مجلة الرسالة/العدد 822/تعقيبات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 822/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 04 - 1949



للأستاذ أنور المعداوي

بين نيتشه وفاجنر أو بين الخيال والواقع:

تطوع الأستاذ الشاعر محمد فهمي لينتصف لصديقه الأستاذ عبد الرحمن الخميسي، وخيل إليه - وما أخصب خيال الشعراء - أنه قد انتصف له!

أول شيء أسجله للأستاذ محمد فهمي أنه رجل طيب، والدليل على أنه رجل طيب هو أن كل دليل استند إليه لا يغير شيئاً من جوهر الحقيقة التي يقررها ميزان النقد؛ النقد الذي يقف من النصوص موقف التأمل والمناقشة، ويقف من التاريخ موقف التمحيص والمراجعة.

لقد قلت إن موسيقى فاجنر قد لقيت من قلم نيتشه أعنف وأبشع ما لقيته موسيقى فنان من قلم فيلسوف، وأوردت مما قاله الفيلسوف في الفنان قليلا من كثير، ووافقني الأستاذ فهمي علي ما قلت، ولكنه عاد ليذكرني بأن هذه الموسيقى قد لقيت أيضاً من قلم نيتشه أسمى آيات المديح. . . أنا والله أعلم هذا يا أستاذ ولكن علمي يختلف عن علمك؛ يختلف عنه بقدر ما تختلف عقلية ناقد عن عقلية شاعر!

يا قراء (الرسالة) تعالوا نسلط الضوء على الدليل الفذ الذي أورده الأستاذ فهمي في مجال الانتصاف لصديقه، إنه رسالة. . . من نيتشه إلى فاجنر بمناسبة أول كتاب أخرجه وإهداء إليه، تلك التي يقول له فيها: (لعل هذا العمل (يقصد كتابه الجديد) يكون ولو إلى حد ضئيل، رداً لجميل عنايتك الفائقة التي أوليتنيها في خلقه) إلى هنا ونقف قليلاً لنهم الأستاذ فهمي بتشويه الترجمة في سبيل تأييد رأيه! إن الكلمات المقابلة لهذه الترجمة العربية المشوهة هي:

إن التشويه هنا متركز في عبارة: (رداً لجميل عنايتك الفائقة التي أوليتنيها في خلقه) لقد ترجم الأستاذ بكلمة (أوليتنيها) تكلموا يا من تعرفون الإنجليزية. يا من تعرفون فن الترجمة! تكلموا لتقولوا إن المقابلة الصادقة لكلمات نيتشه تتمثل في هذه الترجمة: (لعل هذا العمل (يقصد كتابه الجديد) يكون ولو إلى حد ضئيل، جزاء لما أبديت من اهتمام بالغ في أثناء إخراجه)!. . . يريد نيشته أن يقول لفاجنر إنك أظهرت نحوي كثيراً من الاهتمام والعطف بمناسبة أول كتاب ألفته، وإني لآمل أن يجزيك إهداؤه إليك أجر ما أظهرت من كريم العاطفة نحو مؤلفه! ولكن الأستاذ فهمي يريد أن (يجبر) نيتشه على القول بأن كتابه مدين بخلقه لفاجنر!

