مجلة الرسالة/العدد 822/رؤيا مزعجة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 822/رؤيا مزعجة

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 04 - 1949


لم أكد آوي إلى فراشي البارحة حتى انثالت على خاطري صور

أشتات من جملة ما سمعت وقرأت عن حال المشردين من عرب

فلسطين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، وجردوا من مالهم بغير

رحمة، وقضي في مصيرهم بغير عدل. وكان مبعث هذه الصور

حديث سمعته عصر الأمس من صديق عاد من فلسطين بعد ما رأى

بعينيه افظع مناظر البؤس، وسمع بأذنيه أروع مآسي الحياة. وكنت

وهو يتحدث أتمثل من خلال وصفه طرائد صهيون من ورَّاث المجد

وربائب النعيم يلوذون بمغاور الجبال وكهوف الأودية، ويتبلغون بيابس

النبت وآسن الماء، ويتسترون بأخلاق الثياب ومِِزق الخيش، وأطفالهم

دفاق الأشباح فوق ظهورهم أو بين أيديهم يتضاغون من الجوع

ويتطرحون من الكلال؛ ونسائهم الشواحب العجاف يجررن أرجلهن

الدامية على الحصى جراً فلا تكاد تتبعهن من فرط اللغوب. فإذا ذكرن

ما صنع بهن علوج إسرائيل ذرفن ما بقي في المآقي، ثم تطلعن لها في

إلى صلاح الدين الهاشمي يستصرخنه للمجد المغلوب، والتراث

المغصوب، والعرض المسلوب، فتهب وا أسفاه ريح (غريبة) تعدل

بصرختهن عن القصر إلى الفقر، فلا يسمعهن وريث الرشيد، ولا

ينجدهن سليل المعتصم!

أمست هذه الصور المروعة تتمثل في ناظري، أو تتراءى في خاطري، وصوارف العمل أو شواغل الناس تخفيها الساعة بعد الساعة، حتى خلوت إليها على وسادي القلق، فتوالت في ظلام الغرفة مسرعة على عيني، كما تتوالى صور الفلم متلاحقة على عين المشاهد، فرأيت في أطراف فلسطين وعلى حدود جاراتها المضيافة ثلاثة أرباع المليون من كرام العرب يعيشون في الخرائب والملاجئ عيش الحرمان، يقتاتون السوف، ويكابدون الجوع والخوف، وينظرون إلى رياضهم الجنية تعيث فيها الذئاب، وإلى حياضهم الروية تلغ فيها الكلاب، فلا يملكون لأنفسهم إلا عبرات تتحدر وزفرات تتصعد، ومجلس الأمن ووسيط هيئة الأمم ولجنة التوفيق ودول الديمقراطية يستطعمون الواغل لصاحب المأدبة فلا يطعم، ويستعطفون الدخيل على مالك الدار فلا يعطف!

وثقل الأسى على أعصابي المضطربة فغلبني النوم. ولا أدري بعد كم دقيقة أو ساعة من رقادي دخل علي في مكتبي صديقي المغفور له إسعاف النشاشيبي في هيئة مبذوءة وثياب رثة: بذلة من الصوف المهلهل لا لون لها من البلى ولا معالم، وطربوش كلبدة الفلاح دارت عليه لفافة من بقايا قميص ممزق، وحذاء غليظ من أحذية الجيش لا رباط له ولا جورب. . . فقلت له وأنا لا أصدق عينيَّ ولا أملكهما: ماذا صنع الدهر بالثريِّ السخي المترف المتنطس يا إسعاف؟! فقال في تسليم واستكانة: هو ما ترى! رأيت بعيني حي (الشيخ جراح) يٌستباح ويجتاح، وداري العربية تحتلها كتيبة يهودية، ومكتبتي الحبيبة تنتقل إلى الجامعة العبرية، وضياعي الخصيبة في يافا يحول ريعها إلى تل أبيب! فلما رأيتني أصبحت لا دار ولا أهل ولا ملك ولا مال، هاجرت مع المهاجرين، ولجأت إلى مصر مع اللاجئين. وقد كنت تقول لي وأنا أوثر (الرسالة) بجهدي الضئيل: لولا غناك لأعطيناك. وهاأنذا اليوم أصبحت فارغ الكف والقلب من المال والأمل، لا في الجيب ولا في الغيب! ثم بكى فبكيت؛ وسمع نشيجي بعض أهلي فأيقظوني، فاستيقظت وأنا احمد الله أن مات، قبل أن يقاسم وطنه وقومه هذه النكبات!

أحمد حسن الزيات