انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 824/الدولار والشرق العربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 824/الدولار والشرق العربي

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 04 - 1949


للأستاذ عمر حليق

هناك حقائق خطيرة قل أن تتعرض لمعالجتها ألسنة الرأي العام العربي عندما تتحدث عما يقترحه المعسكر الغربي على الشرق العربي من مساعدة اقتصادية ومحالفة عسكرية. وهذه المغريات التي تنقلها إلى القارئ العربي في غير فطنة مواصلات فكرية هي فريسة بؤر التوجيه الضار في السفارات الأجنبية وفي وكالات الأنباء (العالمية) التي يعيش على محصولها الإخباري قارئ الصحف العربية والمستمع العربي.

ومن أبرز هذه الحقائق تجاهل المعقبين العرب لحقيقة الوضع الاقتصادي القلق الذي تعيش عليه الولايات المتحدة وهي عماد المعسكر الغربي، وحاجة هذا الوضع إلى استثمار الأموال في المناطق التي توفر الربح العاجل المضمون كمنطقة العالم العربي.

فللمشروعات الأمريكية للمساعدة الخارجية كمشروع مارشال أوجه أخرى غير الأوجه السياسية. (الإنسانية) التي يبدو أن معظم ألسنة الرأي في الشرق العربي ميالة إلى التعلق بها وحدها.

وحين نسلم بأن التوسع السوفيتي وذيوله السيئة في شتى نواحي النشاط الإنساني هو أخطر ما يواجه حاضر الشرق الأدنى يجدر بنا كذلك أن لا ننسى مطلقاً ما يستر من الشر في الاستسلام المطلق للتوسع الأنجلو أمريكي. فإن امتداد مشاريع (المساعدة) الأمريكية إلى الشرق العربي هو توسع تستلزمه الأزمات الحاضرة في السياسة والاقتصاد والحرب التي تواجه المعسكر الغربي.

ولعل الوقوف على الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة وعلى برامج التوسع التجاري الذي لا مفر للصناعة البريطانية من تحقيقه إذا حرصت على النهوض الصحيح - هذا الوقوف يلقي ضوءاً هادياً على سياسة الدولار في منطقة الجامعة العربية.

إن الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية قلق؛ وليس هذا الجزم مقتبساً من تعقيبات (برافدا) و (ازفستيا) وراديو موسكو؛ بل هو حقيقة لا يستطيع الأمريكان كتمانها عن أنفسهم وإن استطاعوا - بفضل ما لهم من نفوذ قوى في المواصلات الفكرية العالمية - التقليل من خطورتها خصوصاً لدى الشعوب التي ينقصها الوعي الاقتصادي الحساس كشعوب الشرق الأوسط وأبرز مظاهر هذا القلق الاقتصادي في منطقة الدولار مشكلة التضخم المالي وازدياد التبطل بين العمال الفنيين والصناعيين والتباين في معدل الإنتاج والاستهلاك، وألف وجه ووجه من المشاكل الاقتصادية المعقدة التي تأتي في أعقاب الحروب الكبرى فالنكسات الاقتصادية - والنكسة وصف معتدل لحاضر الاقتصاد الأمريكي - لا تولد بين عشية وضحاها؛ إنما هي وليدة تضخم في الإنفاق وتضخم في الشراء وتضخم في الافتراض. فقد اتسع الإنتاج الصناعي في أمريكا زمن الحرب اتساعا هائلا في طفرة غير اعتيادية، فارتفعت نسبة الإنفاق على النحو الذي خبره العالم بأسره، وزادت نسبته في أمريكا. ومما ساعد على التضخم في الاقتراض طبيعة التعامل النقدي في الحياة الأمريكية (تسهيلات الدفع والتقسيط الخ)؛ فنتج عن ذلك هذه التيارات التي واجهها الكيان الاقتصادي في أمريكا منذ أكثر من عامين، ونجح في تفادي أزمتها الجارفة بالقرض البريطاني أولا، تم بمشروع مارشال وببرنامج التسلح الهائل الذي ينفذ في إسراف يستوعب العمال العاطلين ثانياً. وهو يحاول الآن أن يخطو خطوة إنقاذ أخرى على طريق التوسع الاقتصادي في المناطق (المتأخرة).