هذه ملاحظة على هامش المشكلة نعود بعدها إلى جوهر المشكلة. . . هل يعلم الأستاذ فهمي في أية سن اتصل نيتشه بفاجنار، وفي أية سن بعث إليه بهذه الرسالة المرفقة بكتابه الذي أهداه إليه؟ لو علم لبحث عن دليل آخر غير هذا الدليل المتهافت الذي أورده في كثير من الزهو والثقة والاعتداد! لقد اتصل نيتشه بفاجنر في سن الخامسة والعشرون، وألف كتابه الأول وأهداه إليه في سن الثامنة والعشرون، وفي هذا الوقت كان فاجنر في سن التاسعة والخمسين من عمره. . . شاب ناشئ يخطو أول خطوة في طريق مجد يتطلع إليه، وشيخ قطع طريق المجد كله حتى بلغ منتهاه. وهنا نرفع معول التدمير لنهوى به في (رفق) على الدليل الفذ الذي يزهي به الأستاذ فهمي ويعتد! شاب ناشئ يتعلق أستاذاً في الموسيقى طبقت شهرته الآفاق ليمهد له طريق الشهرة والظهور، ولابد - شأن كل ناشئ يعيش في رحاب أستاذ كبير - من التملق والمجاملة في سبيل الوصول إلى تحقيق أمانيه. . . هذه هي الحقيقة التي يقررها الواقع ويقررها رومان رولان في كتابه ' (ص 63) ولعل الأستاذ يوافقني على أن كلمات يمليها، التملق في السن المبكرة، غير كلمات يمليها الإيمان والثقة والفكر الناضج في السن المتأخرة! يقول نيتشه لفاجنر في سن الثامنة والعشرين: إنك موسيقي عظيم أشعر بزهو لا يحد حين يقترن اسمي باسمه إلى الأبد، ويقول له في سن الخمسين: إنك رجل منحل، متلف هدام، لا تهز بموسيقاك المريضة إلا أعصاب النساء. . . بأي القولين نثق وبأي القولين نؤمن؟. أيقول الفتى الناشئ المتملق الذي لا تعنيه سنه على وزن الفن بميزان الملكة الناضجة، أم بقول الفيلسوف العبقري الذي نطق بكلماته الأخيرة في وقت كان يطلق عليه فيه سيد المفكرين؟. . . إننا نهمل كلمات المجاملة التي نطق بها الفتى الناشئ ليصل عن طريقها إلى مجد يتطلع إليه؛ نهملها ولا نقيم لها وزناً على الإطلاق، ولا نثق إلا بتلك الكلمات الأخرى التي نطق بها الفيلسوف العظيم في أوج نضجة الفكري واستقامة موازينه وفهمه لحقائق الأمور، نثق بها لأن نيتشه يقول لنا بصراحة: (إن رأيي الأول في فاجنر قد غيرته السن، أما رأيي الأخير فلن تغيره الأيام) نفس المصدر ' (ص68). . . إن بعض الآيات في القرآن الكريم يا أستاذ قد نسخت أحكامها أحكام آيات أخرى، فلم لا تنسخ أحكام نيتشه الأخيرة أحكامه الأولى، وتلغيها، وتدفع بها إلى زوايا الإهمال والنسيان؟!

من هنا يا أستاذ فهمي أصدرت حكمي على هذا الرأي الذي نادى به صديقك ووافقته أنت عليه، حين يقول إن موسيقى فاجتر قد فتقت أكمام العبقرية في نيتشه! لقد ولد نيتشه يا صديقي وفي دمه بذور عبقرية موهوبة، ولو قدر له ألا يرى فاجتر لما تبخرت من نبغ فكره المحلق قطره واحدة من قطرات عبقريته، وكل من يقول بغير هذا الرأي إنسان لا يحترم عقله. . . متى كان إعجاب رجل بآخر ومديحه له دليلاً على تفتيق أكمام العبقرية فيه؟! إننا نستطيع أن نفرض المستحيل، والمستحيل الذي نفرضه لنمضي مع الأستاذ فهمي إلى نهاية الشوط، هو أن نيتشه قد أعجب بفاجنر وأن هذا الإعجاب قد ترتب عليه خلقه لعبقريته. إذا فرضنا هذا وحلقنا في أفق الشعراء والتقطنا النجوم ونثرناها درراً من الكلام، وخرجنا من هذه الدرر بهذه الحقيقة الفذة، فإننا نستطيع أيضاً بهذا الميزان الذي يقام على أجنحة الخيال أن نقول إن موسيقى بيتهوفن قد فتقت أكمام العبقرية في جتيه! ألم يكن جيته يعجب بموسيقى بيتهوفن، ويقدسها، ويعدل بها موسيقى فنان آخر؟ لا بأس على الإطلاق من أن نعلن على الملأ هذه الحقيقة التي تذوب خجلاً من روعة هذا القياس!

