مجلة الرسالة/العدد 824/من الأعماق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 824/من الأعماق

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 04 - 1949



للأستاذ كامل محمود حبيب

. . . وظل الشابان في تردد وحيرة، والفتاة في الدار لا تجد الخيرة من أمرها، وهي قد وافقت منذ حين على أن تتزوج من جلال. . .

وأصر جلال على رأيه في تشبث وعناد، لأنه خطب الفتاة إلى أبيها فوجد منه الرضا والقبول، ووجد من أمها العطف والحنان، وألفى في أهلها الصاحب والرفيق. وأهله يتأهبون - منذ حين - ليوم الزفاف وهو قريب. على حين قد أخذ هو يستعد لما بعد هذا اليوم - لشهر العسل - في سرور واستبشار.

ماذا يضير الفتى بعد، وإنه ليدخل إلى دار الفتاة فيجد من يستقبله في حفاوة وإيثار، ومن يتحدث إليه في رقة وحنان، ومن يبذل له العطف والمحبة، ومن يحرص على راحته وهدوئه، وأخيراً يجد من يودعه في حرارة وشغف.

وأحس فكري أن في شباب جلال وقوته ما يبعث في الدار الحياة والحركة، وما يرسل في قلبه الهدوء والطمأنينة، واستشعرت الأم في الفتى النور والبشرى. لقد أنبثق هذا الشعور في قلبيهما قوياً عميقاُ، لأنهما عاشا عمراً يلتمسان الابن (الذكر) فلا يجدانه، والرجل ذو ثراء وذو حاجات، يقعده عن أن يشرف على كثير منها ما يحس من وهن وضعف من أثر الشيخوخة التي تدب في مفاصله رويداً رويداً. وهذا أخوه الفلاح يسيطر على رغباته ويغتال ماله في عنف، وهو يقوم على حاجات العزبة، ويدير أمورها، ويستبد بشئونها، ثم لا يرسل إلى سعادة البك إلا فضلة ما يبقي من غلات أرضه، والبك لا يستطيع أن ينزع الأطيان من بين يدي أخيه فتضطرب شئونها ويختل أمرها وماله عهد بإرادتها، ولا أن ينال حقه بقوة القانون فتلوكه الألسن، ويتندر به الفلاحون في مجالسهم.

والآن جاء جلال - بعد لأي - ليكون ابناً في الدار لتنبض بالحياة والنشاط، وسيداً في العزبة ليزيح عنها هذا الكابوس الجاثم على خيراتها ومغانمها.

كل أولئك غشى على عيني الفتى فلم يلق باله إلى هذا الشحوب البادي على وجه الفتاة فيعصف بنضارتها ورونقها، ولا إلى هذا الفتور الذي يستلبها من إرادتها حين تلقاه. ولم يزعجه هذا النفور الذي يلمسه دائماً، فهي لا تأنس إليه إلا ريثما تنفلت من لدنه. و يضايقه أن لا تبتسم له إلا ابتسامة جافة عابرة ينبجس من أضعافها معنى الألم والحسرة. فهو لا يحس أنها تنطوي على بغض له ما تستطيع أن تبوح به خشية أن تجتاحها ثورة الأب ونقمة الأم. إنه لفي شغل عن ما يختلج في أطواء الفتاة، لأنه سعيد في هذه الدار، سعيد بالضجة التي تكتنفه هنا وهنالك، سعيد بالزواج من هذه الفتاة الجميلة الزكية. غير أن خاطرة كانت تحوم حول عقله توشك أن تلجه فيدفعها عنه في شدة وعنف، خاطرة نبت غرامها في قلبه منذ أن تحدث إلى عادل حديثه وحديث الفتاة، فوجد منه الإصرار والعناد، لقد استطاع أن يوهم نفسه بأن الفتاة تلقاه في سهوم وصمت من أثر الحياء والخفر، وأنها تنزوي عنه حين تريد أن تتصنع الدلال ولتمنع، وهو حين يسيطر عليه الشك يتخيل بأن خلجات نفس الفتاة نزوة طائشة من نزوات الشباب لا تلبث أن تهدأ وتستقر.

وانطوت الأيام تدفع المشكلة إلى نهايتها.

أما عادل فكان يرى الحوادث حواليه تضطرب وتندفع إلى غايتها، وما له يد يدفع بها هذه العاصفة وهي توشك أن تلفه في غير رحمة ولا شفقة. لقد كان يلقى فتاته بين الحين والحين لا يستطيع أن يزع نفسه عنها، ويجلس إلى جوارها ويتحدث إليها، وإن قلبه المكلوم ليئن أنيناً يسمع ويرى، وهو يواري زفراته الحرَّى، ويداري عبراته الساخنة خلف ستار من الرجولة والكرامة.

ولكن عين الفتاة كانت تنفذ إلى ما وراء الحجاب فلا ينطلي عليها هذا التصنع وهي ترى فتاها ينهد من حزن عميق، ويتضعضع من أثر الصدمة. وهو يرى فتاته تذوى وتذبل لأنها تنقاد إلى أمر.

آه، ليت هذا الفتى المرح الطروب ينطلق على سجيته فلا يدع الأوهام الكاذبة تكبَّل روحه الوثابة.!

