مجلة الرسالة/العدد 822/الكهلان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 822/الكهلان

ملاحظات: الكهلان Les vieux هي قصة قصيرة بقلم ألفونس دوديه نشرت عام 1887. نشرت هذه الترجمة في العدد 822 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 4 أبريل 1949



للكاتب الفرنسي الفونس دودبه

- هل هذا كتاب أيها الأب أزان؟

- نعم يا سيدي. أنه آتٍ من باريس.

كان الشيخ الوقور ينظر إلى كل ما هو قادم من باريس في رهبة وإعجاب، ولذلك سلم لي الرسالة بعناية واحترام.

ولما كنت رجلاً لا أسير وراء الخيال، ولا أبالي بسحر العاصمة، فقد ألقيت نظرة على الرسالة القادمة في الصباح المبكر وكأنها نذير بحلول زائر سأبتلي بمقدمة هذا اليوم. ولكني كنت مخطئاً، فقد كانت الرسالة تتضمن الآتي:

(عزيزي دودية - يجب أن تغلق الطاحونة اليوم وتذهب في مهمة لأجلي إلى إيجوير. إنها على بعد عشرة أميال ليس إلا من الطاحونة، نزهة صباحية لشباب مثلك (ولم يذكر نزهة أوبتي!) وعندما تصل، اسأل عن ملجأ الأيتام، فبجواره تقع دار صغيرة ذات نوافذ رمادية، وحديقة خلفية. وستجد الباب دائماً مفتوحاً، فادلف إلى الدار دون أن تطرقه. ثم صح بأعلى صوتك) صباحاً طيباً يا أصدقائي، إني صديق موريس (وعندئذ ستشاهد عجوزين، من الحفريات، قبل عهد الطوفان، غارقين في مقعدين أكثر قدما منهما فعانقهما لأجلي كما لو كانا من أجدادك الطيبين. ثم تحدث معهما فسرعان ما يشتركان معك في حديث واحد لا ينتهي - حديث موضوعه موريس. ولن يكلا مطلقاً من تقريظ كمال منقطع النظير لذلك الأنموذج الكامل الفريد الذي لم يكن ولن يكون. وأرجو ألا تتخلى عني، ولا تتردد في الإجابة عن أسئلتهما. اضحك كما تشاء! ولكنهما جداي، رفيقاي في حياتي الطويلة إلى عشر سنوات مضت. نعم، إنها عشر سنوات منذ أن رحلت عنهما قاصداً باريس.

(إن هذين الثرين الواهنين قد يتناثران في الطريق إذا حاولا القيام برحلة إلى هنا. فأرجو يا صديقي الطحان المحترم أن تقوم بواجبات البنوة بدلاً مني وتقبلهما. لقد انتهيت من رسم صورة لك بالحجم الطبيعي عندهم، ولونت فيها ملامحك باللون الوردي. . .) وسارت الرسالة على هذا النمط حتى نهايتها.

وهكذا شاء حظي العاثر ألا أستمتع بهذا اليوم الفريد، فأظل بالدار غارقاً في بحاراً أحلامي في ركن تغمره الظلال. وها أنذا مرغم على الابتعاد عشرة أميال، سائر تحت وهج الشمس ومثار الغبار يؤذي عيني. ولكن، كل شيء يهون في سبيل الصديق، وأغلقت الباب، وأدرت المفتاح، ومضيت ومعي متبغي وعصاي.

وصلت إلى إيجوير قبيل الساعة الثانية. كانت القرية تكاد تكون خاوية، كان أهلها يعملون إذ ذاك في الحقول. ولم أجد هناك بالطبع ألا أتانا تتمتع بضوء الشمس، وحماماً يحوم حول نافورة الكنيسة، وجنادب - أكثر نشاطاً من زميلاتها في أوران - تتعالى أصواتها حول شجرة الدردار الأخضر، وقد اغبرت أجسامها , وهكذا أم أشاهد مخلوقاً يرشدني إلى ملجأ الأيتام. وفجأة لاحت (جنية) طيبة لنجدتي. فقد لمحت عجوزاً هزيلة منطوية على نفسها في مدخل. فسألتها عن الطريق فأشارت بإصبع متخاذلة. وبدا لي الملجأ كأنما ظهر بفعل عصا سحرية. كان بناء شامخاً قديماً قابضاً، يعلوه صليب من الآجر، وقد نقشت على مدخله كتابة لاتينية، وقامت بجواره دار صغيرة، ذات نوافذ رمادية وحديقة خلفية. كانت مقصدي، فدلفت إليها دون أن أقرع بها.

