مجلة الرسالة/العدد 829/صور من الحياة
مجلة الرسالة/العدد 829/صور من الحياة
قبعة تتفلسف
للأستاذ كامل محمد حبيب
يا صاحبي، أي شيطان وسوس لك فرحت تمتهن الوطن والدين واللغة، وجئت تريد أن تسترق الناس منها جميعاً لتذرهم - بعدها - حطاماً خوى من الكرامة والرجولة والإنسانية؟
لقد كان حديثاً عجباً أن تقول (أنا لا أؤمن بالوطن ولا بالدين ولا باللغة لأنها قيود ثقال. وأحر بمن يتحرر منها أن يسود العالم كله.
أما الوطن فهو كلمة براقة تستهوي القلوب الضعيفة وتستغرق الألباب السقيمة، وتخلب العقول الجامدة. على حين أنها - في رأي الفيلسوف - فارغة من المعنى خالية من الحياة. والوطن هو نعرة بالية توارثها جيل عن جيل في غير إمعان ولا رؤية، وهو آثار فكرة التعصب العتيق حين كانت القبائل المتشعبة تنبث في فجاج الأرض ومتاهاتها، تخشى أن يتخطفها الناس من حولها، وهو لفظ جاف لا يحمل في ثناياه إلا صورة من جشع الإنسان الأول وكلبه حين اضطربت الأنانية في نفسه - لأول مرة - فاختار قطعة من الأرض ووضع حواليها الصوى والعلامات ثم قال: هذه ملكي. . هي وطني!)
ونسيت أن الوطن روح تتدفق في مسارب الدم وتخفق بين طيات القلب، وهو تأريخ حي ينبض في ملاعب الصبا ومسارح الشباب، هنالك تحت الدوحة الباسقة على شاطئ النيل، وفي ظلال شجرة الجميز على ضفة الغدير، حيث تداعبهما أنفاس الصبح الندية أو تعابثها نسمات الأصيل الهينة، والسماء صافية والجو صحو، وصوت خرير الماء يصاعد نغماً شجياً يلعب بالفؤاد ويعانق القلب ويهز المشاعر.
هناك في موكب الحياة على بساط الطبيعة السندسي وهو يتراقص في رأى العين ليوقع لحناً عذباً فيه جمال الحياة وجمال الموسيقى. . .
وقلت (أن الوطن فكرة تتفجر من خلالها ألوان من صراع القوميات العاصف وتفور من جنباتها ضروب من الحروب الطاحنة فتدفع العالم ليتردى في هاوية من الهلاك والدمار. . . هاوية ما لها من قرار. . . آه، لو أصبحت الدنيا كلها وطناً واحداً، إذن لانمحت الآث والشرور! والوطن هو قانون الغابة في الملكة الحيوانية لأنه للأسد بأن يحمي حوزته ويذود عن عرينه، ثم لا يتورع عن أن يقتحم كناس الظبي الوديع فيفتك به ويهدم داره)
ونسيت أن الوطن هو أم يتدفق الحنان من قلبها، وأب يتوثب العطف من حناياه، وأبناء هم نور العين وجمال الحياة وبهجة العمر وسعادة القلب، وأهل تهدأ بهم النفس ويأنس إليهم الفؤاد، وهو عش الطير يأوي إليه ليجد الراحة من عناء العمل ويلمس الطمأنينة من عراك العيش ويشعر بالأرض من فزع العاصفة. أرأيت - يا صاحبي - طيراً يحوم حول بقايا عشه المتهدم بعد أن عصفت به ريح صرصر عاتية أو عبثت به يد غشوم قاسية؟ أنه - لا ريب - يتضرم أسى ولوعة ويتنزى ألماً وحسرة لأن عشه الحبيب قد تمزق فوجد - في قرارة نفسه - فقد وطنه العزيز.
هذا هو الوطن في نفس الطير، فما بال الإنسان؟ ولكنك أنت أحسست الضياع في طفولتك والحرمان في شبابك والوحدة في رجولتك، فلا عجب إن أنت كفرت بالوطن لأنك لم تستشعر معناه إلا في تلك الحجرة الضيقة المظلمة في ذلك الزقاق القذر الوضيع حيث عشت وحدك ضائعاً منبوذاً؛ فحملت لأهلك ووطنك كراهية وبغضاً، وتأرثت نفسك حقداً وحسداً، وحاولت - جاهداً - أن تضع من جمال الوطن وفتنته وأن تثلب فنونه وآدابه وأن تحتقر ذكاءه وعبقريته وأن تحطمن صفائه ورونقه عسى أن تشفى داء نفسك السقيمة أو أن تنقع غلة قلبك المريض ورحت تنافح عن الأجنبي وتشيد بعلمه وترفع من قدره لأنه نفخ فيك أنت، يا صاحبي، من روحه ووسمك بسماته وخلق منك فيلسوفاً كبيراً، تفلسفت آراؤه فخان الوطن والدين واللغة.
وسمعتك تقول: (أما الدين فهو غسل ثقيل ينحط بهمم الرجال عن أن تنهض بجلائل الأعمال، وهو خرافة الأخلاق السامية، وهو روح التخاذل والتواكل. ألا تعلم بأن اليهودي يتوسل إلى الثراء بالسرقة والربا، ثم يسيطر - بالمال - على الأمم يصرفها كيف شاءت أنانيته وأطماعه؟ وأن الدول القوية تغتر الشعوب الضعيفة بكلمات الشرف والعدل ولا رأفة وما بها غير الرياء والمكر والخداع وغير شره المال وكلب الذهب؟ وأن الأخلاق القويمة لتصطرع في نفس الرجل القوي مثلما تصطرع الأحزاب في قلب الأمة الفتية فتنهش لحمها وتعصف بحيويتها).