وضاق عادل بما يجد، فأنطلق إلى أبيه في القرية يطب لروحه وترقق الأب الشيخ بابنه الشاب وهو يحدثه: (يا بني، وماذا عسى أن أفعل والفتاة قد سميت على فتى آخر؟ أفتراني أستطيع أن أطلب إلى فكري بك أن يطرد خطيب ابنته في غير ذنب لتستقر أنت مكانه؟ إنني - وقد عركتني الحياة - لا أومن بالحب، وهو خرافة قلبية خلقها الشباب ليبرر بها نزوات الطيش وبدوات النزق، والحياة الزوجية - في رأي العاقل - دار وزوجة وأولاد.

وغداً تطم حاجات الدار على ثورات القلب، وتمسح تكاليف الحياة على نوازع النفس، وتبدو الحياة أمامك طفلاً يدرج في فناء الدار، ثم صبياً يتقلب في المدرسة، فإذا هو شاب تنمحي حاجاتك أنت لتفسح الطريق لما يطلب هو، فتبذل له المال والنفس والروح جميعاً. . . ولكن ألا تعلم شيئاً عن الفتى الذي تزعمه غريماً لك؟) قال عادل: (أنا لا أعلم من أمره شيئاً، ولم أجلس إليه إلا مرة واحدة في مقهى على النيل من مقاهي الجيزة. لقد جاء ليحدثني حديثه، ويطلب إليَّ أن أنسحب من هذا الميدان كي لا أخلق المشكلة التي يعضل حلها. إنه فتى وسيم الطلعة، عليه سيما القوة والجد، وعلامة النعمة والثراء، وهو هادئ الطبع، لين الحديث في غير ضعف. . . هو جلال بن عزت بك)!

وبدت الدهشة على وجه الأب حين سمع هذا الإسم، ونظر إلى ابنه نظرة صارمة، ثم راح يقول: (الأميرالاي عزت بك! إنه رفيق الصبا، وترب المدرسة والملعب، وصديق الشباب، وإنه مني بالمكان الذي أحرص فيه على رضاه لأيادٍ كثيرة له عندي. هذا أمر لم تكن تعرفه من قبل. وهكذا ترى أنني لا أستطيع أن أزحمه في أمر اختاره لابنه وسبقني إليه. ولا ريب في أن رجولتك وعقلك وحقي عليك ستدفعك حتما إلى أن تبقى عليَّ وتنزل عند رأيي، فدع عنك هذا الأمر، دعه وأنا أختار لك من تشاء لتكون زوجاً لك، وأبذل لك الجهد والمال لترضي!)

وخرج الفتى من لدن أبيه يتعثر في خيبته، وإن قلبه ورجولته ليتجاذبانه، فما يدري ماذا يفعل، وهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً. الآن - وقد سدت الأبواب جميعاً في وجهه - لم يبق أمامه إلا أن يتوارى عن عيني الفتاة إلى الأبد. ولكن رجولته أبت عليه أن ينسل خفية كما يفر الجبان الرعديد من الميدان تحت سترين من الظلام والسكون.

لقد عقد العزم على أن ينسحب مثلما يرتد الجندي العاتي الجبار حين يرتد في وضح النهار ووجهه دائماً قبالة العدو، لا يطأطأ رأسه ولا تذل هامته، فذهب إلى الفتاة يعلن أمامها رأيه في قوة وصراحة.

وجلسا معاً في ناحية من حديقة الدار. لقد جاء يعلن لها رأيه ورأي أبيه. ولكنه تخاذل أمام جمالها الآسر وهو إلى جواره يشع حياة ونوراً، وتداعى أمام حبها المتأجج وهو يتألق في روحه بهجة وروعة، فأمسك عن الحديث. أفكان يطمع في أن يمد في عمر سعادته قبل أن يفترقا إلى الأبد، أم كان يشعر بأن في كلماته صفعات عنيفة فهو حيناً بعد حين رحمة بقلبين؟ ولكن صوت أبيه الشيخ رن في أذنيه ينادي: (ولا ريب في أن رجولتك وعقلك وحقي عليك ستدفعك حتماً إلى أن تبقى عليَّ وتنزل عند رأيي). فهمَّ مندفعاً يعلن رأيه، وانطلقت كلماته هينة رقيقة ولكنها وقعت على قلب الفتاة المسكينة في مثل قوة العاصفة العاتية فأجهشت للبكاء، وانطلق صوب الباب يريد أن يهرب من ضعفه.

لقد انطلق عادل ليهرب من ضعفه، ولكنه ما كاد يقترب من الباب حتى ارتطم بشاب يزحمه الطريق: هو جلال. لقد رأى جلال بعينيه. . رأى الفتى والفتاة في ركن تحت شجرة من أشجار الحديقة يستمتعان بالخلوة في منأى عن الرقيب، فوقف ينظر في ذهول وغيظ وحديثهما لا يكاد يبلغ مسمعيه. وحين انطلق عادل صوب الباب أخذ جلال عليه الطريق، ولكن عادلا لم يعبأ به وانطلق في طريقه دون أن يلتفت إليه، يريد أن يهرب من ضعفه.

وحز في نفس جلال ما رأى، فانطلق إلى الفتاة يرَّبت على كتفها ويقول في غيظ وكمد: (لا تحزني يا فتاتي، لقد رأيت وسمعت. والآن أتنحى أنا لتجدي السعادة والرفاهية إلى جانب الحبيب). ثم أندفع إلى أمها في ثورة تفور وتغلي يقذف في وجهها بخاتم الخطوبة.

لقد خسرت الفتاة الحبيب والزوج في وقت معاً، وجلست في زاوية، وإن شبح ابنة عمها ليضطرب في ناظريها كلما ذكرت الخطبة والزواج، ابنة عمها التي أشرفت على الأربعين ولما تجد الزوج.

كامل محمود حبيب