مجلة الرسالة/العدد 829/فلسفة طاغور الأخلاقية:
مجلة الرسالة/العدد 829/فلسفة طاغور الأخلاقية:
الآلام ثروة الإنسان الناقص
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
أن طاغور الذي برأ الحياة من الشر، وأرجع وجوده فيها إلى عصيان الإنسان لقانونه الأخلاقي، لم يغب عن باله ما يعتري الإنسان من نقص في عقله أو إرادته، ولم يغفل ما يسببه هذا النقص للإنسان من متاعب، وما يجره إليه من فشل يثير في نفسه ألواناً متضاربة من الآلام قد تنقش حياته وتنفث فيها التعس.
ومع ذلك لم يلق طاغور تبعة هذه الآلام على الحياة، وأخذ يدلل على أنها لا تتعارض مع السيادة، ولا تسوق الإنسان بالضرورة إلى الشقاء. وزعم أن الله خلق قوى الإنسان ناقصة وإرادته محدودة، وأن النقص في حد ذاته لا يؤذي الإنسان، وأن حدود الإرادة لا تحد من نشاطها، وإنما الذي يؤذيه هو أن تظل قواه على ما هي عليه من نقص، وتبقى إرادته حبيسة حدودها على الدوام بدون أن يسعى لاستكمال قواه الناقصة، ولا يجد في أن تصير إرادته المحدودة غير محدودة.
ولو خلق الله بادئ ذي بدئ قوى الإنسان كاملة وإرادته غير محدودة، لفقدت قدرته اللانهائية من ناحية كل معنى لها ولتعذر على الإنسان من ناحية أخرى أن يرتقي في سلم الوجود حتى يصل إلى تلك الدرجة الروحية النموذجية التي يندمج فيها وجوده في وجود الله، ويصبح هو والله حقيقة واحدة، لأن القوة لا تطور إلى أن تتم نموها إلا إذا دفعها النقص لتكمل، وإن الإرادة لا تتحرك حتى تصبح غير محدودة إلا إذا كانت تعمل على التحرر من نطاق حدودها الذاتية لتفنى في إرادة الله غير المحدودة. فلولا نقص الإنسان ما عرف الكمال، ولولا حدود إرادته ما صارت غير محدودة.
فنقص الإنسان ونهاية إرادته لا يسيئان إليه بقدر ما يدفعانه إلى طلب أرقى مراتب الكمال، وبلوغ السعادة القصوى بالتلاشي في لانهاية الله. وما خص الله الإنسان بهما إلا ليمكنه من العودة إلى المنبع الذي انبعث منه، ويحفزه على الفناء في روحه الكبرى التي تشمل كل الوجود. وان جمود النقص وبقاء نهاية الإرادة على ما هي عليه، يمدان الحياة بسموم الألم وما يتفرع منه من حزن وخوف وقلق.
ولذلك يجب على الإنسان أن يفتش عن أسباب نقصه سواء أكان في عقله أم في إرادته، ويعمل على أن يقومه، ولا ييأس من طول مدة التقويم، ويثابر على معالجة عقله وإرادته حتى يصل إلى مكانة من الرقي الروحي ينمحي فيها شعوره بأي نوع من الآلام سواء أكانت من تلك الآلام التي تنتاب النفس حين يصدر عنها أثم من الآثام، أو من تلك الآلام التي تطرأ عيها عند الفشل في أداء عمل من الأعمال.
