتَّاب، وما كان لتعليم الكبار كالمدارس التي كانت في القاهرة والإسكندرية وأسيوط وقوص وغيرها، ومدارس العلماء الخاصة في بيوتهم أو مساجدهم. وتم قيام الحكومة على التعليم وإشرافها عليه، واضطلاعها بأعبائه، وانفرادها بتدبيره.

غفلنا في فتنة المدارس والشهادات عن ضروب من الدراسة للمبتدئين والمنتهين كان يضطلع بها ناس في القرى والمدن ابتغاء خير الناس أنفسهم. ولو عنينا بهم، وحمدنا فعلهم، وأثبناهم عليه، وحفزناهم إليه، لمضوا يحملون عن الحكومة بعض العبء، ويسدون بعض الحاجة. ولكنا أغفلنا أمرهم، وهجرهم الناس إلى المدارس الجديدة فحملت الحكومة العبء باهظاً، واحتملت الأمانة وحدها.

وقد سرنا سيراً، وتقدمنا تقدماً، وأصبنا مغانم كثيرة. فازداد إقبال الناس على المدارس، وعظمت عناية الحكومة بها، واستجابت لرغبات الراغبين في دخولها والحصول على شهاداتها فنيل وظائفها. فكثرت المدارس ثم كثرت، وازدحمت بالمدرسين ثم ازدحمت.

وغلونا في الاعتداد بالتعليم المدرسي غلواً دفعنا إلى الإسراع فيه قبل الإعداد له، وإلى الازدحام على المدارس بأكثر مما تسع.

وغفلنا في هذا الغلو عن ضروب من التعليم والتهذيب خارج المدارس وحسبنا أن القراءة والكتابة هي وسيلة التثقيف لا وسيلة غيرها. وكم من أناس نبغوا وهو لا يقرءون، ودرسوا وهم لا يكتبون، هدتهم التجارب وهداهم السمع والبصر إلى ما اهتدى إليه القارئون أو قصروا عنه.

لا أجحد فضل الكتابة على الحضارة، ونعمتها على البشر. ولكني آخذ على الناس الغلو في إعظامها والغلو في احتقار ما سواها من الوسائل. ولا أنكر أن الوسائل الأخرى في أكثر الأحيان راجعة إليها مستمدة منها. لا أنكر هذا وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. ولكن أدعو إلى أن يسجل الناس معارفهم ثم ينتفعوا بها بكل وسيلة من إقراء أو إشهاد أو إسماع إلى أن تعم الكتابة كل فرد. وكم في تاريخ العلم من نابغ ضرير لم يقرأ.

وانتبهنا فراعنا جموع تغدو وتروح إلى دور العلم، لا تمس الثقافة أرواحها، ولا يتصل العلم بقلوبها، وإذا المدارس كالمطابع تخرج كتباً لا عقولاً، وتكثر أمثلة لا أنفسا، أو كالمصانع ترمي بقوالب متشابهة وأشكال متماثلة.

وانتبهنا فراعنا أن نرى هم الطالب في الجامعة أن يمضي سنوات تنتهي به إلى شهادة، وأن نراه يكتفي بما يجتاز به الامتحان، ويجتاز الامتحان بأية وسيلة، فإذا طوى السنين واجتاز الامتحان وظفر بالشهادة شرع يطالب بحقه في الوظائف، وينادي بما في يده، لا في عقله وقلبه، من شهادة، ويخدع نفسه بما يدعي من علم، ويزدري الناس إذ لم يبلغوا من العلم ما بلغ، ولم تشهد لهم الأوراق كما شهدت له.

وتنظر إلى المتعلم في الطريق وفي المدرسة فلا يرضيك هيئته، وتكلمه فلا يعجبك حديثه، وتختبره فلا يسرك علمه ولا اعتقاده ولا رأيه، إلا قليلاً من الطلبة الصالحين غلبت طبائعهم وأخلاقهم وأسرهم هذه البيئة الفاسدة المفسدة الحائرة الجائرة.

