مجلة الرسالة/العدد 823/تعقيبات
مجلة الرسالة/العدد 823/تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
توفيق الحكيم في كتاب عن الأدب المعاصر:
سيدي الأستاذ
قرأت لك كل ما سطره قلمك منذ أن تناولت قلمك لتكتب. تتبعت فصولك النقدية في (العالم العربي) ثم تتبعت بعد ذلك مقالاتك وتعقيباتك في (الرسالة)، وكما تبدي رأيك في الغير فلا بأس أن أبدي رأي فيك. إن ملكتك الناقدة هي خير ملكاتك جميعاً، بل هي خير ملكة إذا ما وضعت ملكات النقاد المعاصرين في الميزان!. . . بالله لا تتعرض لهذه الكلمات بالحذف إذا ما نشرت هذه الرسالة وعقبت عليها، إنها رأي حر يبديه فيك إنسان قرأ أكثر ما أخرجته المطبعة في الشرق والغرب من دراسات نقدية، إنسان يزن أقدار الناس ويؤمن بما يقول. . . ولولا إيمانه برأيه لما لجأ إليك يسألك بعض العون في فصل من فصول كتاب يضعه منذ شهور عن الأدباء المعاصرين!
إنني أعرف أنك صديق قديم لهذا القصاص العبقري توفيق الحكيم وليس من شك في أنك قد درست شخصيته الفنية من خلال كتبه دراسة ناقد، ودرست شخصيته الإنسانية من خلال معرفته دراسة صديق، أعني أنك تستطيع أن تربط ما بين الشخصيتين لترسم لنا صورة دقيقة لهذه الشخصية المزدوجة التي تبدو لعيني مبهمة ولفكري معقدة. . .!
إن شخصية توفيق الحكيم هي الشخصية الوحيدة التي أقف منها دائماً موقف الشك وعدم الثقة من ناحية وزنها والحكم عليها، حتى هؤلاء الذين اتصلت بهم من معارفه ليحدثوني عن طبيعته النفسية كما هي في واقع الحياة والفن، لم يستطيعوا للأسف أن يمدوني برأي فاصل أطمئن إليه؛ يبدو أنه مبهم حتى على الذين يعرفونه ويتصلون به. . . لست أدري إن كنت سأجد عند قلمك مفتاح هذا الباب الموصد أو مفتاح هذه القلعة المغلقة! إنني أرجو إذا تحققت هذه الأمنية ألا تسبب لك هذه الرسالة بعض الحرج إذا ما كشفت عن أشياء قد لا ترضي صديقك. . . مهما يكن من شيء فلا تنس أنك تؤرخ للأدب، وأن النكوص عن ذكر الحقائق في سبيل إرضاء الصداقة من شأنه أن يجرح التاريخ الأدبي والضمير الأدبي، وهذا هو الانحراف الذي أنزه قلمك عن الوقوع فيه! إنك تعلم ولاشك أن النقد الأدبي الحق هو ما قام على دراسة أدب الكاتب مرتبطاً بشخصيته، لأن الأسلوب من الرجل كما يقول بوفون، وكل دراسة لا يتحقق لها هذا الجانب تفقد عنصراً خطيراً يهدد قيمتها الفنية بالضياع!. . . على هذا الأساس أريد أن تكتب، ولا أطلب منك صفحات فإن سطوراً تقدم لي مفتاح هذه الشخصية تكفيني. ولا أطلب منك تطبيقات فحسبي أن تمدني بالقاعدة العامة وعلي أنا أن ألتمس المثال!
وفي انتظار كلمتك الفاضلة، أرجو أن تتقبل تحيات المقدر لفنك.
محمد عادل المرصفاوي
قسم الدراسات العليا - جامعة فاروق
أشكر للأستاذ الفاضل هذا التقدير الذي يسبب لي كثيراً من الحرج. . . لقد ظن أن الحرج سيتمثل في نقدي لشخصية الأستاذ توفيق الحكيم الفنية، ولكن الحرج كل الحرج يتمثل في هذه الكلمات التي تخصني بثناء لا أستحقه! يا صديقي، آمل ألا يدفعك الإعجاب بكاتب إلى الغلو في تقديره، وبخاصة في هذا الكتاب الذي ستخرجه في القريب عن الأدب المعاصر وتقيم فيه الميزان لأقدار الأدباء. . . إن رسالتك لتنبئ عن عقلية ناضجة حقاً وفهم أصيل لقيم الدراسة النقدية، وفي هذا ما يطمئنني على أن كتابك سيكون له في رحاب النقد الأدبي مكان!
إنه ليسعدني أن أقدم إليك كل ما في حدود الطاقة من عون. . . سأقدم لك رأيي في فن الأستاذ الحكيم مرتبطاً بشخصيته، وهو رأي أقمته على دراسة أعتقد أن عناصرها قد اكتملت على هدي صلتي به وقراءتي له. إنني أوافقك على أن هذه الشخصية تحتاج إلى كثير من التثبت قبل الأقدام على الكتابة عنها والحكم عليها، لأنها من الشخصيات التي لا تتكشف لدارسيها إلا بعد تأمل وعناء!
أرجو أن أضع بين يديك (مفتاح هذا الباب الموصد أو مفتاح هذه القلعة المغلقة) في العدد القادم إن شاء الله. وثق أنني سأحدثك عن توفيق الحكيم الصديق بما يرضي الحق وحده والفن وحده، وللأستاذ الفضل تحيتي خالصة.
لحظات أخرى مع جان كوكتو: الكاتب الفرنسي مشغول. . . مشغول بمقابلاته، ومشغول بمسرحياته، ومشغول بجولاته الفكرية وتهويماته الفنية، ومعنى هذا أن زائره لن يظفر من لقاءه إلا بالرأي الطائر والحديث العابر، وهذان أمران يقنع بهما مندوب صحيفة يومية أو مجلة أسبوعية لينقل إلى القراء لمحات خاطفة عن جان كوكتو!. . . أما أنا فقد حاولت أن ألقاه لقاء أديب يود أن يجلس إليه ساعات يسأله عن كل شيء ويتحدث معه في كل شيء: في أدب القصة، في أدب المسرحية، في الموسيقى، في التصوير، في النقد الأدبي، في الشعر، في كل تلك الفنون التي يشارك فيها جان كوكتو ويستطيع أن يتحدث عنها حديث خبير. حاولت أن ألقاه هذا اللقاء ولكنه اعتذر بضيق وقته وكثرة شواغله، مما لا يتيح لزائره غير فترة يقضيها معه ويخرج منها بالرأي الطائر والحديث العابر. . . وكما اعتذر إلي عن هذا اللقاء الطويل فقد اعتذرت إليه عن هذا اللقاء القصير، بعد أن قدمت إليه تحيتي وتحية (الرسالة) وبعد أن تلقيت خالص شكره على التحيتين مع رجائه بتلبية رغبتي إذا تهيأت له فسحة من الوقت في مقبل الأيام!
لا بأس إذن أن نقضي مع جان كوكتو لحظات من تلك اللحظات العابرة التي قضاها معه مندوب (المصور) وخرج منها بهذه الآراء العابرة التي تحمل بعض اللمحات والتوجيهات سأله مندوب (المصور) وخرج منها بهذه الآراء العابرة التي تحمل بعض اللمحات والتوجيهات سأله مندوب (المصور): هل شاهدت مسرحيات مصرية؟ ما هي ملاحظاتك عليها؟ ألم توح لك مصر بكتابة شيء عنها؟ ما رأيكم في آثارنا؟ وأجاب الكاتب الفرنسي بأنه لم يشاهد غير قصة سينمائية مصرية واحدة، حفلت بالحشو والتعقيد وكأنها عشرة قصص في قصة! أما الإخراج فيعج بالمبالغات والحركات المفتعلة والانفعالات المتلاحقة المتباينة التي لا تفهم. . . إن الفيلم المصري في رأي كوكتو لا يهدف إلى فكرة، وإن المؤلف الحق هو من يهدف بقصصه إلى الدعاية لفكرة، وكلما بسط هذه الفكرة وأوضحها وفق ونجح في الوصول إلى هدفه، واستطاع أن يخرج بعمله من إطار المحلية في الفن إلى نطاق العالمية! أما مصر فقد قال عنها كوكتو إنها أوحت إليه الكثير. . . لقد انفرد بأبي الهول ساعات في النهار والليل، وصادف من قلبه منزلة حسنة فباح له بسره، أما هذا السر فسيحمله إلى المصريين كتاب يود كوكتو أن يفرغ منه في الشهور المقبلة، كتاب يقبس أسلوبه السحر من وحي النخيل الباسق على ضفاف النيل! بعد هذا يقول كوكتو إنه زاد دار الآثار العربية ورأى فيها أشياء عظيمة رائعة، ولكن طريقة عرضها خاطئة. . . إنها مكدسة كما لو كانت في مخزن!
هذه الآراء الناضجة يبديها فنان ناضج، يملك من رهافة الذوق وعمق الخبرة وطول المران ما يعنيه على النظر الثاقب، والحكم الصائب، والتقدير الممتاز. . . إن كل ما نطلبه من كتابنا القصصيين، ومخرجينا السينمائيين، والمشرفين على صناعة الفلم المصري، هو أن يتدبروا هذه الكلمات لأن الذي ينطق بها هو جان كوكتو لا الأستاذ يوسف وهبي! وما نطلبه من هؤلاء نطلبه من أولئك الذين يقومون بأمر دار الآثار العربية، وحسبهم أن الذي يوجههم إلى الأصول الفنية في عرض تحفنا وآثارنا هو جان كوكتو أيضاً لا الدكتور زكي محمد حسن!
أما الشيء الذي نطلبه من الكاتب الفرنسي فهو أن يكون صادقاً في إصغائه لكلمات أبي الهول، أميناً في نقل حديثه ونجواه. . . إن أبا الهول لا يمكن أن يتجنى على وطنه، لأنه عاصر تاريخه، وأشرف على حضارته، وبارك منذ خمسة آلاف عام مجده الخالد؛ إننا في انتظار كتاب جان كوكتو لننظر فيما إذا كان قد استمع لكلمات محدثه أم انقاد لنزوات هواه!
جولة في معرض الفن الإيطالي:
هذا المعرض الممتاز إقامته بسراي الخديوي إسماعيل بثكنات قصر النيل جمعية محبي الفنون بالقاهرة، بالاشتراك مع متحف بينالي بمدينة البندقية بإيطاليا. . . ولقد ساهم في إعداده كثير من المتاحف وقاعات العرض العامة بميلانو وفلورنسا والبندقية وبليزانس وتريستا، وأصحاب المجموعات الخاصة؛ أما المدارس الفنية التي يمثلها هذا العدد الكبير من اللوحات التصويرية الرائعة، فموزعة بين النيوكلاسيكية والرومانتيكية والواقعية والذاتية والسريالية.
سأقدم إليك مما شاهدت بعض لوحات ممتازة إذ يضيق النطاق عن التحدث عن كثير. . . اللوحة الأولى (أولاد الأمير والأميرة تروبتسكوي) للفنان الرومانتيكي الملهم دانيال رانزوني. ستلمس في هذه اللوحة عبقرية التلوين والتظليل. . . إن رانزوني ينقلك بظلاله وألوانه إلى آفاق وافنشي وموريللو ويوسان، ولكنه يختلف عنهم في ظاهرة الميل بفنه إلى الأجواء القاتمة المحجبة، تلك الأجواء التي تخضع لأثر البيئة في مزاج الفنان. . . لقد كان رانزوني من أبناء مقاطعة يغلب فيها الضباب على الإشراق، ومن هنا انعكس الدور الذي عاش فيه بحسه على الفن الذي عاش بروحه، وما الفن كما قلت غير مرة إلا انعكاس صادق من الحياة على الشعور!
أما اللوحة الثانية فهي (الحصان الميت) لأبرع فناني إيطاليا في القرن التاسع عشر جيوفاني فاتوري. . . إن فاتوري لا يمكن أن يسمو بظلاله وألوانه إلى مقدرة رانزوني، ولكنه يبزه ويتفوق عليه في مجال الفن التعبيري. إن مزية هذا الفنان تتركز في ريشته التي تنقل إلى الورق أدق ما في الحياة من لمحات؛ نظرة واحدة إلى لوحته الفريدة تنبئك بأن هذا الرجل الواجم المطرق الملتاع، لا يملك من دنياه غير هذا الحصان الملقى تحت قدميه. . . هنا وجه معبر تطلق الريشة من قسماته أعمق معاني اليأس والألم والدموع! هل تعرف دي لا كروا في دقة تعبيره؟ إن فاتوري يذكرك بهذا الفنان!
تعال بعد ذلك لنتأمل هذه اللوحة الثالثة (حنان الأم). . . إن مبدعها ترانكيلو كريمونا يمتاز بالجمع بين موهبتين: التلوين والتعبير. أما التلوين فطريقته فيه تختلف عن طريقة زملائه، ' ن ألوانه على القرب متداخلة، باهتة، تمتزج فيها الأضواء بالظلال ولكنها على البعد شيء آخر. . . إنها تبدو لعينيك متناسقة، مشرقة، متميزة ببراعم التصميم! أما في مجال التعبير فإن هذه اللوحة تذكرك بلوحة أخرى لرفائيل هي (العذراء والطفل). . . إن كريمونا يكاد يقترب من رفائيل في تصويره لأسمى معاني الأمومة في نظرات السيدة العذراء، وفي تعبيره عن أرفع معاني البنوة في نظرات السيد المسيح!
وقف طلايلاً أمام هذه اللوحة الرابعة، إنها (الهجوم على عربة الحشائش) لحامل لواء المذهب الواقعي في إيطاليا فيليبو باليتزي. . . إن هذا الفنان يمتاز بالحساسية المرهفة؛ الحساسية التي تطبع أعماله الفنية بطابع الحركة الجياشة المتدفقة. تمثل هذه اللوحات عدداً من المواعز يهجم في نهم بالع على عربة محملة بالحشائش. . . أنعم النظر في وثبات المواعز وفي تلك النشوة المنبعثة من عيونها وهي مقبلة في ثورة الجوع على غذائها الحبيب، لتلمس كيف يشيع باليتزي الحياة والحركة في لوحته، وكيف يغرقها في جو من الواقعية التي تطبع الفن بطابعها القوي الصادق المتميز. . . إن الحركة في فن باليتزي تذكرني بمثيلتها في فن رمبرانت!
بقي أن أشير إلى لوحات أخرى تغري بالتأمل وإطالة الوقوف وهي: (الراحة) لأنطونيو فونتانيزي، (وموسيقى المشاة) للويجي نونو، و (رجل يقرأ) لجينوبي أباني، و (الحظيرة) لباليزي صاحب (عربة الحشائش)، و (غروب الشمس في سان مورو) لفونتانيزي أيضاً. . . أما الحجرة التي تقع إلى اليمين وأنت تتخطى الباب الخارجي فلا تحاول أن تدلف إليها حتى لا يفسد ذوقك، إنها حجرة السير ريالزم!!
إيفات على قبر غاندي:
هل تعرف هذا الرجل العظيم هربرت إيفات؟ إنه وزير خارجية أستراليا، والرجل الذي هز أعماق الضمير الإنساني حين وقف أكثر من مرة ليدافع عن حقوق الأمم الصغيرة أمام هيئة الأمم المتحدة! لقد شاهدته فبل أيام في إحدى الصحف اليومية وهو يحج إلى قبر الروح العظيم؛ شاهدته يقف وقفة العابد المتبتل يضم يديه في خشوع إلى صدره، وكأن القبر الذي أمامه قد استحال إلى محراب! ولقد خيل إلي في وقفته تلك أن عينيه تسران إلى القلب حديثاً فيه رؤى ما كان أروعها وأطياف. . . إن هربرت إيفات كان يتحدث في لغة الصمت إلى الرجل الذي وهب قلبه للإنسانية وضحى بحياته من أجل السلام. ترى ماذا كان يقول له وهو في رحاب الأبد وفي ضيافة السماء؟ وأية كلمات تلك التي انطلقت من نظراته الحالمة لترطب الثرى المعطر برفات رجل السلام والوئام والمحبة؟. . . لعله كان حديثاً عن الإنسانية التي مات فتها الضمير يوم أن امتدت إلى غاندي يد لطخها العار فأطفأت الشعلة وعصفت بالضياء، وأي ضياء هذا الذي خبا يوم أن قضى الروح العظيم والقلب الكبير، وترك الحياة من حوله تغيش تحت قبضة الظلام؟. . . ما كفرت بالضمير الإنساني إلا بعد أن قتل غاندي، وما كفرت بالضمير الإنساني إلا بعد أن وقف إيفات ليدافع عن حقوق الضعفاء فضاع صوت الحق وسط ضجيج الباطل وخفت صداه. . . ترى أكان إيفات يتحدث إلى غاندي عن خيبة الأمل وضيعة الرجاء، أم كان يسأله الرأي ويستمد من روحه العون ويقضي حقوق الوفاء؟!
أنور المعداوي