مجلة الرسالة/العدد 824/تعقيبات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 824/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 04 - 1949



للأستاذ أنور المعداوي

توفيق الحكيم في ميزان الفن والنقد

الرأي الذي كونته لنفسي عن فن توفيق الحكيم قبل أن أعرفه، هو الرأي نفسه الذي انتهيت إليه بعد أن عرفته. كل ما حدث هو أن معرفتي به قد زادتني اقتناعاً بهذا الرأي وإيمانا به. أما هذا الإيمان فقد قام على دراسة بعيدة المدى لفنه أولا ولشخصه ثانياً، وأستطيع أن أقرر وأنا مطمئن أن كل ما أكتبه هنا - في رأيي على الأقل - يتسم بسمة المعرفة، والصدق، والثقة التي تستمد عناصرها ومقوماتها من الواقع الملموس.

أول مزية من مزايا هذه الشخصية الفنية أنها من الشخصيات النادرة التي تتمتع بحظ كبير من القلق النفسي، وهو أول أداة من أدوات كاتب القصة. . . ومن طبيعة الشخصية القلقة أنها تثير دائماً ألواناً من (الصراع الفكري) في ثنايا القصة والمسرحية، وكلتاهما تعتمد أول ما تعتمد على هذه الدعامة الفنية الفذة، وأعني بها (الصراع)! القلق الدفين والشك الملح صفتان تجريان مجرى الدم في طبيعة توفيق الحكيم النفسية؛ ومن هنا تجد شخصيته القلقة منعكسة بوضوح في أكثر ما يكتب، ويستطيع الذين لم يتصلوا بهذا الكاتب، ولم يتهيأ لهم أن يعرفوه معرفة خبرة ودراسة ويقين، أن يلتمسوه هناك في كثير من شخصيات قصصه ومسرحياته. . . إنها شخصيات حائرة، قلقة، مترددة، يندر أن ينتهي بها المطاف إلى استقرار. وهكذا تجد توفيق الحكيم في واقع الحياة؛ يعيش في دنياه هو لا في دنيا الناس: في تأملاته، في سبحاته الروحية؛ وهو لهذا كله يثير في فنه أشتاتاً من المشكلات الفكرية العميقة التي تحفل بالصراع، ولكن أي صراع؟ إن توفيق الحكيم يذهب في مقدمة (أوديب الملك) إلى أنه يقيم الصراع دائماً على دعامتين: الواقع والحقيقة، أي أنه يغرق أبطال قصصه ومسرحياته في خضم من (شهرزاد) و (سليمان الحكيم)! الذي تتجاذبهم فيه أمواج الواقع من هنا وأمواج الحقيقة من هناك. . هذا ليس كل الحق؛ إن في بعض مسرحياته صراعاً بين الواقع والخيال، وقد يبدو الخيال لبعض الواهمين ضرباً من الحقيقة، كما حدث لبعض شخصيات توفيق الحكيم في (شهرزاد) و (سليمان الحكيم)!

وسواء أكان الصراع بين الواقع والحقيقة، أم كان صراعاً بين الواقع والخيال كما حدث ف (شهرزاد) و (سليمان الحكيم)، سواء أكان هذا أم ذاك فإنك تخرج من هذا (الصراع الفكري) بظاهرة فنية ملموسة، وهي أن شخصيات توفيق الحكيم القصصية تفرمن الواقع هنا وهناك. . . ومرة أخرى تجد هذا الفنان منعكساً بلحمه ودمه على صفحة فنه، لماذا؟ لأن هذه هي طبيعته النفسية والفكرية؛ لقد قدر له أن يلقى الحياة بهذه الطبيعة العجيبة، يلقاها ليفر منها، جرياً وراء الحقيقة أو جرياً وراء الخيال!