أما عن الآلام التي سببها اقتراف الخطايا، فترجع إلى جهل الإنسان بجوهر حقيقته وغفلته عن إن إرادته مرتبطة بقانون خلقي ليس إلا صورة من صور سرور الله التي تتجلى في الكون؛ وأنه يجب على النفس أن تعلم أن الله مستقر فيها في قالب القانون الخلقي، كما يجب على الإرادة أن تأتمر بأوامر هذا القانون، فإنه هو الذي يفك أسرها ويساعدها على تحطيم قيود الرغبات والأهواء، ويفتح لها الشعب لتنساب تدريجياً إلى نهاية الله وتوصلها إلى تلك الحالة الروحية التي تبلغ بها ملكوت السماء، فيستحيل عليها ارتكاب الذنوب التي تقلقها وتبعث فيها الأحزان، وإنما تمتعها بنعيم الحياة في الحقيقة المطلقة الأبدية التي لا تتباين فيها جميع الموجودات. بينما الفشل في العمل يمكن التغلب عليه بتنمية المواهب، وترقية الملكات، وتربية المهارات عن طريق العلم والعمل، لأن التزود بثقافة توسع من أفق المعرفة، وتزيد من قوة الإدراك، تجنب الوقوع في غلطات تجلب مشكلات شاقة. وان ممارسة العمل ممارسة واقعية تكسب دراية عملية، وبراعة فائقة في أدائه إلا أن كثيرا من الناس يزعمون أن هذه البراعة لا تكتسب بدون مشقة ترهق النفس وتذيقها بعض الآلام، وان الذين نضجت مداركهم ومهرت قدراتهم لا تخلو حياتهم من الآم ومتاعب، فضلاً عن إن مجرد وجود الإنسان في الحياة يكلفه عذابا دائما، إذ يتطلب منه كفاحا متواصلا ليحصل على ما يوفر له حاجاته المادية.
ولكن طاغور يسخر من هؤلاء القوم ويصورهم في صورة من يحسب ثقل ضغط الهواء على جسم الإنسان، فيجده ثقلاً هائلاً فيبالغ في تقدير ما يرزح تحته جسم الإنسان من أحمال، وينسى أن من خواص هذا الجسم أن تتعادل مقاومته مع هذا الضغط، بحيث لا يشعر بأي شيء ينوءه حمله، فإن كل ما يلاقيه الإنسان في الحياة من محن وخطوب لا يفوق الطاقة البشرية، ويشبه إلى حد كبير ضغط الهواء الذي لا تكاد تحس بوجوده، وإن في قدرة الإنسان يقاومه ويتغلب عليه بأقل جهد.
وإذا بحثنا عن سبب شدة وطأة الآلام، وعنف وقع المتاعب على الإنسان، وجدنا أنه يرجع إلى أنه ينظر إلى الحياة نظرة ضيقة تنحصر في الحاضر دون المستقبل، وتقصر مطالب ذاتية عارضة دون المطالب العامة الدائمة، فإن لم يحرز ما يريد بأسرع ما يمكن، وفي أقرب فرصة، وبأقل جهد، يقلق ويضطرب ويظن بالحياة الظنون. وإن نزل فيه خطب جزع لضياع غنم عاجل لا يستفيد منه إلا شخصه. وإن خذل في تحقيق مآربه أحس بخيبة مرة تضايقه. وإن عاقته عوارض الحياة دب فيه اليأس والقنوط، بينما لو نظر إلى الحياة نظرة رحيبة تضم الحاضر والمستقبل، وتحتضن خير كافة البشر الذي لا يتحتم تحقيقه في الوقت الحاضر، إذ قد يتحقق في المستقبل القريب أو البعيد لما أكترث بما يقابله من أهوال، ولما حركت المتاعب كوامن أشجانه، ولا قدم غير هياب على تنفيذ كل عمل يراه ينفع الإنسانية ولا يرهب العذاب في سبيله، وكان على استعداد دائم لأن يتحمل المشاق طائعاً مختاراً، ويقاس الحرمان دون تذمر، لا يسأم النضال الطويل، ولا يثبط همته الفشل المتوالي، لأنه يدرك إن هذه الآلام ما هي إلا قرابين زهيدة فرضت على من يريد أن يحظى بالحياة في الذات الإلهية عن طريق تعميم ضرب من الخير الدائم بين الناس. فمن يرضى أن يعاني الآلام ليسعد البشر، تقوى عزيمته على تذليل كل عقبة تعترض هذه الغاية، وتهون عليه نفسه فيضحي بها في سبيل خير الإنسانية، ويسير سيراً حثيثاً نحو تلك الحياة الروحية التي لا يحس فيها المرء إلا بحقيقة فريدة لا مثيل لها، هي حقيقة اتحاد الخالق بالمخلوق التي يتمتع في كنفها بسعادة عذبة هادئة، ويتلذذ بغبطة حلوة تحيط الإنسان بهالة من النشوة والحبور، تدفع عنه مرارة الألم، وتحميه من تعس الأحزان.