إن إنهاض التنمية الاقتصادية ضرورة لاستقرار السلم العالمي - هذه حقيقة مسلم بها، ولكن المهم في هذا العرض هو الوقوف على بعض العوامل الأساسية في مسألة قد تقرر مصير الكيان العربي لأجيال عديدة.

فالمساعدة الاقتصادية المقترحة ليست إحساناً خالصاً لرفع مستوى المعيشة للبائسين في الشرق العربي؛ فالضمير الأمريكي لم ينفعل كثيراً لفاجعة فلسطين بالرغم من أن له اليد الطولى فيه.

والمساعدة الأمريكية ليست سهماً يوجه للشيوعية التي تربض على أبواب الشرق الأدنى - فموقف أمريكا من التطور في الصين، وقصدها من تزويد الأتراك بحاجتهم الماسة ينفيان ذلك - ولكنها مصلحة فيها عنصر أناني وضرورة اقتصادية ملحة تضع في يد الشرق العربي عنصر مساومة فريد.

ذلك لأن هذا الشرق في رأي المستر إميل شرام رئيس بورصة نيويورك الكبرى، من أفضل المناطق لاستثمار رؤوس الأموال الأمريكية لأسباب عددها في عدد يناير من مجلة عالم الأمم المتحدة وهي:

أولاً - إن الوضع الاقتصادي في الشرق الأدنى سليم جداً. فهو لم يتضرر من الحرب المنصرمة.

ثانياً - أن هذا الشرق لا يواجه وعياً اقتصادياً، ولا نزعة اشتراكية جدية تعرض رؤوس الأموال الأجنبية للتأميم. فالقدمية الاقتصادية في الشرق الأدنى أن تستيقظ بصورة خطيرة إلا بعد أن تعطى رؤوس الأموال المستثمرة أٍُكلا طيبا.

ثالثاً - إن هذا الشرق بحاجة إلى التمويل وأولو الأمر يقدرون ذلك، والتعامل معهم سيكون على أساس اقتصادي سليم.

وطبيعي أن ما يقترحه الأمريكان من مساعدة للشرق الأوسط لا يقتصر على المخصصات الحكومية. وأكبر الظن أن هذه المخصصات ستكون أقل نسبة. والواقع أن برنامج ترومان للمناطق التي تحتاج إلى التنمية الاقتصادية قصد في أساسه إلى تهيئة الفرص لرؤوس الأموال الأمريكية للاستثمار في الخارج وضمانة أرباحها.

وهناك نواح أخرى لابد من الوقوف عليها لأية مساومة قد تدفع دول الجامعة العربية إلى الأخذ بها في هذه التيارات الجارفة.

فكما يستفاد من القليل الذي تنشره الصحف الأمريكية ومن الكثير الذي تنشره الصحف العربية! عن طريقة حكومة أمريكا في مد مشروع مارشال إلى الشرق العربي، فإن المساعدة ستقتصر على ناحيتين:

الأولى: تحسين الدفاع الاستراتيجي من الناحية الحربية الصرف ومن وجهة نظر حلفاء الغرب الصرف كذلك.

والأخرى: تنمية الإنتاج الزراعي كوسيلة لرفع مستوى المعيشة.

والتريث في بحث هاتين الناحيتين يكشف عن شؤون غاية في الخطورة للكيان القومي في كل من الدول العربية، وفي السياسة الإقليمية التي تمثلها الجامعة العربية التي لا مفر - لعدة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية، للناطقين بالضاد من السير بموجبها على الرغم مما ألم بها من نكسات.

فمشاريع الإنتاج البترولي وأنابيبه وتأمين سريانه وحماية مواصلاته ستكون لولب (الإنعاش) المقترح.

وطبيعي أن للشرف العربي حاجة ماسة لتحسين المواصلات؛ ولكن هذا التحسين إذا توخى ما ينتظر منه من فوائد وجب أن لا يتقيد بمصلحة الإنتاج البترولي على حساب النواحي الأكثر أهمية والأشد ضرورة؛ فالناحية الحيوية في مشكلة المواصلات في الشرق العربي أعقد من أن تقتصر على الإنتاج البترولي والمطارات السعودية والليبية القريبة من آبار الزيت الروسية في (باكو) وفي حوض قزوين ومصانع الإنتاج الحربي الروسي فما وراء جبال الأورال.

