مجلة الرسالة/العدد 829/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 829/الكتب
العقد الفريد
للأستاذ محمود أبو ريه
كتاب العقد أو العقد الفريد - لابن عبد ربه اشهر من أن ينبه عليه، أو ينوه به، فهو من كتب الأدب الممتعة بل هو موسوعة أدبية غزيرة ضمت بين صفحاتها مما يفيد الأديب ويمد الكاتب، ويعين المنشئ ما لا يوجد في غيرها؛ ففيها أدب وتاريخ ولغة وشعر وعروض، وما إلى ذلك مما لم يجمع مثله في كتاب.
ولو رأينا أن نجمل الكلام في هذا الكتاب لقلنا: أن ابن عبد ربه قد حشد فيه خلاصة ما جمع من قبله كالجاحظ والمبرد وأبى عبيده والأصمعي والكلبي وابن قتيبه، وغيرهم مما يطول القول بذكرهم.
وهو لم يقف في مختاراته عند ما وقف غيره ممن سبقه، على ما عرف عن العرب ولا على ما أثر عنهم من أدب، بل نقل مما ترجم إلى العربية عن الهندية واليونانية والفارسية، وقد قال هو عن كتابه:
(وقد ألفت هذا الكتاب وتخيرت جواهره من متخير جواهر الآداب، ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب اللباب، وإنما لي تأليف الأخبار وفضل الاختيار وحسن الاختصار وفرش في صدر كل كتاب؛ وما سواء فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء، واختيار الكلام أصعب من تأليفه. وقد قالوا: اختيار الرجل وافد عقله. فتطلبت نظائر الكلام وأشكال المعاني وجواهر الحكم وضروب الأدب ونوادر الأمثال؛ ثم قرنت كل جنس إلى جنسه، فجعلته بابا على حدته. . وقصدت من جملة الأخبار وفنون الآثار جوهرا وأظهرها رونقا وألطفها معنى وأجزلها لفظا وأحسنها ديباجة وأكثرها طلاوة وحلاوة، آخذاَ بقبول الله تبارك وتعالى:
(الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه).
مؤلف الكتاب:
أما مؤلف الكتاب فهو: أبو عمر أحمد بن عبد ربه سنة 246هـ ونشأ بقرطبة وتوفي سنة 328هـ.
وقد قال فيه ياقوت (وكانت له بالعلم جلالة، وبالأدب رياسة وشهرة ديانة وصيانة) وقال الفتح بن خاقان (إنه حجة الأدب وإن له شعراً انتهى منتهاه، وتجاوز سماك الإحسان وسهاه):
وقال ابن خلكان: (كان من العلماء المكثرين من المحفوظات والاطلاع على أخبار الناس.
وقال فيه ابن سعيد:
إمام أهل أدب المائة الرابعة وفرسان شعرائها في المغرب كله) ولقد كان فوق ثقافته العالية في الأدب والتأريخ والفقه والتفسير والحديث، له شغف بالموسيقى والغناء.
طبعات هذا الكتاب:
طبع هذا الكتاب أكثر من أربع طبعات أميرية وأهلية - وكلها - كما يقول الأستاذ الجليل الدكتور أحمد أمين بك: (في العيوب سواء - إذ ملئت بالتحريف والتصحيف والنقص والزيادة حتى كاد يكون شيئاً آخر)
ولقد كان هذا الكتاب هذا الكتاب من الكتب التي قرأناها في صدر شبابنا، وذقنا من أغلاطه وتحريفاته مثل ما ذاق غيرنا. وكم كنا نتمنى - كما يتمنى سوانا - لو أن هذا الكتاب القيم قد خرج في طبعة صحيحة منقحة كما خرج غيره من أمهات كتب الأدب مثل الكامل للمبرد الذي شرحه شيخ الأدب الشيخ سيد المرصفي رحمه الله، وعيون الأخبار الذي طبعته دار الكتب، وكتاب الأغاني الذي لا يزال يطبع أو غيرها.
وحوالي سنة 1938 كنت في زيارة الأستاذ الجليل الدكتور أحمد أمين بك في دار لجنة التأليف والترجمة والنشر، فكان من حديثي معه أن اللجنة التي يرأسها قد وجهت أكثر غايتها - وكان هذا يومئذ أمرها - إلى لتأليف والترجمة، ولم تعن بالنشر؛ ولو أنها حاولت نصيباً من جهودها إلى النشر لكان ذلك خيراً للناس ولها. وبخاصة فأن النشر من صميم عملها.
ومما ذكرته لحضرته حينئذ، وحبذا لو اهتمت اللجنة بطبع كتاب العقد الفريد على نفقتها، فأنه لا يستطيع أحد أن ينشره صحيحاً غيرها، فأجابني حفظه الله بأن اللجنة قد أخذت فعلاً في نشر هذا الكتاب وأنها تعد العدة لذلك.
عمل اللجنة:
أما عمل اللجنة في طبع هذا الكتاب فإنا ندع القول في بيانه إلى الأستاذ الجليل الدكتور أحمد أمين بك.
قال حضرته - بعد أن ذكر عمل الأستاذ محمد شفيع أستاذ العربية في جامع بنجاب الذي بذل مجهوداً كبيراً في العقد، وأخرج جزءين كبيرين منه، وأن اللجنة قد استفادت من عمل هذا الأستاذ فوائد عظيمة - (ثم هانحن أولاء نحاول أن نخرج الكتاب إخراجاً علمياً - مصححين ما استطعنا - أغلاطه معارضين نسخه المختلفة بعضها على بعض مثبتين أصحها ذاكرين في حواشي الكتاب ما ورد في النسخ الأخرى مكملين ما نقص من عباراته مفسرين ما أبهم من كلماته، شارحين ما غمض من مشكلاته، ضابطين ألفاظه، متحرين أصح الأقوال في نسبة المقطوعات الشعرية والنثرية والأخبار إلى أصحابها مبينين اختلاف الروايات في الشعر والنثر، منبهين على أحسنها معنونين كل خبر وكل مقطوعة بعنوان خاص يدل عليه ويجمع ما فيه من الإيجاز وكان أول ما فعلنا أن كتبنا إلى الأستاذ ريتر المستشرق الألماني بالأستانة نرجوه أن يتحرى نسخ (العقد) في مكاتب الأستانة ليتبين خيرها وأحسنها فكتب لنا وصفاً مطولاً بالموجود من نسخ الكتاب ومزاياها وعيوبها، وقد اخترنا خيرها - بناء على وصفه - ورجوناه أن يصورها لنا بالفوتوغراف، ففعل مشكوراً، وقد استعنا في جانب هذه النسخة بجميع نسخ العقد الموجود في دار الكتب المصرية خطة ومطبوعة).
وبعد أن جمعت اللجنة من هذه النسخ تسعاً أخذت في طبع هذا الكتاب، وكان ذلك ف سنة 1940، وقد ظهر منه إلى الآن خمسة أجزاء في حوالي 2700 صفحة من أكبر قطع وبقي على ما نظن جزء غير الفهارس.
هذا هو كتاب العقد في حالته البديعة التي أخرجته بها لجنة التأليف والترجمة والنشر ونشرته على الناس بتصحيح فائق، وتنسيق رائق، وطبع جميل وورق صقيل ليكون من كل طالب على حبل الذراع بعد أن ظل قروناً لا يجد من يعني به أو يهتم بأمره على نفاسته وعظم شانه وحاجة الناس إليه. وقد أصبحت هذه الطبعة التي خرجت اليوم بهذه الدقة وهذا الرواء، هي التي يطمئن إليها قلب الأديب ويثق بها فكر الباحث، وما سواها من