مجلة الرسالة/العدد 821/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 821/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 03 - 1949



كتابان وكاتبان

بقلم الأستاذ حبيب الزحلاوي

في الربع الأول من القرن الحالي، كان يقول الأدباء في مجالسهم في أديب كان معروف المكانة الأدبية آنذاك: إنه يؤلف عندما يترجم، ويترجم حينما يؤلف.

تلك المقالة التي كانت تقال همساً في مجالس الأدباء كانت تنطبق على أكثر كتاب وأدباء ذلك الجيل ممن كانوا يردون الأدب من موارد الغرب، ولم يكن يستثنى منهم إلا نفر حرصوا على كرامتهم الأدبية وعلى كرامة الأدب نفسه من الابتذال، فبقيت آثارهم تدل على أمانتهم في الترجمة وفضلهم في النقل.

ما كاد يهل الربيع الثاني من القرن العشرين؛ عصر الآداب والفنون والعلوم، حتى ظهرت بيننا ظاهرة جديدة في الترجمة والنقل استحدثها كاتب شيطان لبق مرن، واسع الاطلاع على الأدبيين العربي واللاتيني، فتوفر دائماً للحركة والعمل، ودأب على الإنتاج وعلى إثارة الضجيج حوله، وما لبثت تلك الظاهرة بدعة الشيطان الدريش، أن انتشرت بين الكتاب لسهولتها وعم اقتباسها واستعمالها عند الكثيرين من الكسالى الذين تستهويهم الشهرة ويجذبهم حب الكسب. وهكذا صار تلخيص الكتب والروايات الغربية ونشر هياكلها بعد مسخ روحها ونسخها هو القاعدة في الترجمة والنقل، ولكن أبى الأمناء من المترجمين، وهم قلة، والحرصاء على النقل الصحيح في آداب الغرب إلا السير في طريقهم القديمة، النهل من الينابيع النقية الصافية، غير آبهين بالترهات والخزعبلات الشيطانية، وقد أنكروا ذواتهم واستهانوا بمنفعّتهم حباً للأدب، ووفاء لأمتهم الناهضة. وهكذا أعدوا للجيل الجديد عوائد فوقها ما فوقها من الشهي المستحب من أدب الغرب النافع.

الترجمة في الأصل فناء شخصية معجبة في شخصية مبدعة. وهي ككل الفنون لا محيد لمتعشفها من موهبة طبيعية. فكما أن المستحيل على غير الموهوب أن يكون موسيقياً أو شاعراً أو رساماً، كذلك يكون من العسير أن يكتسب الكاتب فن الترجمة اكتساباً (وفن الترجمة لا يكفي فيه الجهد المبذول، ولا تحمل العناء؛ ولا بد فيه من التوفيق). ولما كانت خصائص إعجاب المترجم الأمين تتقارب من خصائص المبدع الفني وتضارعها؛ لأن كليهما يستلهم الوحي من فيض الروح، ولما كانت نهضتنا الأدبية في وقتنا الحاضر قد سبقت النهضات الأخرى غير الأدبية بمراحل، وقد سلكت في سيرها الحي سبيل الجد في الإنشاء والتأليف والترجمة، ولما كانت الأمانة رائد المترجمين الموهوبين وهدفهم، صار لرام بحكم تطورنا أن يتجلى صبح الترجمة وأن يشرق نورها، وقد انجلى ذلك الصبح البهيج في أمور ثلاثة تستوقف النظر وتسترعي الانتباه.

الأول: القدرة على تقمص روح المترجم عنه والاندماج فيه

الثاني: الحرص على جو الزمان والمكان وحسن الاختيار.

الثالث: استيعاب فلسفة أن أتاجأأنالموضوع وإبراز شخصية المترجم.

وقد وضحت هذه الصفات الثلاث وتبدت في كتابين ظهراً حديثاً: الأول (فيرنا) للأستاذ على أدهم الكاتب الغني عن التعريف، والثاني (أقاصيص مأثورة) للأستاذ كامل البهنساوي بك القاضي بالحكمة المختلطة.

في كتاب الأستاذ أدهم خمس عشرة قصة تمثل الأدب الألماني والفرنسي والروسي والإيطالي والبولندي، منها المستمدة من صميم الحياة، ومنها القائمة على الأسطورة. وكذلك في الكتاب الثاني خمس عشرة قصة تمثل الأدب الذي اختاره الأول، منها ثلاث تمثيليات هي (فاوست) و (كارمن) و (البوهيمية) وقصة ملخصة تمثل الأدب البولندي قرأتها كلها بلذة المطالع، ورغبة الناقد، وحب الإفادة والتتبع، وقصد التعريف.

تمنيت لو عمد الأستاذ البهنساوي بك إلى النقل وأهمل التلخيص، ولكني , ان كنت أرضى بعض الرضى عن تلخيص التمثيليات الغنائية ولكني لا أرضى أبداً عن تلخيص قصة (حارس المنارة) ولا أقبل أي عذر يسوغ حذف صورة واحدة أو اقتضاب جملة واحدة من تلك القصة العظيمة لأنها بجملتها قائمة على التصوير الفني.