وللناحية الثانية وهي تحسين الإنتاج الزراعي كوسيلة لرفع مستوى المعيشة أوجه غير هذا الوجه الخلاب الذي قد يغري من لم يدرك حقيقة العلاج للعلل الاقتصادية في الشرق.

فان الإنتاج الزراعي إذا لم يلازمه التصنيع الواسع النطاق الثابت الأركان فأنه لن يستطيع رفع مستوى المعيشة لملايين المصريين مثلاً ولا حل أزمة السكان وضآلة الدخل القومي؛ وهذه الحقيقة تنطبق على العراق وسائر أنحاء المشرق. وأن طبيعة العوامل الاقتصادية التي تدفع أمريكا وبريطانيا لمساعدة الشرق العربي تتطلب أن يظل هذا الشرق مستهلكها لا منتجاً للسلع التي يعيش عليها الكيان الاقتصادي في أمريكا وبريطانيا. ولعل المصلحة البريطانية في هذه الناحية أشد انتفاعاً وأبعد في النتائج العملية. فإذا أشرك الأمريكان البريطانيين في مشاريعهم للشرق الأوسط فإن البريطانيين قد أشركوا من قبل (ركفللر) وأمثاله من أقطاب المال الأمريكان في هذه الإمبراطورية الاقتصادية التي تعمل الآن في صمت في أواسط القارة الأفريقية.

هذه ألوان من الحديث قد تساعد على معرفة بعض مواطن الضعف والقوة فيما يقترحه المعسكر الغربي. ويضاف إلى هذه التلميحات الاقتصادية ذيول والتزامات سياسية خطيرة العواقب. فإن أي مساعدة أو منحة أو قرض يستلزم التعاون مع الكيان اليهودي في فلسطين سيحقق له في الحاضر والمستقبل ما حققته الناحية الخفية من أعمال (مركز تموين الشرق الأوسط) الذي أقامه الحلفاء أبان الحرب العالمية الماضية؛ إذ استطاع الاقتصاد اليهودي بواسطته أن يتركز بعد أن كان مضعضع الكيان مشرفاً على الإفلاس، واستطاع أن يحظى بأنواع من المواد الخام والتصنيع الحربي عن يد مركز تموين الشرق الأوسط، وهذا ما أثبتت معارك فلسطين مبلغ خطورته. والذي يزيد من حدة الدعوة إلى هذا الحذر من مثل هذا التعاون مع يهود فلسطين - مباشراً كان أم غير مباشر - المناصرة الشديدة التي يلقاها مشروع (مساعدة) الشرق الأوسط في البرلمان الأمريكي من الشيوخ والنواب الذين حملوا منذ سنين لواء العمل للمصلحة الصهيونية.

ليست الخيرات الكامنة في الشرق العربي وحدها هي التي تغري واشنطون بالتودد؛ ففي أمريكا الجنوبية أضعاف الخيرات التي في هذا الشرق. وليس خطر الشيوعية وحده هو الدافع لهذه (المساعدة)، ففي الصين وكوريا وفي أمريكا الجنوبية كذلك - وهي الباب الخلفي للعم سام - ثغرات من الفقر والجهالة أوسع مما في الشرق العربي، ومع ذلك فلا يضعها الأمريكان في طليعة الدول التي لها الأسبقية في (سخاء) الأمريكي. وليس الموقع الاستراتيجي وحده كذلك هو السبب الوحيد.

ولكن هذه الأسباب مجتمعة أوجدت حالة فريدة، تجتمع فيها المصلحة الاقتصادية الاستثمارية مع الحاجة العسكرية، وأخشى أن أقول مع المنفعة الصهيونية. فعلى الذين يتولون التوجيه في هذه الحالة مسؤولية فاصلة في الكيان الأساسي للعالم العربي.

وإذا كان لابد من مساومة فلتكن على أساس من المصلحة القومية تراعى في حرص وفطنة حاضر العرب ومستقبلهم، والتيارات الجارفة التي تحيط بهم.

(نيويورك)

عمر حليق