ونسيت أن الدين نور سماوي يهبط إلى الأرض فتنجاب له ظلمات الحياة ومتاعبها، ويتدفق في نواحي الروح فيغمرها بالسلام والطمأنينة ويجذب الإنسان عن النوازع الأرضية ويترفع به عن الوساوس الشيطانية ليلبس ثوب الملك وهو إنسان يسير على الأرض. . .
إنني أذكر - يا صاحبي - يوم أن أرغمت على أن أعيش في قرية نزل بها بلاء الحمى النخاعية الشوكية يحطم أهلها ويعصف بشبابها فانطلقت إلى طبيب القرية - وهو صديقي - أسأله دواء أتقي به شر هذا الوباء الجارف، فما راعني إلا أن أرى في نظراته علامة الدهشة، فقلت له! (ما بالك؟) قال (ألست مسلماً؟) قلت (بلى، وما للإسلام ولهذا البلاء النازل؟) قال (فأنت تتوضأ خمس مرات كل يوم، وفي كل مرة تتمضمض ثلاث مرات؟) قلت (نعم!) قال (هذا وقاء من شر هذا البلاء) ثم اندفع في حماسة يحصي الفوائد الصحية للوضوء والصلاة. هذا هو رأي العلم في بعض معاني الدين، فماذا تقول فلسفتك أنت؟
والدين يشفي الأدواء الاجتماعية مثلما يشفي الأدواء الجسمانية.
وسمعتك تقول (وأنا رجل أناني لا أعتقد إلا في الكسب المالي ولا أوقن إلا بالفوز المادي. وهذا (فلان بك) رجل عظيم، سلك إلى غايته طرقاً لا يردعه عنها دين ولا خلق، فزوجه فتاة شابة ذات جمال ودلال تمهد له السبيل الوعر وتفتح له الباب الموصد ثم تدفعه إلى الهدف وفي سهولة ويسر، وهو من ورائها يندفع حتى كاد يبلغ. ولو أنه تشبث بخرافة الدين أو تعلق بسراب الأخلاق لقعد عن الغاية وتخلف عن الركب).
ونسيت أن الرجولة والشهامة والنزاهة كلها من أمور الدين.
ثم قلت (إن من عبث الأخلاق ما نرى: فالفضائل أشياء نسبية، يتحلى بها الرجل من أوساط الناس فيبدو في أعين الناس فاضلاً كاملاً ويتمسك بها الرجل وهو من العظماء فيتمثله الناس منافقاً مخادعاً. وإن الناس ليتندرون بالرجل العظيم إن هو خلا إلى المسجد والمسبحة والمصحف بقدر ما يسخرون من الرجل العادي إن هو عكف على مجالس الخمر والقمار والفجور. وإن الرجل العظيم ليسرق الآلاف فلا تزدريه عين ولا يحتقره قلب، وإن سرق الرجل العادي درهماً واحداً كبله القيد الحديدي وأن الزعيم اللبق ليسطو على الشعب فيستلبه من ماله ومن مشاعره ليعبث بها في لذائذه ومسراته ثم لا يجد إلا التبجيل والتقديس) ونسيت أن ميزان الأخلاق - في رأي الدين - واحد لا يتغير: فالسارق لص أبداً، ومن يفرط في عرضه فهو الديوث.
ولكن لا عجب، فأتت تريد أن تبلغ غاية المجد في غير كد ولا جهد، وأن المرء ليستطيع أن يشبع رغبات نفسه ونوازع قلبه عن طريقين: الجهاد المر المتواصل والاستخذاء الهين الوضيع. وأنت قد دأبت على أن تستخذى لرئيسك لتكون - في يوم ما - رجلاً ذا مكانة وشأن. وفاتك أن المجد الذي يقام على دعائم من المداهنة والخداع والتمويه مجد متداع يوشك أن يهوى ويتهدم.
وقلت: (أما اللغة فقد انحطت من غيرها من اللغات الحية، فماذا فيها غير كلمات صلبة جاسية وعبارات جافة قاسية وألفاظ واهية متداعية، في حين أن اللغات الغربية تموج بالحياة وتنبض بالعقل وتخفق بالثقافة وتتألق بالعلم. ونحن أمة وهى عزمها وانحلت قوتها فذهبت - في ضعف - تفخر بما تلفظ بطن الأرض من آثار وتتعلق بأهداب خيال زال منذ زمان. لقد أصابتنا كبوة لا نستطيع أن نفيق منها إلا أن تغلق أذهاننا في وجه الثقافة العربية النابضة).
ونسيت أن في اللغة مجد الأمة وعزتها القومية، وأن من خلالها تتأرث حرارة الوطنية والكرامة. هذه اللغة - يا صاحبي - قد وسعت علوم اليونان وفلسفتهم في فجر النهضة العلمية الإسلامية واقتحمت باب الرياضة والفلك والطب، ولم تقتصر عن العلوم الطبيعية والميكانيكا. . . فوضعت بذلك أسس النهضة العلمية في أوربا حين كان الغرب يغط في سبات عميق ويرسف في أغلال من الجهل والعمى.
وغفلت عن أن المكتبة العربية التي بين أيدينا الآن لا تمثل إلا خمسة في المائة من إنتاج الذهن العربي الشرقي، فلطالما عبث بها الفاتحون فأوسعوها حرقاً وتمزيقاً وقذفاً في أعماق النهر.
لعلك - يا صاحبي - تؤمن في قرارة نفسك بما أقول، ولكنك لبست القبعة ذات مرة. . . لبستها لتنزل عن كرامتك ولتنبذ المعاني السامية للوطن والدين واللغة.
كامل محمود حبيب