مجلة الرسالة/العدد 827/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 827/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 05 - 1949



بنت عمي راقصة

للأستاذ عباس خضر

حينما أقبلت على صديقي الأديب المعروف الأستاذ محمد مختار البرجي، وهو جالس في إحدى أمسيات الصيف الماضي على طوار (بار اللواء) - ألفيته متثاقلا يضع مرفقه على المنضدة ويسند رأسه إلى راحته، فأخذت مجلسي على الكرسي المقابل له في الناحية الثانية من المنضدة، مكتفياً بتحية خفيفة دون أن أمد يدي لمصافحته، ورد هو التحية رداً خفيفاً أيضاً، ثم أردف يقول وهو يميل برأسه على يديه المشتبكتين فوق المنضدة:

- سأنعس خمس دقائق.

- فلتكن عشراً.

وأرسلت بصري إلى الشارع وإلى العابرين به، ولكن فكري كان مشغولاً بأمر الصديق، أهو متعب أم مهموم؟ ولم يدع هو هذا التفكير يشغلني طويلاً ويقلق بالي، فقد رفع رأسه وأشعل لفافته؛ وابتدأ الحديث بيننا تافهاً، وقد تجنبت أن أسأله عما يهمه، ولكنه نظر إلي وقال:

سأقص عليك قصة. . . كنت أصطاف منذ سنين في رأس البر، فقام بنفسي في إحدى الليالي أن أجول بمدينة دمياط، وطاب لي الجلوس على قهوة بها. وبينما أنا جالس اقترب مني شاب كان يتأملني من بعد وأنا أتغافل عنه وقال لي:

- حضرتك الأستاذ محمد مختار البرجي. .؟

- أتعرفني؟

- أنت خالي. . .

- خالك؟! ومن أنت؟

- أتعرف أن لك عماً اسمه على مختار؟

- نعم أسمع عنه، لقد توفى أبي وأنا صغير، ونشأت مع أمي في القاهرة، وكانت تذكر لي عمي هذا وعماً آخر وتقول إنهما في دمياط، ولكن من أنت؟ وما مكانك من عمي علي مختار؟ قل لي أولاً كيف عرفتني! - كيف لا أعرفك وصورك تملأ بيتنا. . نفصلها من الصحف والمجلات ونزين بها الجدران، واسمك يملأ أسماعنا ويبعث النشوة في نفوسنا. . . هلم يا خالي. . . كم تسر أمي برؤيتك! أمي بنت عمك علي المختار. . .

طرق الشاب باب منزلهم، وقد طلب إلي أن أتأخر قليلاً حتى أكون بحيث لا يراني من يفتح الباب، وفتحت له أمه، فبادرها بأنه سيفاجئها الآن بهدية نفيسة هي أعز أمانيها، ثم أردف: سترين الآن يا أماه ابن عمك الأستاذ محمد مختار البرجي.

وتقدمت، وكن لقاء حاراً أترك وصفه لأنك تدركه من طبيعة الموقف. واستمر الصديق يقول: لا أطيل عليك الكلام. عرفت مما دار بيننا من حديث أن الشاب يحل محل أبيه المتوفى في تجارته الموفقة، وأن عمي الثاني وله أولاد يعيشون أيضاً في دمياط، كما عرفت من بنت عمي هذه أن لها شقيقتين متزوجتين.

وتبادلنا الزيارات العائلية، وتوطدت العلاقة، وتم التعارف بين هؤلاء الأقارب الأعزاء وبين أسرتي وأولادي في القاهرة، وساد هذه العلاقة مودة وسرور كان لهما أثر كبير في تجديد نفوسنا جميعا. ثم مضت الأيام، وصرنا نشعر بالقرابة، وغفرنا لصروف الزمن ما قضت به من التشتت فيما مضى.

واحتسى الأستاذ البرجي قهوته، وجذب أنفاسا من لفافة أشعلها واستأنف يقول: وجاء إلى مرزوق أفندي، وهو ابن عمي الثاني، وقد اعتاد زيارتي عندما يأتي إلى القاهرة، ولكنه هذه المرة جاء لأمر. . . قال:

- أعد نفسك لما سألقي عليك من نبأ.

- قل. . .

- إنه نبأ مؤلم! وأحب أن تكون شجاعاً في تلقيه.

- هاته، أسرع، فقد يكون كلامك أشد منه.

- ما أحسبك لقيت في حياتك أشد مما سأفضي إليك به، ولا مفر لي من ذلك، لأن هذا الأمر يهمك كما يهمنا.

- لا تخش شيئاً فأنا أليف شدائد.

- أتعلم أن لك أبنت عم اسمها سنية وأنها. . . راقصة!! - إيِه. . .

