مجلة الرسالة/العدد 828/إلى الأستاذ توفيق الحكيم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 828/إلى الأستاذ توفيق الحكيم

مجلة الرسالة - العدد 828
إلى الأستاذ توفيق الحكيم
ملاحظات: بتاريخ: 16 - 05 - 1949



للأستاذ سيد قطب

. . . لكأنما أسمعك تقول في عتب يشوبه الألم والغضب: لماذا تنسى أنني من قبل قد عالجت: (أهل الكهف) و (شهرزاد) و (سليمان الحكيم) وكلها موضوعات إسلامية أو شرقية. ولم تكن محاولاتي قاصرة على (أوديب) و (بيجماليون) و (يراكسا).

شيئاُ من التمهل يا صديقي الكبير.

أتذكر على أي أساس عالجت هذه الأساطير الشرقية؟

لقد عالجتها على الأساس الذهني. . . فكرة تناضل فكرة؛ أفكار مجردة تتحرك على (مسرح الذهن) كما ألهمت أنت أن تسميه!

إن عبقرية الشرق الأصلية لم تكن مجرد عبقرية ذهن تجريدية. لقد كان الذهن قوة من قواتها ولكن لم يكن قوامها الأصيل: إنها أبدا كانت عبقرية حس حي أو روح رفاف. نجدها في الهند صوفية مضحية عميقة، وفي العرب طبعاُ حياُ متوفزا، وفي مصر وداعة وبساطة وإيمانا.

إن عبقرية الشرق الأصيلة لم تكن يوما ما مجرد عبقرية ذهن تجريدية. لقد كان الذهن قوة من قواتها ولكنه لم يكن قوامها الأصيل: إنها أبدا كانت عبقرية حس حي أو روح رفاف. نجدها في الهند صوفية مضحية عميقة، وفي العرب طبعا حيا متوفرا، وفي مصر وداعة وبساطة وإيمانا.

إن عبقرية الذهن التجريدية عبقرية غربية. وعلى وجه خاص، عبقرية فرنسية!

آه يا صديقي! ليتك لم تذهب إلى فرنسا!

ولكنك ما كنت بمستطيع إذن أن تقوم بدورك الأساسي في وضع القالب الفني الصحيح للتمثيليةالعربية. فدراستك هناك للمسرح الإغريقي هي التي مكنتك من وضع القالب السليم.

إن الخير لا يمكن تمحيضه. والشر لا يخلو من الخير بحال.

والآن يا صديقي هل أدلك على النبع؟

لقد قال لك أستاذك الفرنسي كما قلت في زهرة العمر، وأنت تعرض عليه محاولاتك باللغة الفرنسية: (أكتب بلغتك لتبدع)! هذا هو نفسه ما أقوله لك: استوح (ميراثك) لتبدع!

إن هذا الميراث هناك كامن في ضميرك، تخنقه ثقافتك الفنية الفرنسية. إنك تبعد عنه كلما ذهبت إلى الإغريق وغير الإغريق تستلهم أساطيرهم القديمة. إنك مصري. مصر القديمة الغائرة في أعماق التاريخ، السارية في ضمير الزمن. . . مصر هذه ما تزال كامنة في مصر الحديثة التي تعيش في ثوب مستعار. . . مصر القديمة بأساطيرها هي نبعك الشخصي العميق. ولن تحتاج إلى رحلة وراء آلاف السنين. ما عليك إلا أن تعيش مفتوح القلب والحس والعين في ريف مصر وفي أحيائها العامة. . . دعك من (سليمان باشا) و (الزمالك) و (المعادي) و (الدقي). . . هذه رقع مستعارة في الثوب الأصيل. هذه لطخ شوهاء في اللوحة المتناسقة.

أفتح قلبك وحسك وعينك، ثم أقرأ شيئا عن مصر القديمة ولاحظها ما تزال حية في ضمير الشعب وعاداته وسلوكه. . . ثم أكتب. . .

خذ القالب الأوربي. القالب وحده. ولكن صور في هذا القالب الضمير المصري، بروح مصرية، وحاول أن تهتدي إلى عبقرية الشرق الأصلية. وهي ليست مجرد عبقرية الذهن التجريدية!

وحين تتناول الأسطورة المصرية لا تحاول أن تجردها من اللحم والدم، والانفعالات والمشاعر، لترى ما وراء ذلك كله من فكرة ذهنية تجريدية. . . خذها حية بلحمها ودمها، وصغ منها مسرحيتك.

ولكنك لن تصنع هذا إلا أحسست الأسطورة حية في شعورك، غامضة غائرة في ضميرك.

إن أجمل الأعمال الفنية ما تمت في نصف وعي ونصف غيبوبة. أستيقظ حين تضع القالب فحسب، أما ذات الموضوعفيجب لكي يعيش ويخلد أن يكون غائرا في أعماق ضميرك إلى حد أن تشعر وأنت تكتبه كأنك عشته في زمن لا تذكره ولا تدريه!

إنك يا صديقي لن تتجاوز منطقة التاريخ الأدبي إلى منطقة القيم الفنية المطلقة، إلا حين تهتدي إلى النبع - نبعك الموروث الأصيل - والى عبقرية الشرق - عبقرية القلب والضمير.