بقي أن نرفع معول التدمير مرة أخرى لنهوى به في (رفق) على آخر دليل أورده الأستاذ فهمي، وهو أن نيتشه قد صب نقمته على فاجنر حين أقصاه هذا عن بيته وقطع صلته الغرامية بزوجته، يصدق الأستاذ فهمي هذا الفرض الذي نقل إليه، فلم لا يصدق هذا الفرض الآخر الذي يمكن أن يقال له، وهو أن نيتشه لم يخلع على فاجنر أثواب المديح والإطراء إلا بفضل علاقته الغرامية السابقة بزوجته؟!. . . ترى أكان نيتشه حين رمي فلسفة شوبنهاور بالزيف والخواء، ترى أكان متصلاً بزوجته أيضاً ثم قطعت هذه الصلة يا أستاذ فهمي؟ حنانيك يا موزاين النقد!

بقي شيء يفرض عليّ الموقف أن أثبته في ختام هذه الكلمة، وهو أنني أشكر للأستاذ عبد الرحمن الخميسي رحابة صدره في تقبل نقدي له. . . الحق أنه أدهشني بهذه الروح المثالية حين لقيني منذ أيام في ندوة الرسالة، وحين قال إنه لا يضيق بالنقد مهما عنف ما دام هدفه الأول هو الكشف عن الحقائق ووضع كل شيء في مكانه.

إنني أسجل إعجابي بهذه الروح الطيبة، وأرجو أن أكون قد كشفت عن حقيقة الصلة بين نيتشة وفاجنر، كما يقررها الواقع لا كما يتصورها الخيال!

وللأستاذ الخميسي أطيب تحياتي.

لحظات مع الفنان الفرنسي جان كوكتو:

يزور مصر الآن فنان فرنسي موهوب هوجان كوكتو، ولا أعرف رجلاً من رجال الأدب والفن في عصرنا الحاضر تعدد مواهبه كما تعددت مواهب هذا الرجل. . . إن كوكتو رسام وشاعر وكاتب مسرحي وناقد وأديب، وهو بعد ذلك مخرج مسرحي يشرف بنفسه على إخراج قصصه وقصص غيره في فرقة الممثل الفرنسي النابه جان ماريه، وهي الفرقة التي تعمل منذ أيام على مسرح الأوبرا الملكية.

ولقد استوقف نظري ما جاء بمقال الدكتور طه حسين بك في (الأهرام) عن كوكتو حين قال: (وجان كوكتو أديب فرنسي ممتاز، ولعله أن يكون من أظهر الأدباء الفرنسيين وأشدهم امتيازاً في هذا العصر، وربما كان أظهر الخصال التي تميزه أن نزعاته الأدبية والفنية لا تسلك طريقها إلى الفوز دون أن تلقي من العقاب والمقاومة ما يثير حولها كثيراً من الخصومه والجدال)!

الواقع أن هذه الكلمات التي نطق بها أديبنا لكبير تقرر الواقع في كثير من الدقة بالنسبة إلى فن جان كوكتو. . . إن الرجل فنان ممتاز ما في ذلك شك، ولكن فنه يثير كثيراً من الجدل واختلاف الرأي بين خصومه وأنصاره، أناس يرفعونه إلى القمة وآخرون يهوون به إلى الحضيض، والزمن وحده كفيل بتقدير فن الرجل ووزنه بميزانه. ولقد تهيأ لي أن أطلع على أربع رسائل تلقاها من باريس أحد أصدقائي من بعض زملاء دراسته في السوربون، وهي تدور كلها حول كوكتو وفنه ورحلته إلى مصر رسالتان تحطان من قدره وتحملان على خلفه، ورسالتان ترفعان فنه وتشيدان بمواهبه، وأنا بين الرسائل الأربع يأخذني العجب من رجل لا يلقي رأياً وسطاً بين المعجبين به والمتحاملين عليه!