- ألم تقل إنك حليف شدائد؟ لا تجزع يا أخي لأني أريد أن تعاونني في ثبات على ما جد في أمرها. وأجمل لك قصتها في أن أمها كانت قد تزوجت بعد وفاة أبيها، وكانت أخواتها الثلاث قد كبرن وتزوجن، أما سنية فقد ضاق بها زوج أمها، وضاقت هي بما لقيت من قسوة وخشونة، فتسللت إلى القاهرة، ثم احترفت الرقص، وهي الآن تعمل في إحدى (الصالات) وكانت قد تزوجت بشاب من أهل الفن توثقت بينها وبينه أسباب المودة في أثناء عملها معاً في (الصالة) وعاشرها سبع سنين ثم طلقها أخيراً.

- إيِه. . .

- وقد ذهبت إليها اليوم وأردت أن أنقذها من هذه البيئة فعرضت عليها الزواج، فأبت، وسخرت مني. وقد اعتزمت أمراً أريد أن تعاونني عليه. . . نقتلها فنغسل عارنا بدمها.

- هون عليك يا أخي، فالذي بنفسك سيذهب بعد حين، ولن تقتلها، وأنا لا أستطيع قتل دجاجة. اذهب إلى حالك ودع الأمور تجري في مجاريها.

ولم أرد أن أخاشن ابن عمي وهو في زيارتي، فتلطفت معه حتى ودعته وانصرف بعد الغداء، وقد انفثأ غضبه، وعاد أدراجه إلى بلده كأن لم يكن شيء. وكنت حرياً أن أسأله عما جد في شأن ابنة عمنا وهي هي كما يعلم منذ أمد بعيد، وجعلت أفكر في الأمر وأنا لا أستطيع أن أتصور كيف نقتل فتاة دفعها التيار إلى هذه الناحية من الحياة. . . وهل تقتل الفتاة لأنها راقصة؟! وكلما تذكرت ما كان يريدني عليه من المعاونة على قتلها عرتني رعدة اشمئزاز واستنكار لفكرة القتل البشعة. ويختلط هذا كله بألم يحز فيها حينما أتصور حياة الراقصات التي أعرفها، وأن بنت عمي واحدة منهن. . . ودار رأسي من التفكير والألم.

وأخذت طريقي إلى نادي الصحفيين. وما أخذت مجلسي هناك حتى جاء الخادم يدعوني إلى التليفون، فأمسكت السماعة وأصغيت، فسمعت صوتاً ناعماً يقول:

- أنا قريبة لك.

- أعرفك. . . سنية بنت عمي.

- إذن حضر إليك اليوم مرزوق أفندي. ولكن كيف تقول إني بنت عمك؟ ألا تنكرني؟! - إنك بنت عمي من غير شك. أريد أن أراك.

- وتريد أيضاً أن تراني؟ أجاد أنت في كلامك؟

- دعي هذا، ولنتم الحديث حين تحضرين.

وأقبلت سنية بعد قليل، ومن المتبع في النادي أن يكتب الزائر اسمه في دفتر الزائرين، فأمسكت أنا القلم وكتبت اسمها هكذا: سنية علي البرجي.

- وانتبذنا ركناً قصياً بالنادي، وهي تقول لي:

- إنّ اسمي سنية علي فقط. فلم أرد أن ألوث اسم (البرجي) الذي عرفت أنت به.

- ليكن اسمك من الآن سنية علي البرجي!

- لا أكاد أصدق ما أرى، فما كنت أطمع أن أنال اعترافك بي فيما بيننا فضلاً عن مجاهرتك بقرابتي!

قالت ذلك وطأطأت تفتح حقيبة يدها وتخرج منديلاً تمسح به دموعها، ثم تابعت:

أما مرزوق أفندي سامحه الله. . . لقد كان منزلي مثواه كلما جاء إلى القاهرة، ولم أكن أضن عليه بما يطلب حين تقصر يده. . . فما باله اليوم يستشعر العار في مسلكي؟!

- قال لي أنه عرض عليك الزواج.

- نعم ورفضت. ومن أجل هذا تعرضت لعاصفته. . . وأنا ما زلت - ولا أخفي عنك - أحب زوجي السابق، وقد تعودت لوناً من الحياة معه، ولم يذهب من نفسي الأمل في أن يعود إلينا حسن التفاهم ويرجع الماء إلى مجراه. ثم أنا إن تزوجت مرزوق أفندي فسيكون خيال الماضي منغصاً لحياتنا، وهناك الأهل الذين لفظوني ثم أنكروني. . . كيف يطيب لي العيش في وسطهم؟ ثم نظرت إلى نظرة فيها مزيج من الحنان والشكر، وقالت:

وأنت يا أبن عمي. . . كم أنا سعيدة بهذه الكلمة. ابن عمي كلمة بحثت عنها كثيراً فلم أجدها إلا حينما رأيتك تكتب أسمي في الدفتر سنية على البرجي!