(الصراع الفكري) هو السمة الغالبة على آثار توفيق الحكيم الفنية، أما (الصراع النفسي) فلن تجد منه إلا ومضات لا تلبث أن تشع حتى تختفي. . . في هذا التيه من التأملات الفكرية والتهويمات الذهنية، وتستطيع أن تلمس هذا بوضوح في (أوديب الملك)؛ لقد حاول توفيق الحكيم جاهداً أن يتخلص من هذه الظاهرة التي تفرض نفسها على فنه ليبتعد بتمثيلية سوفو كل عن حيز (المسرح الذهني) ولكنه لم يستطع. . . من هنا تنبع شكواي من فن توفيق الحكيم؛ شكواي من انعدام (الصراع النفسي)! إن أول مزية من مزايا هذا الصراع هي أنه حين يرسم لك الخطوط الرئيسية في مشهد من المشاهد أو في شخصية من الشخصيات، يجعلك تعيش بفكرك وشعورك في محيط هذا الجو الذي تمتزج به ويمتزج بك، فإذا أنت متجهم في جو المشهد القاتم والشخصية العابسة، وإذا أنت منطلق الأسارير في جو المشهد الوضيء والشخصية الباسمة. . . لهذا كله لم يهزني (أوديب) في محنته؛ أوديب الذي تحالفت عليه المقادير فقتل أباه وتزوج من أمه. وكذلك لم تهزني (جوكاستا) الشقية البائسة؛ جوكاستا التي تنجاب عن عينيها الغشاوة يوماً فترى أن الزوج هو الابن، وأن الأطفال الأحباء قد خرجوا إلى الحياة، كما خرج أبوهم من قبل. . . خرجوا جميعاً من بطن واحد!

هذا النقص في (الصراع النفسي) تحل محله موهبة أخرى في (الصراع الفكري)، ولولا هذه الموهبة الفذة لما ملئ هذا الفراغ في فن توفيق الحكيم. . . إن طبيعته القلقة قد انعكست على شخصيته الفنية فأكتسبها فيضاً من المزايا التي لا تجتمع كثيراً لغير هذا الفنان: منها هذه الحرارة المتدفقة التي يضفيها على فنه إشعاع ساطع من عنف الصراع ونفاذ التأملات، وتلك الحركة الجياشة التي تشيع في ثنايا المواقف النابضة بالحيوية والانطلاق.

ومع ذلك فأنل أرجو من الذين قرءوا (أوديب الملك) وغيرها من المسرحيات التي يطبعها طابع (الصراع الفكري) أن يرجعوا إلى (سليمان الحكيم). . . إنهم سيلمسون ظاهرة فريدة لا عهد لهم بها في فن توفيق الحكيم. ظاهرة وقفت عندها وأطلت الوقوف، ودرستها في كثير من التأمل وإنعام الفكر. . . (صراع نفسي) وهذا هو العجب، (وقلب إنساني) وهذا هو الأعجب! ترى أكان توفيق يوم كتب (سليمان الحكيم) يعيش نفس التجربة التي صورها بريشته لقلب (بلقيس) حين خاض هذا المعترك الرهيب بين حب (منذر) وجاه (سليمان)؟ أكاد أقطع بصحة هذا الظن، وإلا لما استطاع توفيق الحكيم أن يهزني كل تلك الهزات الشعورية العميقة في هذا العمل الناضج من أعماله الفنية؛ أقول (هزات شعورية) لأن العهد بتوفيق الحكيم أنه في أغلب آثاره لا يهز قارئه إلا (هزات فكرية)!. . .

(سليمان الحكيم) في إنتاجه كله تقف وحدها متفردة باكتمال (الصراع النفسي) وقوة النبضات في القلب الإنساني، وحكم التفرد أمر لا يقاس عليه إذا ما أقمنا الميزان للشخصية الفنية على مدار إنتاجها كله؛ ومعنى هذا أنني أعود فأكرر بأن (الصراع الفكري) هو السمة الغالبة على آثار توفيق الحكيم في واقع الفن وواقع الحياة!.

تعال بعد ذلك أحدثك عن موهبة أخرى في فن توفيق الحكيم هي موهبة الحوار - قد تقول لي إن توفيق الحكيم ينطق شخوص قصصه ومسرحياته في بعض الأحيان بما يبعد عن أن تنطقهم به الحياة. إنني أوافقك على ما تقول، ولكنك لا تستطيع أن تنكر أنه يدير دفة الحوار بمهارة فائقة تنسيك هذا الجانب الذي يلوح منه شبح الاعتراض. ولا تستطيع أن تنكر أيضاً أنه قصاص قادر على الانفعال في تلك المواقف التي تتطلب دفقات هائلة من السرعة والحركة وحرارة التعبير، وتلك مزية تنقص الكثيرين من كتاب القصة!