إن مشهد تلك الدار قد نقشت في ذاكرتي إلى الأبد: تلك النظافة التامة، وذلك الهدوء الشامل في الردهة الطويلة، والجدران الوردية، والحديقة بأزهارها تتمايل مع النسيم، وقد بدت خلال النوافذ ذات الألوان الزاهية، وصفائح الجدران المزدانة بصور الزهر، وقد حالت من القدم. وخيل إلى كأني في دار أحد أشراف سيدان. وسمعت خلال باب منفرج نضف انفراجه دقة ساعة، وصوت طفل يقرأ في صوت جهوري، كلمة كلمة، ومقطعاً مقطعاً (ثم - أنا - القديسة - أيربنية - صحت - أنا - دقيق - الإله - ويجب - أن - أطحن - وأنثر - بأنياب - تلك - الوحوش. . .) واقتربت وأنا أمشي على أطراف قدمي وتطلعت.

شاهدت في غلالة من ضوء النهار الساكن، كهلا منفرج الفم، واضعاً يديه على ركبتيه، ومستغرقاً في سبات عميق على مقعد. كانت وجنتاه موردتين، وجلده مجعداً حتى أطراف أصابعه. وجلست تحت قدميه فتاة صغيرة، ترتدي (شالا) طويلا ارزق اللون، وقلنسوة صغيرة زرقاء - لباس الأيتام. وكانت هي التي تقرأ سيرة القدسية إيرنيه من كتاب يكاد يقارب حجمها. وكانت القراءة العجيبة تفعل فعل المخدر في الحجرة الساكتة. فقد كان كل من الكهل في مقعده، والذباب في السقف، والكناري في القفص، في سبات عميق. ولم يعكر صفو الحجرة سوى دقات ساعة الجد، وقد تدفقت أشعة الشمس خلال النافذة بذراتها الكثيرة المتراقصة. وكانت الطفلة لا تزال تقرأ وسط ذلك النعاس الشامل (وسرعان - ما - اندفع - أسدان - صوبها - وافترساها. . .) ودلفت إلى الحجرة عند هذه المرحلة الخطيرة!

كان من الجلي أن الأسدين الضاربين لم يحدثا أدنى اضطراب لأهل الدار. ولكن، عندما لمحتني الفتاة ذات الرداء الزرق، أسقطت الكتاب وقد ندت عنها صرخة رعب. واستيقظ الكناري والذباب، ودقت الساعة، وقفز الكهل في فزع وذهول. ووقفت بالمدخل حائراً، ولكني تدرعت بالشجاعة وصحت قائلاً (عم صباحاً يا صديقي! أنا صديق موريس).

وفعل موريس فعل الطلسم. هرول الكهل صوبي مفتوح الذراعين، وعصر يدي، ثم جعل يجول في الحجرة ويصيح في ذهول (يا ألهي! يا ألهيَ!).

وأشرقت كل تجعداته، وتحول وجهه قرمزيا من الحماس. ثم تمتم قائلا (أواه يا سيدي! أواه يا سيدي!).

ثم هرول صوب الباب يصيح قائلا - هلم يا (ماماه)، أسرعي يا (ماماه). وفتح باب في الردهة، وسمعت صوت حركة، ثم دلفت (ماماه).

ما أرقه مشهداً عاطفاً مثيراً! كانت السيدة العجوز ترتدي وشاحاً ورداء كرملياً باهتاً، وتحمل في يدها منديلاً مطرزاً. وما اشد الشبه بينهما وياله من شبه عجيب! أن أقل تبديل في الملبس، من قلنسوة أو ما شابه ذلك، وإذا بك تحسب الجد جدة. فلم تكن تختلف عنه إلا في كثرة تجاعيدها. وكانت لهما فتاتان صغيرتان من الأيتام ترعيانهما - الكهولة ترعاها الطفولة! وانحنت الجدة انحناءة منخفضة، كما كان يحدث في عهد الفروسية ولكن لم يطلق الكهل صبراً لذلك، فقطع الاحتفال القصير قائلاً - (ماماه) هذا صديق موريس.