وأجهشت، فانخرطت في بكاء. . . ثم قالت:

وأنت يا ابن عمي جبرت نفسي، جبر الله نفسك!

وانصرفت سنية وقد وعدتها بالزيارة في منزلها. وارتاحت نفسي لحسن استقبالي لها واغتباطها بذلك. ولكن كان في نفسي شيء يدفعني إلى بحث ما يحيط بها. . . نعم لقد مكثت سبع سنين متزوجة، وقد عرضت عليها في النادي أن يكون على حريتها فتطلب ما تشاء ففي المقصف كل شيء. . . ولكنها أبت وأكدت أنها لا تشرب الخمر وأنها ليست كما قد أظن. . . الخ. ولكني في الوقت نفسه أعرف (الصالات) وما فيها من (فتح) وغيره. . . لذلك جعلت أرقب أحوالها في زياراتي لها؛ فلم أجد ما يريب.

وكنت مرة في نادي نقابة الممثلين مع صديقي الأستاذ أحمد كامل أحد نجوم المسرح والسينما وعضو مجلس إدارة النقابة؛ وقصصت عليه قصة بنت عمي؛ وتعمدت أن أذكر اسمها - في عرض الكلام - قبل أن أفضي إليه بقرابتها وقصتها؛ وهو صاحب مغامرات مع كثيرات من هؤلاء الراقصات ومثيلاتهن. فلما وصلت في القصة إلى التلويح بشيء من التشكك، قال لي: حسبك لأن تطمئن أن تعلم أني لا أعرفها!

وصحبت سنية بعد ذلك إلى نادي نقابة الممثلين؛ وعرفت أعضاء النادي بها. ثم طلبت أن تشترك في النقابة؛ فقال لي الأستاذ أحمد كامل: إننا لا نقبل في النقابة راقصات (الصالات) ولكن من أجلك سأعمل على قبولها.

وقيد اسم سنية في نقابة الممثلين. وأقترن ذلك بالاتصال بأحد منتجي الأفلام؛ وتم الاتفاق على أن تظهر سنية في فلم جديد، وهي الآن تعمل به وقد تركت العمل في (الصالة).

واغتبطت اغتباطاً كبيراً بهذا التوفيق في نقل ابنة عمي من بيئة (الصالات) إلى مستوى الممثلين والممثلات، وأنت تعلم أن هذه الطائفة من أهل الفن قد أصبحت لها اعتبارها ومكانتها في مجتمعنا الحديث. وقد صرت أنظر إلى سنية نظرة المطمئن الذي لا يجد غضاضة في الظهور معها في المجتمعات، ولا أخفى أنني كنت قبل ذلك أواجه الأمر الواقع، وكنت أحدث نفسي بأنه يجب أن أقول للناس: هذه ابنة عمي! فلا أدعهم يتسارون بذلك. . . وكان سرورها بي وبمسلكي هذا يعوض في نفسي بل يفوق كثيراً ما أشعر به من خفي الشعور، بل يكاد يمنعه. أما بعد أن صارت ممثلة وعضواً في نقابة الممثلين فقد طابت نفسي وراق بالي.

وسكت الأستاذ البرجي، وهو ينزع الغلاف الشفاف عن علبة اللفائف الجديدة، ويطويه بيده ويرمي به، ثم يشعل لفافة ويأخذ منها نفسا؛ ويسند رأسه المثقل إلى راحته وسحابة الدخان تتراقص أمام سحابة الهم على وجهه.

قلت له: إن ما فعلت شيء عظيم، وهو يدعو إلى الارتياح، فما لك مهموماً؟

فنظرت إلى كمن يطلب الصبر حتى آخر القصة، وقال:

كنا أمس في النادي، أنا وسنية وأحد الوزراء السابقين، وهو صديق قديم معروف بميله إلى الأدباء والفنانين. جلسنا نحن الثلاثة معاً، فطاب مجلسنا، وتبسط معنا صديقنا الوزير السابق فأكثرنا من الطرف والدعابات، وأشرقت البسمات على وجوهنا، حتى جذب ذلك إلينا الأنظار. ثم أنفض المجلس، وتفرقنا في أرجاء النادي، وإذا أحدهم يدنو مني قائلاً في شبه همس:

لا تسرف في الظهور مع بنت عمك فنحن في مصر. . .

ولست أدري أحاسد هو أم ناصح، وعلى أي حال قد قال ما قال. . .

عباس خضر