أما الموهبة الأخيرة التي تهزني في فن توفيق الحكيم فهي أن القصة بين يديه تمتاز با (التصميم الفني). . . إنه يعرف كيف تبدأ القصة، وكيف تسير. وكيف تنتهي، دون أن يكون هناك شذوذ أو اضطراب في هذه المراحل الثلاث؟

هذا هو كل ما يمكنني أن أقدمه إلى الأستاذ محمد عادل المرصفاوي في حدود المجال الذي طلب إلي أن أكتب فيه، وأنني لأرجو أن أكون قد وضعت بين يديه مفتاح هذا الباب الموصد أو مفتاح هذه القلعة المغلقة. . . على حد تعبيره حين كتب إلى مشيراً إلى شخصية الأستاذ توفيق الحكيم الأدبية والإنسانية!

كرافتشنكو ينتصر على مجلة (ليتر) الفرنسية:

أخيراً وبعد نضال مرير عاصف عنيف شهدت أدواره جوانب قاعة المحكمة بسراي العدل في العاصمة الفرنسية، أصدر القضاء حكمه في صالح الكاتب الروسي الثائر على نظام الحكم الفاصل بين صاحب (آثرت الحرية) وبين القائمين على أمر مجلة (لي ليتر فرانسيز)، تنهار أدلة الاتهام التي وجهها خصوم الكاتب الروسي إلى حقيقة كتابه وما حوى من وقائع ومعلومات!.

إنها لطمة قاسية من غير شك، تلك التي وجهها القضاء الفرنسي منذ أيام إلى الشيوعية الروسية الفرنسية. . . وأية لطمة أقسى من أن أن يصدر حكم القضاء مؤكداً نسبة الكتاب إلى صاحبه، ومؤيداً لكل ما تضمنه من بيانات أوردها كرافتشنكو ليدلل بها نظم الحكم في بلاده، تلك النظم التي تحد من حرية الرأي والفكر، وتلغي الكرامة الفردية والعقلية وكل ما ينشده الأحرار من مثل في المجتمع الكريم؟!

إن كرافتشنكو يخرج اليوم مرفوع الرأس، بعد أن حكم له القضاء بتعويض قدره خمسون ألف فرنك عن الجزء الأول من الدعوى التي رفعها على المجلة الشيوعية الفرنسية، وبعد أن حكم له بتعويض آخر مماثل للتعويض الأول في مقابل الجزء الثالث من الاتهام. . . أما مسيو كلود مورجان مدير المجلة ومسيو أندرية ورمستر رئيس تحريرها فقد قضت المحكمة بتغريم كل منهما مبلغ خمسة آلاف فرنك؛ ومع إلزامها بنشر هذا الحكم في أول صفحة من صفحات (ليتر فرانسيز). . . مجلتهما الأسبوعية!!

هذا هو ما وافتنا به شركات الأنباء عن آخر مرحلة من مراحل هذه القضية المثيرة، ولكن هيئة الدفاع عن محرري المجلة الفرنسية تعد العدة لاستئناف هذا الحكم في الأيام المقبلة. . . ومعنى أن هناك فصلا أخيراً يهم النظارة أن يشهدوه!.

(كافر) للشاعر السوري زهير ميرزا:

هذه مجموعة شعرية تستحق تحية القلب وتحية القلم. . قال صاحبها وهو يتفضل مشكوراً بإهدائها إليّ: (أقدم إليك هذا الشعر، قال صاحبها وهو يتفضل مشكوراً بإهدائها إليّ: (أقدم إليك هذا الشعر، صدى لكلمتك (تحية قلبية وأخرى قلمية)، التي لولاها ولولا الرسالة ما تم مثل هذا اللقاء الفكري الذي أرجو أن يكون فاتحة صداقة متسامية، رائدها الكفر بالمفاهيم للأيمان بها)!. . . إهداء فيه تحليق وشعر فيه تحليق، وأنا أحب أن أعيش في أجواء المحلقين من أمثال زهير ميرزا، سواء كانوا كتاباً أم شعراء.

أجمل ما في هذه المجموعة الشعرية أن زهير ميرزا يصب شعره في قالب من الحوار الفني الذي يدور حول فكرة، تنبع من أعماق الشعور لتحلق على أجنحة الخيال. . . ولا أقول إن الفكرة الجديدة، ولكن الجديد فيها هو تلك اللقطات البارعة التي تجيد اختيار الزاوية في مجال الإخراج الفني للصورة النفسية، تلك التي يتسع لها إطار التعبير ولا يزيد!