وارتجفت السيدة وكأنها ورقة من شجر الحور، وسال الدمع على وجنتيها، وسقط منديلها، واحمر وجهها أكثر احمراراً من وجه الجد. ومع أن الكهلين لا يحملان في عروقهما سوى قطرة واحدة من الدم، فقد كان أقل انفعال يؤثر عليهما يكسي وجهيهما بقناع قرمزي. وقالت السيدة للفتاة الزرقاء - أسرعي! مقعداً للزائر. وقال الكهل لفتاته - افتحي النوافذ.

ثم أخذ كلاهما بذراعي وسارا في خطى قصيرة إلى النافذة حتى يتفحصا الزائر، واستحضرت المقاعد وإذا بي جالس بينهما، وقد وقفت الطفلتان خلفهما. وأخذت الأسئلة تترى علي: كيف حاله؟ كيف يقضي وقته؟ لماذا لم يأت لمشاهدتنا؟ هل هو سعيد؟ وهكذا انهالت أسئلتهما قرابة الساعة.

وتحملت ذلك في جلد، وأخبرتهما بكل ما أعرفه، بل اختلقت، بل حتى جاملت. وقلت - ما أرق لون غلاف الحائط يا سيدتي! إنه لا زوردي جميل، مزدان بأفنان الورود.

فقالت - حقاً؟ ثم أضافت وهي تلتفت إلى (باباه) - أليس هو شاباً وسيماً؟ فقال - أجل، أجل. شاب وسيم!

وشاهدت أثناء محنتي، إيماءات من الرأسين المشتعلين شيبا، واشراقات على الوجهين المجعدين، وضحكات صبيانية جزلة ونظرات متبادلة. ثم التفت إلى الكهل قائلا - ارفع صوتك. أنها لا تكاد تسمع. وأخذت (ماما) بثأرها فقالت - أرفع صوتك. إن سمعه ثقيل.

وأطعت، فابتسما ابتسامة شكر، وظلا يبتسمان وهما يسبران غور عيني، ويبحثان فيهما عن شبيه لولدهما. ونظرت في أعينهما، فشاهدت في حلكتها كأنما بدا خلال الضباب المخيم عليها وجه صديق يبتسم. وفجأة صاح الرجل في عجب وهو يهب من مقعده - (ماماه) أتحلمين؟! لعله لم يتناول غداءه بعد.

وخشيت أن تكون أفكارها قد انتقلت بها إلى موريس، فسارعت أؤكد لها أن الصبي العزيز لا يتناول غداءه متأخراً.

وقال الرجل - إني أعني صديق موريس.

فقالت - أوه، عفواً يا سيدي، عفواً كثيراً.

كان جوعي قد زادت حدته، ولذلك لم أراوغ.

وقالت للطفلتين - أسرعا أيتها الصغيرتان الزرقاوان، وضعا غطاء يوم الأحد وسط المائدة واستحضرا أفخر الأواني المنمقة بالزهور. أسرعا، لا تضحكا كالإوز الأبله، هيا.

وفي لمح البصر كان الطعام معداً. وقالت الجدة وهي تقودني إلى المائدة - هذه وجبة بسيطة وأرجو المعذرة لعدم اشتراكنا معك. فقد تناولنا طعام الغداء قبل الظهر.

لقد كان الكهلان كلما حل عليهما ضيف يقولان دائماً أنهما تناولا طعام الغداء قبل الظهر!.

كان الغداء يكونا من قطعتين من بياض البيض، وبعض التمر، وقطعة من الحلوى تدعى (الباركت) تكفي لأن تطعم الجدة وكناريها مدة أسبوع. واتجهت إلي الأنظار أثناء تناولي الطعام. كانت الصغيرتان الزرقاوان تتخافتان، والكناري يغرد قائلاً - أوه، انظروا إلى النهم الشره الكبير، أنه يلتهم كل (الباركت).

كان ذلك النهم الشره الكبير - في الواقع قد ألتهم كل ما على المائدة من طعام دون أن يشعر بذلك. فقد كنت غارقاً في تأمل الحجرة الهادئة المشرقة، وما يفوح منها من أريج الذكريات.

ووقعت عيناي على فراشين صغيرين، يكادان يشبهان المهد. وتخيلتهما عند الفجر، وما زالت ستائرهما المزركشة الحواشي منسدلة، والساعة تدق ثلاثاً، وقت استيقاظ الكهلين. وسمعتهما يتبادلان الحديث:

- أنائمة أنت يا (ماماه)؟

- كلا يا عزيزي.

