مجلة الرسالة/العدد 83/مجلس نادر. . . .
مجلة الرسالة/العدد 83/مجلس نادر. . . .
نعم مجلس نادر! وندرته في طبيعة الغرض منه، وشخصية الداعي إليه، وقيمة الجالسين فيه؛ كان الغرض منه إصلاح ما بين أخي طه وبيني، وإصلاح ما فسد من ذات البين بين صديقين شيء في طبع هذا الأدب المعاصر نادر؛ وكانت الشخصية الداعية إليه هي الآنسة الجليلة (مي)، وشخصية (مي) في عصور الشرق الأخيرة نادرة؛ وكان الجالسون فيه الدكتور طه، والأستاذ مصطفى عبد الرزاق، والدكتور أحمد زكي، والأستاذ محمد عبد الله عنان، وتهافُتُ هذه العبقريات المختلفة على شعاع لطيف من ذكاء المرأة الشرقية المثقفة نادر؛ وكان البهو المترف الذي سَمرنا فيه قد انسجم بأثاثه ونظامه وألوانه وألوان وضوئه مع ذوق الآنسة الشاعرة، فكان نمطاً من الحديث الصامت أذى المشاعر وألهم الأذهان في الحديث الناطق!
قالت الكاتبة النابهة وقد انتظمنا حولها عقداً كانت هي واسطته: (ارجو أن تكونوا شخصاً واحداً. . . . .) فقال لها الدكتور طه: (نعم وتكونين أنت روحه) وعلى ظَرف هذا الخطاب، وبراعة هذا الجواب جرى سقاط الحديث. وكانت الآنسة تُصَرف الكلام وتساجل هؤلاء الأعلام ببديهة حاضرة ولقانة عجيبة، فمثلتْ لي صورة من صور أولئك الأدبيات اللاتي أنشأن باستعدادهن للأدب مجالس في عهوده الزاهرة، كسكينة ابنة الحسين، والولاة ابنة المكتفي بالله، ومدامُ دِرَمْبُوييه، ومدام جوفرين، وأضرابهن ممن وقفن بين اللغة والبلاغة، وبين الأدب والذوق، وبين الفن والسمو، ثم وشين ثقافة عصورهن بألوان شتى من أناقة المعرض، وجمال الأداء، وحسن المبادهة، فقدرت في نفسي مبلغ ما تفيده المرأة المثقفة في مناهج الأدب ومظاهر الفكر وقواعد السلوك وأوضاع العُرف، وقلت: مساكين نحن! إذا ظفر أدبنا بهذه المجالس، فأَنَّي تظفر مجالسنا بهذه المرأة؟
لست بطبيعتي وتربيتي رجل صالون ولا حديث مجلس، لأن المجامع
المختلطة التي تدفع الحياء عن الذهن، وتُذهب الخوف عن اللسان،
وتجعل أطراف الحديث في متناول كل جالس، أبَتْها علينا التقاليد، فأنا
أردك حتى في هذه الجهة أثر هذه المجالس في علاج هذا النقص
الاجتماعي الموروث تشقق الحديث عن صور شتى من لَفتات الذهن النشيط، ثم مسحت (مي) بيدها الساحرة على ما كان بين الصديقين فاذا الماضي يعود كله، وإذا الحاضر يذهب كله. وعلاقة هذين الصديقين علاقة نشأت مع الصبي واستحارت مع الشباب وتوثقت على الزمن، فلما نال منها العهد المجرم الذي نال من كل شيء جزعت الآنسة الريمة فيمن جزع، وظلت تتحين المناسبة لسفارة الوفاق والمودة حتى تم لها ذلك ليلة الأمس!!
وللانسان ماضٍ من الأمكنة والأزمنة والأشخاص لا يستطيع مهما جدا أن يسقطه من حياته: فمسقط الرأس، وملاعب الطفولة، ومسارح الهوى، ومغاني الأحبة، وغفلات العيش، ورفقة الحداثة، لا ينسخها في ذاكرتك ما يمر على عينك من ضخامة العمران وبسطة السلطان، وسورة المنصب، وزحمة المنافسة، وصور الوجوه، وتنوع العلائق
ألْهُ عنها بالحاضر إذا شئت، وأثبت نظرك في وجه الغد إن استطعت، فانك صائر ولابد إلى الذكرى بعد الأمل، ولائذ بأمن الماضي من خوف المستقبل؛ وحينئذ تجد هذه المراحل السعيدة واضحة في خيالك، مشرقة في نفسك، تجدد عمرك المفقودة، وتحدد زمانك المبهم، وتفيض على جفاف قلبك شعوراً هادئاً لذيذاً باستحضار ما غيبت من لذة، واستذكار ما نسيت من سعادة
كان حسب صديقي حسبي لحظة من الذكرى تعيد عازب الحلم وتكسر عادية الجدل، ولكننا كنا وكانت مصر يومئذ تكابد محنة من الطغيان العاسف أوهنت الأعصاب، وحللت الروابط، ومدت بين الناس أسباب العلل
أخي طه!
لقد تعانقنا عند اللقاء كان لم تكن جفوة، وتناقلنا الحديث في المجلس كأن لم تكن خصومة، وتمنت ربة الدار أن يكون بيننا عتاب فلم نجد مائلاً في النفس إلا أن كلينا صورة من شباب الآخر وقطعة من وجوده!
تلك كانت جناية العهد البغيض كما قلت: أفرطفيه الجور حتى نسينا العدالة، وتنكرت المعرفة حتى اتهمنا الصداقة، وران الشك على القلوب حتى حال بيننا وبين الحقيقة. فالحمد لله الذي أظهرك على الكيد، وأظفرك بالكائد، اعادك، وأعادك موفور الكرامة إلى موضعك عزيزتي الآنسة مي! جزعت أول الناس لهذا الخلاف الواغل عن باعث من طبعك، وتبت في كف هذا الجدل القاسي بوحي من شعورك، وسعيت للصالح هذا السعي النبيل بدافع من نفسك، وكل ذلك وليس بيننا غير العلاقة التي يبرمها الأدب بين أهله على بُعد! فأنا أسجل لك في الرسالة هذا الحب الغرزي للخير، والاخلاص الطبيعي للعلم، والايمان الصادق بالأدب، والجهاد المتصل في تأليف القلوب بالمودة، وتثقيف العقول بالمعرفة، وتغذية النهضة الفكرية بالانتاج الخصيب، واسمحي لي أن أبشر أصدقاء الرسالة وقراءها بأن قبلت أن تدخلي في اسرتها، وأن تحملي نصيبك من دعوتها، وذل فضل آخر من يضاعف الشكر لك، وفوز جديد للرسالة يجدد الشكر لله
أحمد حسن الزيات