صورة من النفس يلفها وشاح من ومضة الفكر، وإذا أنت في (الحقيقة الكبرى) مأخوذ بصراع العقل والعاطفة بين (قمر) و (شهرزاد). . . هناك حيث تنفر الروح من هذا (الشيء) المعاد الذي تبلى جدته في عالم الواقع وتحيا في عالم الوهم الطليق! وهكذا يمضي زهير ميرزا في (لقاء) و (وغانية الفكر) و (كافر) و (مصرع المثال). . . أما (لقاء) فتصور هذا النضال النفسي الذي يثيره (نداء الأعماق) في طريق قد خلت من كل شيء إلا فتى وفتاة؛ أمواج من دعاء الوجدان تعترض سير الشراع الحالم ولا تزال به حتى يغيب تحت أطباق العباب! وفي (غانية وفكر) يقبل جسد وتعرض روح. . . وتحتدم المعركة بين اللهب المنبعث من وقدة نار تتأجج، وبين الفراشة التي تحوم حول النور تبغي الضياء ولا تريد أن تحترق؛ إن ريشة زهير قد بلغت الغاية في تلوين هذه اللوحة التي تمثل فورة الصراع بين بائعة جسد وبين راهب الفكر!. . . أما (كافر) فتنقلك إلى ذلك الجو الفكري السابح في أعماق الوجود وحقيقة الحياة؛ هل تذكر قصيدة (الطلاسم) لإيليا أبي ماضي؟ إن جناحي زهير ميرزا يضربان في هذا الأفق ضربات عميقة تهز الخيال المحلق فيما المجهول!

إنني لا أريد أن أقدم للفراء بعض النماذج من هذه المجموعة الشعرية حتى لا يغنيهم القليل عن الكثير، إنني أود أن يرجعوا إلى المجموعة كلها ليقضوا مع الشاعر لحظات جميلة وممتعة كتلك التي قضيتها معه. . . أما أنت يا صديقي زهير فيسعدني أن نكون صديقين، يلتقيان على الكفر بالمفاهيم للأيمان بها، وليس أحب من هدم يقوم على أنقاضه بناء!!

جوهر النفوس عندنا وعندهم:

نشرت (المصور) في الأسبوع الماضي صورة لصبي أمريكي يجلس بين أكوام من الأوراق المالية، ثم أشارت إليه بهذه الكلمات: (إنه (بوبا) الفتى المقعد الذي ضاق ذرعاً ذات مساء بوحدته والحياة، فقصد دار الإذاعة في ولاية تكساس بأمريكا، حيث ناشد المستمعين أن يمدوه ببعض (الدراهم) التي تعينه على الحياة. . . وما كادت تنقضي بضعة أيام حتى دعي إلى مقر البريد حيث سلمه مديرها الرسائل التي وردت إليه من أنحاء الولاية استجابة لدعوته. وقد وجد الفتى نفسه غارقاً في أكوام من الرسائل تحمل بداخلها ثروة تقدر بعشرين ألف دولار، هبطت إليه من السماء)!

هل تستطيع أن تقف معي لحظات لنزن هذا الخبر الذي يحمل إلينا قليلا من الألفاظ وكثيراً من المعاني؟!. ترى لو كان هذا الصبي المقعد في مصر، وذهب إلى الإذاعة ليذيع نداء الحاجة على ذوي القلوب الرحيمة، ترى ماذا كان يحدث؟ الشيء الذي أتصوره ولا يمكن أن أتصور شيئاً سواه، هو أن يهاجم ذوو القلوب الرحيمة دار الإذاعة هجوماً لا (رحمة) فيه، لأنها سخرت الجهد وأضاعت الوقت في خدمة المقعدين والمتسولين!. . والشيء الذي أتوقعه ولا يمكن أن أتوقع شيئاً سواه، هو أن تضج الصحف بالشكوى من تفاهة هذا (البرنامج) الذي تفتقت عنه أذهان المشرفين على الإذاعة، أولئك الذين لا هم لهم إلا إزعاج المستمعين!

ألا ما أبعد الفارق بيننا وبينهم. . . هناك قلوب من ذهب وهنا قلوب من قصدير!!

أنور المعداوي