وننظر فإذا التلاميذ يهجرون الدرس إن استطاعوا، ويقعدون عن دور العلم إن قدروا؛ وإذا طلبة الجامعة، وقد أوتوا نصيباً من الحرية؛ يهجرون المحاضرات أو يكتفون بالقدر الذي يحتمه القانون، بل يحتالون له بتوقيعات مزورة أحياناً ليسجلوا لأنفسهم هذا المقدار.

لقد رأيت تلميذاً خارجاً من الجامعة ضحوة النهار ينادي صاحبه في غير خجل (الأمريكيين الساعة 11). ويكاد يكون الداء كله، والشر جميعه هنا. هذه المقاهي والملاهي التي تجذب الصبيان والشبان بالليل والنهار وتشغلهم عن أعمالهم، وتفتنهم عن آدابهم، وتفسدهم بكل ضروب الفساد.

إن التلميذ الذي يترك محاضرته وأستاذه ومكتبته ليسارع إلى الأمريكيين وغير الأمريكيين لا يرجى منه خير. وإن التلميذ الذي يمضي ليله أو بعض ليله ساهراً في هذه الملاهي لا تبقى فيه بقية لتعليم أو تهذيب. وليس الإثم عليه ولكن على من أحاطوه بهذه الفتن ثم خلوا بينه وبينها.

ثم نظرنا فإذا التلميذ خارج على كل نظام، مزدر بكل قانون، مستهين بمعلمه ومدرسته وحكومته وأمته، من حيث يدري ولا يدري؛ وإذا أقرب شيء إلى نفوس التلاميذ أن يصيح صائح بهجر الدرس، أو ينعق ناعق بتدمير المدرسة، أو يأمر شيطان بالهجوم على معلم أو ناظر، أو الاقتحام على مجلس الجامعة وفيه كبار الأساتيذ، فتردد الصيحة، وتستجاب الدعوة، فينطلق الشر من عقاله إلى غير غاية. ونظرنا فإذا هذا الهرج والمرج وما هو أشنع من الهرج والمرج.

ويقولون الحرية! لنا الحرية أن نخرج إذا شئنا، وأن نضرب إذا أردنا. ويمضون في دعوى الحرية فإذا لهم الحرية في أن يخرجوا غيرهم من دور العلم قَسراً، وإذا لهم الحرية في أن يحرموا إخوانهم حريتهم في الاستماع إلى الدرس، وينكروا على معلمهم الحرية في التدريس، وإذا الفئة القليلة الشاغبة لها الحرية في أن تخرج الفئة الكثيرة الحريصة على العلم، وإذا هذه الكثرة المستمعة إلى الدرس ليس لها الحرية في أن تستمع، ولهذه القلة الصاخبة كل الحرية في أن تمتنع عن الدرس وأن تمنع غيرها.

وانتبهنا فراعنا أن شفقة الآباء وبر الأولاد - وكانا عماد ما بين التلميذ وأستاذه - قد ضلاّ في هذه الضوضاء، وامّحيا في هذا الشقاء. وإذا آلات كآلات المكينة تدور لا عقل لها ولا قلب، ولا سمع ولا بصر.

فنقول رحم الله زماناً كان سرور التلميذ وفخره بأن يكلمه أستاذه، وأن يكبّ هو على يد أستاذه يقبلها في المدرسة وغير المدرسة! ورحم الله أيام كان طلبة الأزهر يقبلون يد الشيخ عقب كل درس ويتنافسون في حمل حذائه إلى الباب.

وعلى ذكر الأزهر أقول: إنه لم ينج من هذه الفتن، وكان الرجاء أن ينجو، ولم يبعد عن هذا القلق، وكان الأمل أن يبعد، فزهِد طلابه في العلم زُهدَ غيرهم، وضربوا واختصموا وكان منهم ما كان من طلبة المعاهد الأخرى لم يتخلفوا عنهم، ولم تثبتهم سُنن الإسلام، ولا وقرهم تاريخ الأزهر ووقاره وسمعته، ولا عصمهم من هذا البلاء عاصم.