مهما يكن من أمر كوكتو وأمر خصومه وأنصاره، فإنني أشارك الدكتور طه دهشته من أن بيئة ثقافية واحدة في مصر، لم تفكر في إحداث صلة بين هذا الأديب العظيم وبين شبابنا المثقفين. . الواقع أننا نغط في نوم عميق!

ردود قصيرة على رسائل القراء:

أشكر للصديق المجهول الذي كتب إلي من القاهرة جميل تقديره، وأود أن يبعث إلى باسمه وعنوانه لأرد إليه تحيته، أما الصديق الآخر المجهول الذي كتب إلي للمرة الثانية من الإسكندرية فأرجو أن يبعث إلي أيضاً باسمه وعنوانه لأجيبه عن أسئلته التي أشرت إليها من قبل، لأن الإجابة عنها في (الرسالة) ستشغل الصفحات الثلاث المحددة للتعقيبات.

أما الأديب الفاضل صبري حسن علوان الطالب بكلية العلوم بجامعة فؤاد فيعتب على تلك التحية التي وجهتها إلى طلاب الأزهر، ومما جاء في رسالته: (. . وأحب أن تحيي الشباب المخلصين للأدب والفن على أنهم أدباء، لا على أنهم من طلاب الأزهر أو طلاب الجامعة)!. . إن ردي على هذا العتاب هو أنني ما حييت هؤلاء الشباب إلا لأنهم أدباء، ولكن من حقهم علي أن أشير إلى أنهم من الأزهر، ومن حقك علي أيضاً أيها الأديب أن أحييك مشيراً إلى أنك من الجامعة. وهذه رسالة رابعة من بغداد يناقشني فيها الأدب الفاضل محمد روزنامجي الطالب بكلية الحقوق حول ما كتبته عن الأستاذ سلامة موسى. أحب أن أقول لهذا الصديق العراقي الفاضل إنني أرجو أن يتسع وقتي لأرد عليه في رسالة خاصة. ورسالة خامسة من طنطا يقول مرسلها الأديب الفاضل محمود محمد على إنه يؤيد ما أبديت من رأي في شخصية بيرون الأدبية والإنسانية، ويرجو أن أتناول بالنقد والتحليل - كما فعلت عند الحديث عن بيرون - بعض الشخصيات الأدبية في مصر. . . إنني أشكر له خالص ثنائه وقد أستجيب لكريم رغبته.

أما الرسالة السادسة فمن (أبو حمرة - سودان) يقول صاحبها الأديب السوداني الفاضل عبد الحليم الحاج محمد إنه يود ألا أقتصر في (التعقيبات) على التوجيه الأدبي وحده، بل يجب أن أخصص جانباً منها للتوجيه الاجتماعي. . يسعدني أن أحقق هذه الأمنية في القريب. وأقول لصاحب الرسالة السابعة الأديب الفاضل محمد علي مخلوف بمعهد التربية العالي بالإسكندرية إنني سأدفع بقصيدتك إلى الأستاذ الزيات مع تزكيتي، كما أقول لصاحب الرسالة الثامنة الأديب الفاضل علي أحمد الخطيب الطالب معهد الإسكندرية الديني إن الكتاب الذي رجع إليه لا يعتمد عليه، لأنه يشوه الوقائع الثابتة ويخالف منطق التاريخ. . ولهؤلاء القراء الأصدقاء جميعاً أصدق الود وأخلص التحية.

جولة طويلة في معرض الفن الإيطالي:

لحظات جميلة وممتعة، تلك التي قضيتها منذ أيام في معرض الفن الإيطالي. . كم أود أن يزور المثقفون هذا المعرض الممتاز الذي نظمته جمعية محبي الفنون الجميلة بالقاهرة ومتحف بينالي بمدينة البندقية بإيطاليا، ليحلقوا بأفكارهم كما حلقت قي سماء الفن الرفيع! يؤسفني أن يضيق النطاق عن التحدث عما شاهدت، فإلى العدد المقبل حيث أقدم للقراء عرضاً تحليلياً لبعض اللوحات الممتازة التي وقفت منها موقف التأمل والدراسة والمقارنة.

أنور المعداوي