مجلة الرسالة/العدد 827/ربيع. . . وربيع!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 827/ربيع. . . وربيع!

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 05 - 1949



للأستاذ إبراهيم محمد نجا

قال لي صاحبي غداة رآني ... باكياً، فوق الروابي

كيف تبكي وفي الوجود ربيع ... شارف الكون من وراء السحاب؟!

وسرى فيه بهجة ونماء ... وشباباً يضم روح الشباب

هو في الزهر رقة وعبير ... وخرير في الجدول المنساب

وهو في الأفق بسمة وصفاء ... وانطلاق من أسر كل حجاب

وهو في القلب كل عذراء حُلمٌ ... بحياة في جنة الأحباب

أَنت يا صاح بلبل فترنم ... في الروابي أو في رحاب الفضاءِ

واقطف الزهر، وانسم العطر، واسكر ... من رحيق الندى، وخمر الضياءِ

زهرة في الربيع - لو كنت تدري - ... هي خير من عالم في الشتاء

قطرة الماء في الربيع تراها ... بهجةَ النفس، وهي قطرة ماء!

لمعة النور في الربيع لها في النفس رَجعٌ كأعذب الأصداء!

ساحر ذلك الربيع المفدَّى ... مبدع للحياة والأحياء!

أنت في ريقَّ الشباب، فلا تب ... ك، فإن الشباب روح الحياةِ

وإذا لم يكن من الدمع بُدُّ ... فتنظّر عهد المنى الضائعات

حين يأتي المشيب وهو خريف ... تدرك النفس فيه سر الممات

سوف تبِكي عند المشيب كما تج ... هش نفس عميقة الحسرات

أو كروح قد أخطأت عالم النو ... ر، فهامت في عالم الظلمات

لذة العمر في الشباب، فبادر ... لذة العمر قبل يوم الفوات!

ليت شعري: ما سر هذا البكاء ... والمعاني نشوى بخمر الغناءِ؟

فالربيع الجميل لحن جميل ... عرفته ملائك في السماء

والصباح الوضيء لحن مضيء ... تتراءى ظلالهُ في السماء!

كل ما في الحياء يعزف لحناً ... من بهاء ورقة وصفاء

كل ما في الحياة ينشر في النف ... س أريج المنى، وعطر الرجاء أنت تبكي، وكل شيء يغني! ... ليت شعري: ما سر هذا البكاء؟

قلت: يا صاحبي بكيت لأني ... لم أجد الحياة أسباب أُنسي!

الربيع الذي تراه، بعيد ... عن شعوري وعن ضميري وحسي

والربيع الذي أريد، بعيد ... عن حياتي كأنه حلم أمسي

أنت لا تنظر الوجود بعيني ... لا. . . ولا تدرك الحياة بنفسي

رب شمس تشع في الكون نوراً ... حجبتها عني سحائب يأسي!

وربيعٍ يسقي الرحيق المصَّفى ... ما سقاني إلا مرارة كأسي

لا تحدث عن الربيع، فإني ... قد عرفت الربيع روحاً ومعنى

أنت لا تعرف الربيع إذا كنت ... تراه زهراً ونهراً وغصناً

ليس روح الربيع ما تجد النف ... سُ، ولكنه الذي تتمنى

هو عند العشاق ليلة حب ... طار فيها طير الهوى وتغنى

ويراه المفزَّعون الحياري ... في صحاري الحياة، هدناً وأمناً

خير ما في الحياة أن تتمنى ... فمُرِ القلب دائماً أَن يخبَّا

إن تمنيتَ أََن تعيش وحيداً ... في الصحاري، أو في أََعالي الجبال

فهناك الربيع. . . تبصره النف ... س إذا حلقت وراء الأعالي

وهناك الربيع. . . في هدأَة اللي ... ل، وهمس الربا، وصمت الرمال

وانطلاق الحياة من عالم الحس، ... إلى عالم الرؤى والخيال

واهتزاز الوجدان إذ يتلقى ... من جمال الحياة سرَّ الجمال

خالد ذلك الربيع المرجىَّ ... وربيع الأنام مِلك الزوال

وإذا شئت أن تعيش مع النا ... س، وتلقى الربيع زهراً وعطراً

فاقطف الزهر، وانسم العطر منه ... واملأ الكأس من ندى الفجر خمراً

غير أنَّ الزهر الجميل سيفنى ... ثم يغدو في باطن الأرض سراً!

وتجف الأوراق في كل غصن ... فترى الغصن ذاهلاً مصفراً!

هذه سُنَّةُ الحياة، فلا تح ... زن إذا أَقبل الربيع ومرَّا

كل ما ليس باللباب سيمضى ... ثم يأتي، وهكذا مستمراً لا تلمني إذا أََضعت ربيعي ... فربيعي مكفن بالدموع!

ما غناء الربيع إن لم يُثر قل ... بي وروحي، ولم يهز ضلوعي؟

ما غناء الربيع ما دام لم يب ... عث ولهفتي ونزوعي؟

كان عندي من الربيع مثال ... فأباد الردى مثال الربيع!

فطويت الأعراس. . . أعراس أيا ... مي، وأطفأ بالدموع شموعي!

إن يكن حل في الربوع ربيع ... فربيعي هناك تحت الربوع!

يا ربيع الحياة إني غريب ... عنك، فاذهب إلى سواي ودعني

يا ربيع الحياة إن حياتي ... لربيع أضلاعه الموت مني!

كان روحاً مرفرفاً في ضميري ... وشعوري، وكان قلباً يغني

كان وحيداَ لكل فن جميل ... ومثالاً لكل روعة حسن

كم سقاني الأفراح في كأس أيا ... مي، وأصغى إلى غنائي ولحني

ثم جفَّت أفراح كأسيَ لما ... غاب عني، فصرت أشرب حزني!

لا تحدث عن الشباب، فإني ... فقدت الشباب قبل المشيب!

أين مني الشباب، والقلب يحيا ... بين جنبيَّ كالأسير الغريب!

كان قلبي - إذ كنت أحيا بقلبي - ... يتغنى مثل الهزار الطرُوب

كان يبني بالوهم عشاً، ويمضي ... بالأماني في كل أفق رحيب!

ماله الآن لا يعيش على الوه ... م، كما عاش منذ وقت قريب!

أين أشواقه، وخفقُ جناحي ... هـ، وراء الأفق البعيد الرهيب!

ليت شعري كيف استحال رماداً ... بعد أن كان جذوة من لهيب!

هذه آية المشيب، وإن كن ... تُ أراني في عمر غصن رطب!

كيف لا أذرف الدموع وقد حا ... ن مغيبي من قبل وقت المغيب!

الوداع الوداع أيامَ عمري ... وسلام على الشباب الحبيب

(الإسكندرية)

إبراهيم محمد نجا