ذلك بأن الأمة عامة لا تحرص على السنن، ولا تعني بالاحتفاظ بالتاريخ، وأن الأزهر خاصة أخذته فتنة الحديث والقديم، فأشفق من تاريخه، وجهد أن ينافس غيره في الأخذ بالمحدثات، وخشي أن يقال إنه دون غيره معرفة بالعصر، ومسايرة له، واقتباساً منه، فغلبه التقليد حقيقة وإن تظاهر بالاستقلال والاجتهاد. ولو ثبته الفكر الحر، ووقره التاريخ المديد، لأخذ من العصر شيئاً ورد أشياء، ووافق في أمر وخالف في أمور، وخط لنفسه من تاريخه ومما أحدثت المدنية من علوم وآداب خطة تميزه، وسار على طريقة هي طريقته ومنهج هو منهجه، ولكان للأمة ملجأ إذا حارت الأفكار وتنازعت الأهواء، ولكان للأمة قدوة في الدين الحق، والعمل الصالح، وفي مقاصد الإسلام ووسائله وسننه وغاياته، وفي البعد عن سفساف الأمور والأخذ بجلائلها.

لقد حافظت جامعات إنكلترا على سننها أكثر مما حافظ الأزهر، وهي لا تتصل بالدين اتصاله، ولا توغل في التاريخ إيغاله.

إننا في حاجة إلى من يقتبس الصالح غير متردد، ومن يتمسك بالصالح غير هياب، ومن يعتد بنفسه وأمته وتاريخه فيقول: هذا حسن وهذا قبيح، وهذا يصلح لي وهذا لا يصلح. ذلكم هو الأساس الذي يرسو عليه البناء، وتلكم الخطة التي تستقيم بها الأمور.

وأنا حين آخذ على الطلبة هذه المآخذ لا ألقي التبعة عليهم، وأرد الذنب إليهم، فإنهم يَنشئون كما يُنَشَّئون، وينبتون كما يزرعون، وتصوغهم البيئة على أحوالها، وتربيهم الأمة على مثالها. لا ألومهم ولكن ألوم البيئة التي سيرتهم هذه السيرة، ولا أحقد عليهم بل أرحمهم مما تهافتوا فيه على غير علم. فأنا أعيب المعلم قبل المتعلم، وآخذ الأستاذ بأشد مما آخذ به التلميذ، وأعيب البيئة والنظام قبل أن أعيب الناشئ الغِرّ، وأشفق على الشاب وأرحمه، وأذم أثر البيئة فيه، وطابع التربية عليه، لنعمل على إصلاحه، ونجهد في إنقاذه.

ولست في قولي هذا يائساً ولا متشائماً؛ ولكني أدعو إلى تدارك الشر قبل استفحاله، ومداواة الداء قبل إعضاله، وإلى تجنب هذه الطرائق، والحذر مما تؤدي إليه، وأنهى عن السير على غير هدى، والأخذ بغير تمييز، والقبول بغير نقد.

أرى أمورنا في حاجة إلى بحث ودرس، ونقد وتمييز، وإلى أن تسيرها آراء العلماء على خطة واضحة، وطريقة مستقيمة، فلا تترك الأمور فوضى، ولا تبحث الأشياء فُرادى، بل يتناولها النظر المحيط، والنقد الشامل، ويجمعها النظام التام، والخطة الجامعة، يضعها علماء التربية وعلماء النفس وعلماء الأخلاق وعلماء التاريخ وعلماء الدين.

نريد مدارسنا ومعاهدنا دور تعليم وتثقيف، ومباءة إصلاح وتهذيب، ومصدر محبة ومودة وألفة وأخوة، يتجلى فيها الخضوع للقانون، والإجلال للنظام، والقيام بالواجب، وإيثار الخير العام، والكلف بالمروءات، والتحلي بالآداب، والترفع عن الدنايا. نريد أن كون بين المعلمين والمتعلمين ما بين الأب الرحيم والابن البار، وأن تكون المعاهد كلها أسراً كبيرة قائمة على التراحم والتعاضد، تخرج للأمة كل حين من يتولى إصلاحها ويكفل هدايتها. نريد أرواحاً لا أجساداً، وأشخاصاً لا أعداداً، ومعاني لا ألفاظاً، وحقائق لا صوراً. ونسأل الله التوفيق.

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام