مجلة الرسالة/العدد 823/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 823/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 04 - 1949



الشروق

ديوان شعر للأستاذ حسن كامل الصيرفي

بقلم الأستاذ مختار الوكيل

علم الله كم سعدت وفرحت حينما أهدى إلي صديقي الكبير الأستاذ حسن كامل الصيرفي ديوانه الجديد الأنيق (الشروق). فرحت لأنه أعاد إلى ذاكرتي تلك الحقبة الطيبة المباركة من مطالع الشباب الغرير الطافر، التي تعارفنا خلالها وتعاونا في ظلال تلك الدوحة الأدبية الفنية الوافرة الظلال (أبولو) التي رعت النهضة الشعرية في هذه البلاد وفي سائر بلاد العروبة، وأحدثت - بفضل نشاط باعثها الدكتور أبي شادي نزيل الولايات المتحدة الأمريكية اليوم - نهضة وثابة جريئة في دنيا الشعر والأدب؛ فعليها وعلى باعثها ورائدها الأول ألف تحية وسلام!!. . وسعدت لأن الشعر الأصيل الحي لا يزال، في هذه الآونة التي طغت المادية فيها على كل شيء عداها، يجد التأييد والمؤازرة الصادقة من الناشرين المخلصين الذين يأبون إلا أن يطلعوا القارئين على روائع الإنتاج الأدبي، فيسوقون إليهم هذا الشراب الخالد من نبع الشعر الكريم ليكرعوا منه فتطهر نفوسهم ويذهب عنهم ما يرين عليها من صدأ المادية الصماء!!. .

عرفت الصيرفي إذن منذ ستة عشر عاماً شاعراً متصوفاً يميل إلى الرمزية ويجنح إلى الإغراق في التأمل، لا ينظر إلى ظواهر الأشياء والمرئيات وإنما يتعمقها ويغوص إلى باطنها باحثاً عن صميمها وجوهرها، ويعاني التجارب الشخصية ويكابدها ولكنه لا يتحدث عنها، إذ ينظم، حديثاً شخصياً وإنما يصوغها مبلورة في تجارب عامة مما يعانيه جمهور الناس في كل مكان وزمان. أجل وعرفت الصيرفي في ذلك الحين شاعراً رشيق اللفظ موسيقي الجرس، يحسن بموسيقاه الطلية المنغومة التعبير عن نفسه الصافية وروحه النقية الشفافة، كما عرفته شاعراً صادقاً لا يتعب الناقد في التعرف على شخصيته مما ينظم! وبينما كان معظم الشعراء أو الذين عرفوا بأنهم شعراء ينظمون في المناسبات التافهة ويمدحون ويتهالكون على الملق والرياء، ويرثون ويمعنون في تكلف البكاء، كان حسن كامل الصيرفي من القلة الثائرين على تلك الأوضاع المتكلفة المقيتة، الذين يؤثرون النظم عندما تتحرك عواطفهم وتجيش نفوسهم وتستعد لاستقبال (الوحي) الفني، ولو كان ما ينضمونه في قطعة بكاء أو صخرة جرداء!!. . وعرفت الصيرفي في طليعة المعنيين بمتابعة الحركة الشعرة في مختلف الأقطار العربية، بل وفي بلاد المهجر، فكان يواصل الكتابة ناقداً ومقدماً ومعقباً على النتاج الشعري والأدبي والفني في بلاد المهجر وبلاد العروبة على اختلافها، وتولى في غير من تعريف الأدباء المصريين برصفائهم في المهاجر الأمريكية وفي الأقطار العربية الأخرى، في زمن قلت فيه الصلات والروابط فيما بينها. ولعل شاعرنا قد شغف حباً بأدب المهجر، ولعل نفسه انجذبت إلى تلك الينابيع المتحررة في المهاجر فتاقت إلى انعتاق فني مماثل. .!! ومن هنا تلاقت روحه بأرواح أولئك المجددين عبر الأطلنطي، وامتزجت بها في انسجام رائع أنتج لنا تلك الأشعار (الصيرفية) التأملية الصوفية ذات الموسيقى المنغومة والألفاظ الرقيقة المضيئة!!. .

ذلك هو الصيرفي الشاعر كما عرفته منذ ستة عشر عاماً، وازدادت معرفتي به توثقاً بما كان ينظم وينشر من دواوين حافلة، إلى أن تفضل فأسعدني بديوانه الجديد (الشروق). فهل تغير الصيرفي أو حاد عن الاتجاهات التي جعلها قبلته، أو آمن بشعر المناسبات، أو عزف على أوتار أخرى كانت غريبة عنه في ذلك الشباب الباكر؟ أشهد لقد طالعت ديوان الصيرفي الجديد فمثلت حيالي في كل قصيدة، بل وفي كل بيت من قصيدة، تلك العناصر التي امتاز بها شعره الباكر، وإن كانت الأيام والتجارب قد مكنت لتلك العناصر وأبرزتها في أقوى صورة وأنصع ديباجة.

دافع الشاعر في قصيدته الأولى عن الشعر ووجه الخطاب فيها إلى أولئك الذين يقولون إن الشعر لم يعد من مستلزمات هذا العصر)، ولقد ذكرت، وأنا أطالع هذه القصيدة الرائعة، دفاع الشاعر الإنكليزي ب. ب شيللي عن الشعر، وأشهد أن قصيدة الصيرفي قد هزتني وحركت شجوني؛ وأعتقد أنها قصيدة بارعة رائعة، ولقد أعجبت غاية الإعجاب بقوله:

فيوم نُفارق الدنيا ... وتلك قصيدة الله

سنغرق في صداه العذْ ... بِ بين ضيائه الزاهي

وهنا يلخص الشاعر الكون كله ويختصره ويعتبر نهايته (القصيدة الكبرى) قصيدة الشاعر الأكبر المعجز!

ولعل قصيدة (الحرمان) التي أهداها الشاعر إلى صديقه الدكتور أبي شادي، الذي ناضل وجاهد، وأحس بمرارة الحرمان في الشعر العربي الحديث. اسمعه يقول:

أعبد الحسن زها في كوكب ... أجتليه صامتاً لم أعرب

وهل لم يشعر بإحساسي وبي. . .! ... خاطر من حسنه في موكب

مشرق مَن نوره المنسكب ... فائض الكأس شهي المشرب. .!

ولا أستطيع التعليق على هذه اللوحة الفنية البارعة، لأن كل محاولة تبذل في هذا السبيل إنما تشوه من جمالها وتخدش من ملاحتها، واستمع إليه حيث يقول:

كلما جئتُ بمعنى مُعْرب ... عن هوى قلب ولوع متعب

فرَّتْ الألفاظ حيرى تختبي ... فهي كالشمعة في عين الأبي

وهي كالفكرة في ذهن الصبي. .! ... وهي كالفتنة في قلب النبي. .!

والواقع أن الشاعر الذي تفر منه (الألفاظ) وهو يبحث عنها جاهداً ساعة الاحتشاد للنظم هو وحده الذي يستطيع أن يدرك جمال الحيرة وجلال اللوعة الممثلين في هذه الأبيات المعربة غاية الإعراب عن القلق والحرمان.

أما أغنية (القبلة) فهي من أرق المقطوعات الغنائية التي طالعتها أخيراً، وهي جديرة بأن تلحن وتغنى فتطعم أغانينا بطراز راق من الفكر الممتاز والمعنى المستطاب، ويا حبذا قوله منها:

أغرودة في السكون ... يطوي بريق العيون

فيها، فتور الجفونْ

لو ردَّدتها الشفاهْ

في لثمها. بادليني!

والصيرفي في قصيدته (اجعلني حُلماً) شاعر متصوف حالم رقيق اللفظ نقي الصور، ويا ما أبرعه حيث يقول:

اجعليني حلماً يطوف ويسرى ... من قلوب الورى إلى شفتيك

اجعليني حلماً لذيذاً شهياَ ... مثلما يحلم الفقير بملك اجعليني حلماً كما أنت حلمي ... فأريك الحياة من غير إفك

بلبلات الخميل تنقل عني ... شعر قلب نقلته أنا عنك

كذلك يبلغ الصيرفي المدى في الإجادة في قصيدته (الأفق) حيث يقول:

أنت كالأفق إذا حاولت أن ... أبلغ الغاية منه بعدا

تعبت عيناي في إدراكه ... وشكت رجلاي فيه الجددا

أشهد الأسرار فيه تختفي ... كالأغاني في تضاعيف الصدى

فإذا حاولت أن أكشفها ... صرت سراً طيها قد خلدا

ليتني أفق! فلا أتعب من ... يرتجي الأفق وقربت المدى.!

كذلك يبلغ الصيرفي أقصى غايات الإبداع في قصائده العاطفية الصادقة (تنهداتي) و (القائد المدحور) و (وحدة العمر)، وهذه الأخيرة مقطوعة من الشعر التجريبي المشوب بالفلسفة الهادئة الرزينة، على الرغم مما تنطوي عليه من مرارة وسخرية كما في قوله:

تعال فربما جاوزت داري ... فتجربني الحياة إلى قراري

فأمشي بين أضواء النهار ... إلى ليلى ويهزأ بي انتظاري.!!

وشد ما أعجبت (بنشيد الثورة) الذي نظمه الشاعر في نوفمبر عام 1935 وكم يكون رائعاً ومفيداً لو وجد هذا النشيد عناية من ملحني العصر البارزين، ولا أحب أن أقبس منه هنا، فيحسن الرجوع إليه في جملة الديوان، لأن النقل منه يشوه جماله.

ولقد لاحظت في شعر (الشروق) ظاهرة (جديدة) هي ميل الشاعر إلى الإكثار من الحديث عن (الصمت) و (السكون) ففي قصيدة (إلى المعبد) يقول:

(والصمت) يغمره ويفني ذاته ... ولقد يكون (الصمت) خير تعبد

ويقول في القصيدة نفسها:

طال الوقوف به فأعيا (صمته) ... هل تنفع النجوى بباب موصد؟

ويقول في قصيدة (ساعة اللقاء):

ساكن الأرض (صامت) في حنين ... لنشيد مرجع من سمائك

وفي (خمرة الفن) يقول:

ما أعجب (الصمت) أعياني وأنطقني! ... فهل يحرك هذا (الصمت) منشده؟ وفي (تنهداتي) يقول:

قالت: علام تنهداتك في (سكونك) يا حبيبي؟ ... هل أنت في فردوس حبك حامل عبء

الغريب

وفي (ثورة الجدول) يقول:

(سكنت) إلية (سكون) المصلي ... أمام جلالة محرابه

يعانق نور الجلال البعيد ... وينسى الرغائب في بابه

وفي (موت فنان) يقول:

أأنت يا (صامتاً) تؤوب ... أيامه للمدى البعيد

ويقول:

(أصمتك) الموحش الكئيب ... يا هاتف الأمس سخرية

بعالم مغرم يذوب ... على ترانيم أغنية؟

ويقول:

قد خفت في (صمتك) المنون ... بروحك الحية الصدى!

إلى غير هذه الإشارات والتعبير والصور التي تنوه بالصمت وترسم السكون في لوحات موحشة وأخرى ساخرة أو حزينة أو متفلسفة أو رمزية.

حقاً لقد سعدت بمطالعة ديوان الصيرفي الجديد (الشروق) هذا الديوان الذي أضاف كثيراً إلى ثروة الشعر العصري الأصيل المبتدع الذي نسعى جاهدين لكي يزداد ازدهاراً وإشراقاً، حتى تكون له آخر المطاف على مدرسة الاتباعيين والتقليديين الذين يعيشون على المدائح والمرائي والمجاملات والمناسبات.

فهنيئاً لمدرسة الجديد بهذا الديوان الرشيق الذي سكب فيه شاعرنا الكبير روحه المتأملة، وعاطفته الخالصة، وموسيقاه الرقيقة، وهنيئاً لشاعرنا بهذا الإنتاج القيم الذي نرجوه أن يتصل ويستمر لخير النهضة الشعرية.

مختار الوكيل