ولكني أعرف أن هذا عمل عسير.

إن (اللعب) الذهني على الأساطير الإغريقية يسير على قواعد موجودة فعلا، فالأوربيون عبدوا الطريق. أما استلهام الأساطير المصرية فممل تبدؤه أنت بلا نموذج أمامك مرسوم!

ولقد يكون من المغالاة والإرهاق أن نطلب إلى فرد واحد، وضع القالب الجديد في الشكل وفي الوضع. . . ولكنني لا أجد حتى اليوم سواك في عالم التمثيلية أطلب إليه هذا الاقتراح المعقول!

لقد وجد في عالم القصة والرواية من يستلهم الطبيعة المصرية الخالصة، بروح مصرية خالصة - وهذا هو الأهم. فليس من الضروري - في غير الأساطير وما يشبه الأساطير - أن يكون الموضوع مصرياً، ولكن المهم أن يعالج بروح مصرية.

والاستطراد يسوقني إلى (قنديل أم هاشم) ليحيى حقي. وإلى (خان الخليلي) لنجيب محفوظ.

لقد استلهم يحيى حقي أعمال الطبيعة المصرية وهو يصور الإيمان بكرامات الست (أم هاشم) وما يتصل بها من عقائد وأساطير. كذلك استلهم نجيب محفوظ هذه الأعماق وهو يصور (سخرية القدر) بآمال الناس وأحلامهم وحياتهم جميعاً.

لقد كانا مصريين دماً ولحماً وعاطفة وشعوراً في هذين العملين المعجبين. . . وذلك هو الطريق!

وعلى ذكر (نجيب محفوظ) فإني أستشعر في نفسي الخوف على هذا الشاب القصاص الموهوب!

لست أذكر متى سمعته يقول ونحن نتحدث عن رواية: (زقاق المدق) إنه أراد أن يدخل قالباً معيناً في الرواية المصرية. قالب الرواية العرضية لا الطولية، وأنه لهذا صاغ روايته في هذا القالب الجديد.

القالب. . .! هذا هو الخطر الأكبر يا صديقي نجيب! لست أفهم هذه الكلمة اللعينة! أفهم أن يتم العمل الفني أولا فإنك لا بد أن تخنق عملك ليكون وفق هذا القالب. وفي كل خطوة ستستيقظ لتقيس هذا العمل، وترى إن كان قد خرج على القالب الموضوع!

لا. لا. حذار أيها الصديق المرجو. إن القالب لا قيمة له إلا في عالم التاريخ!

معذرة - أيها الأستاذ الكبير توفيق الحكيم - لقد شطح بي الحديث إلى هنالك. والحديث شجون!

فلنعد إلى ما كانا فيه. . .

فكرة أريد أن أصححها عن (الفلسفة الإسلامية) كما يصورها ابن رشيد وابن سينا والفارابي. . . فقد ألمت بهذا في بحثك الممتع الطويل.

إن هذه الفلسفة قد تصح تسميتها (الفلسفة الإسلامية) بمعنى أنها قد وجدت في أرض إسلامية على يد أفراد مسلمين.

ولكن يكون من الخطأ العميق اعتبارها (فلسفة الإسلام) وقد آن أن تصحح هذه الغلطة القديمة الحديثة!

إن فلسفة هؤلاء الفلاسفة إن هي إلا انعكاسات للفلسفة الإغريقية في ظل إسلامي. وهي لا تبلغ أن تصور الفكرة الكلية للإسلام عن الكون والحياة والإنسان. هذه الفكرة الخالصة الكاملة المتناسقة.

ما أشبه الدور الذي قام به هؤلاء الفلاسفة الإسلاميون بالدور الذي تقومون أنتم به الآن - أنت وجيل التمهيد من الشيوخ - فتنة بالفلسفة الإغريقية، ومحاولة لتفسير الإسلام على ضوء هذه الفلسفة. والإسلام يحمل فكرة مستقلة مختلفة في طبيعتها الأصلية، عن طبيعة الفكرة الإغريقية من الأساس!

من أذهانهم لا من قلوبهم استمدوا فلسفتهم. . . وهكذا تعملون!

لهذا وجدت تلك الفلسفة اهتماماً وعناية من الأوربيين ورثة الإغريق؛ لأنهم قادرون على فهمها والإحساس بها. أما فكرة الإسلام الصميمة الكلية عن الكون والحياة والإنسان فهي شيء آخر لم تصوره تلك الفلسفة، ولم يتمثله الأوربيون. وتبعاً لذلك لم يتمثله المحدثون من المسلمين الذين يتلقون كل ثقافتهم عن الأوربيين!

ومالي ألومكم أنتم، والأزهر ذاته لا يدرس في كلياته إلا تلك الفلسفة الإسلامية باعتبارها فلسفة الإسلام!

أنا واثق أن سيكون لنا أدب خالد؛ وأن ستكون لنا حياة فكرته وإنسانية ملحوظة. ذلك يوم نؤمن بأنفسنا، يوم نشعر أن لدينا ما نعطيه، يوم نستلهم طبيعتنا الأصلية. يوم نهتدي في ذواتنا إلى النبع العميق.

(واشنطون)

سيد قطب