فطلب الحياة في الله يصهر المعاني المألوفة، فيصبح السرور الذي تريد أن تنعم به مضنياً؛ لأن طريقه وعر صعب، كما يصبح الألم الذي نسقاه محبوباً لأنه يقودنا إلى إسعاد الغير، ويسوقنا إلى الاتحاد بالله. فمن يرحب بالتضحيات من أجل الخير العام المستمر، يعطي لحياته قيمة عليا ينمحي فيها الفوارق بين شتى المعاني التي يحياها عامة الناس، ويفقد السرور والألم عنده تأثيرهما المتناقص المتداول ويتساويان، ولا يتمايز بعضها عن بعضها بشيء لان التمتع بالسرور لا يحدث بدون مقاسات الآلام، والآلام هي الضريبة التي تمهد لنا طريق السرور. فالسرور والألم مختلطان، لا يسهل التمييز بينهما في مثل هذه الأحوال الإلهية.
ولكي يعيش الإنسان في سرور دائم يجب أن يخوض ميدان الحياة الاجتماعية ليبني ويهدم ما لا يروقه ما بناه، ويضع القوانين ويغيرها إذا وجدها لا تلائم خير المجتمع، ويخلق الأكداس المكدسة من الآراء، ولا يبالي ما قد يقع فيه من أخطاء فأن استمراره في خلق أفكار جديده يصحح غلطاته ويكشف عن أسرار الطبيعة وقوانينها الحق، ويخترع مختلف الآلات، أي يعمل بلا انقطاع ولا يخشى الفشل فإنها سبيل النجاح والتقدم، ولا ينفك يبدل فيما وصل إليه من علم وعمل، ويغير مادام فيها نقص أو عيب ويبحث راضيا مرضيا، لا يفكر مطلقا في تجنب الألم أو الهروب من المتاعب، بل يظهر براعته في القضاء على ما به من نقص وتحويله إلى كمال ويبرز مهارته في مختلف أنواع الألم من خذلان ونصب وشجن وخوف، ويجعلها عنصر من عناصر السرور. فلا ينبغي لأحد أن يعتزل الحياة رعبا من آلامها ومتاعبها، وإنما يجب عليه أن يتحملها صابرا، علما أن الألم ثروة الإنسان الناقص، وعلامة على أنه اكبر من حاضره، وبمثابة قوة دافعه تصيره عظيما في الحياة، وتخطو به من حاضره المحدود نحو مستقبل باهر غير محدود.
إن تطور الحضارات، وتقلب المدنيات، ونبذ الإنسان للقديم وابتكار حديث يقوم مقامه، لدليل على أن الإنسان لا يفتأ يجد ويخلق ويسير من مرحله إلى مرحله افضل منها، حتى يبلغ أقصى درجات الكمال التي تكفل له السعادة المرجوة.
فالشكوى من الآلام والمتاعب شكوى لا مسوغ لها، ولا ينبغي أن نترك لها أي منفذ لتتسرب منه إلى نفوسنا، وتلقى فيها نواة التشاؤم؛ لان الآلام ضرورية لتقدم الحياة، ومحك دقيق يقيس رقي الإنسان وبحسب مدى ما وصل إليه من سعادة ويبين ما بقى عليه من أشواط ليصل إلى ذلك السرور السرمدي الذي ينبعث في النفس من توافق حياه الإنسان مع حياة الله.
عبد العزيز محمد الزكي