- أليس موريس شاباً وسيما؟

- أجل، أنه شاب وسيم، وسيم.

نعم كان مدار حديثهما كله عن موريس. لاشيء غير موريس. من الصباح المبكر إلى المساء الندي!

وبينما كنت غارقاً في تأملاتي، إذ بمأساة تجري فصولها في طرف الحجرة. كان الكهل واقفاً على مقعد، يجاهد جهاد الأبطال ليصل إلى قارورة من الشراب المحفوظ، قائمة على قمة الضوان، لم تمسها يد منذ عشر سنوات، بل ظلت تنتظر عودة موريس. وأخذت زوجه تثنيه عن القيام بهذه المحاولة، ولكن الجد كان قد وطد العزم على الحصول عليها وفتحها تكريماً لضيفه. وكان يجاهد بكل عصب من أعصابه، وعضلة من عضلاته، والصغيران ممسكان بالمقعد، والسيدة الكهلة تنتظر في خوف ورعدة وقد ترددت أنفاسها، وذراعاها ممتدتان لتنقذ البطل عند الضرورة، وأخيراً، وبعد مجهود فائق، نال الكهل مكافأته، ودفع بالقارورة إلى الجدة وقد أشرق وجهها. وهبت رائحة البرغموت الشذية من الملبوسات داخل الضوان.

واستحضروا قدح موريس الفضي وامتلأ بالشراب حتى حافته. نعم، كان موريس يعشق هذا الشراب. وهمس الجد وهو يناولني القدح وقد سال لعابه في تلذذ ابيقوري - أنت مجدود، فإنك لا تحصل على مثل هذا الشراب في الطاحونة إن جدته تحفظه له. ومها كانت الجدة خبيرة في حفظ الشراب، فإنها فشلت هذه المرة، فقد نسيت أن تحليه بالسكر. على أية حال، يجب أن نتغاضى عن شرود ذهن الكهول. ووقفت لهذه المناسبة، وصررت على أسناني، ثم جرعت الشراب دون أن تطرف عيني. وهمست في انفراد بيني وبين نفسي - سيدتي أن شرابك فظيع!

وعندما قمت أستأذن في الانصراف، ألح علي الكهلان أن أستمر في سرد حقيقة قصة ذلك المثال الكامل، ولكن الوقت كان قد أزف للرحيل بعد أن خبا الضوء، لا سيما وأن الطاحونة (على بعد عشرة أميال ليس إلا!).

وهب الكهل واقفاً وهو يقول - معطفي يا (ماماه) من فضلك. يجب أن أرافقه إلى ما بعد الميدان.

وأشارت (ماماه) إلى برودة نسيم الليل، ولكنها لم تثبط نزوة الكهل. وبينما كانت تساعده على ارتداء معطفه الأسباني المزين بالأزرار الصدفية، وقد انتشرت عليه بقع السعوط، إذ قالت له - والآن يا عزيزي، عدني وعداً مخلصاً، إلا تتأخر طويلا

فأجاب الكهل، منتصراً، في لهجة تدل على أنه لن يأتي الدار قبل الصباح - نعم! كلا! ربما أتأخر، وربما لا أتأخر - لا أعرف! ولا أبالي! - لا تنتظري يا عزيزتي، فمعي المفتاح.

ونظر كل منهما في عيني الآخر، ثم انفجرا ضاحكين حتى سالت دموعهما. وضحكت معهما الصغيرتان الزرقاوان. وشاركهم الكناري يغرد مع مرحهم. وإني أعتقد بيني وبينكم - أن الشراب قد أخذ برأسيهما وجعلها في نشوة.

كان الظلام يخيم رويداً رويداً، عندما غادرت الدار يرافقني الجد. وكان الرجل يسير في زهو واعتداد في ذلك المساء خلال القرية، وقد أشتبك ذراعه بذراع صديق موريس. فكيف يشعر بحارسته الصغيرة الزرقاء وهي تتبعه عن بعد حتى تعود به إلى داره؟ وكانت الجدة واقفة على مدخل الدار تراقبنا، وقد أسرق وجهها، وهي تقول - أترى؟ أن رجلي لا يزال قادراً على المشي!

محمد فتحي عبد الوهاب , أنو