يجلس البهنساوي وأدهم على مائدة أدبية واحدة حافلة بأغذية دسمة متنوعة، إلا أن الأول جائع يتلقف لقمته بنهم ويبتلعها على عجلة. والثاني جائع أيضاً ولكنه يتناول طعامه بقدر وتمهل وأناقة بمضع ويزدرد ولا يعف عن المرق والتوابل (يرمرم وينقنق) وطبق على الحلوى والفاكهة، ويعب ويغب. . . ويجتر. وأنت ترى هذه المائدة ممدودة في كتابيهما عليها الكثير من ألوان وأنواع الأدب الشهية ما عدا الأدب السكسوني!! البهنساوي بك قاض في التحقيق التجاري، والأستاذ أدهم (دعباس) بحكم وظيفته بوزارة المعارف، لا يترك صغيرة أو كبيرة لا يحققها، وكفى به أنه - في أكثر ما يكتب - نباش قلوب العظماء ومستحضر أرواح الخالدين في كتب التاريخ يسألهم عن اللمحة الخاطفة التي غفلت عدسات المؤرخين عن تسجيلها ليردها إلى حقيقتها ويضعها موضعها الصحيح، فكاتبان هذا شأنهما في حياتهما اليومية - أدبية عملية - قد لا ينحرفان في الترجمة عما اكتسباء من ضبط ودقة يوّجبهما حكم العمل، فضلاً عن حكم الفطرة الأصيلة الدقيقة.

إن الذقة في الترجمة والأمانة في النقل، وهما الخلتان اللتان تجمعان بين البهنساوي وأهدم في كتابيهما التوأمين، يفرق بينهما الأسلوب، فأسلوب القاضي إنما هو (تقريري) محض، في حين أن أدب القصة بعيد عن التقرير الفقهي والقانوني، وقد لمس الأستاذ خليل مطران هذا الموضوع لمساً رقيقاً في مقدمة الكتاب حيث قال (توخي ناقل أقاصيص مأثورة إلى لغة الضاد أن يجلوها للمطالعين مصورة بمثل التصوير الشمسي) وقال أيضاً: (ينبغي أن يكون الكلام متحركاً بحركات الحياة في كل حالة من متعدد حالاتها) بيد أن أسلوب أدهم أدبي مجنح، وقد حرص على المعنى وحافظ على جمال المبنى. أما الأستاذ البهنساوي فقد حرص أيضاً على روح الموضوع واحتفظ بجو المكان، وقد لزم كل منهما طبعه الأصيل.

عنى الأستاذ البهنساوي بتقديم قاصي قصصه وتمثيلياته وتعريفهم بترجمة حال وسير موجزة أراد بها أن يستوفي الواقف عليها ما يعينه على إدراك الكنه في تلك الأقاصيص، وتفهُّم الخصائص التي تمتاز بها كل منها في نوعها وفي بيئتها، إلا أنه أوجز كثيراً واكتفى بذكر سنة الولادة والوفاة. وإليك المثال في التعريف (وولوع (بول هيس) مؤلف قصة (الغاضبة) بالرحلات إلى إيطاليا هي التي أوحت إليه فنه). في حين أن الأستاذ أدهم عني ذات العناية، ورمى ذات هدف، ولكنه لم يوجز بل وقف في تعريف القاص الذي ترجم عنه، وفي التمهيد له بفلسفة القصة موقفاً لم يسبقه لمثله سواه من المترجمين.

قال يترجم لكاتب ألماني: (وكتابة جاكوب فاسومان لم تتسم كما يبدو بالإشراق والصفاء والاتزان، وإنما تمتاز بالجدية والصرامة والقوة، فلا يطالعك من صفحاته الروض الناضر، أو الصباح البسام، وإنما تشرف منها على الليل المدلهم والعاصفة العازفة، وهو لا يكشف لك عن حرية الإنسان وقوته، ومجده وعظمته، وإنما يريك مصارعة الإنسان لأحزانه العميقة، وهمومه الشديدة، ومطاردته لأهوائه العنيفة وشهواته الغلابة. وربما كانت قوة شعوره أعظم من قوة فنه) وقال: في التمهيد لفلسفة قصة (اضطهاد) للكاتب الفرنسي بوتيه: (الحياء علة من علل الإرادة، وآفة من آفاتها الشخصية. وقد عرفه أحد من توفروا على بحث طبيعته، بأنه حاجة ماسة إلى العطف وجدت ما يصدها ويدفعها، أو يغرر بها ويحدها، والحيي إنسان عاطفي يود أن يفتح قلبه وينفض ما في نفسه ولكنه يحجم عن ذلك. . .).

ما كل قصة جديرة بالترجمة حتى وإن كان مؤلفها من كبار القصصيين، وما كبار القصصيين أصحاب الشهرة العالية سوى أناس مثلنا يصيبون ويخطئون، يجيدون ويقصرون في الإجادة. ويكفي للدلالة على ذلك أنه ما من كاتب من الخالدين سلمت تواليفه كلها من النقد خصوصاً بواكيرها أو خواتيمها، وأن شهرتهم ما قامت إلا على القصة التي تحمل من عناصر الحياة الإنسانية ومن خصائص الابتكار والإبداع القني أوقرها، ومن إكسير الخلود ما يجعلها موفورة النضارة والجمال والحيوية لكل جيل وزمان وأمة.

ولا عبرة بما ينشره الناشرون التجار من قصص كتبها العظماء قبل تمام نضوجهم، بل العبرة في الاختيار: لأنه عنصر فني أساسي. وقد أحسن الأستاذان: البهنساوي وأدهم اختيار القصص كلها لأنها تمثل ألواناً من أدب وقسمات من حيوات نحن في أشد الحاجة إليها؛ ولأنها تعين كتاب القصة منا وتسد حاجة الذين لم ييسر لهم أن يعرفوا لغة أجنبية؛ ولأنها ركن من أقوى أركان الثقافة التي تربع مستوى المنتجات الفكرية وخصوصاً في نواحي السياق والاستنباط والتصرف في الفن القصصي.

إني وإن كنت استحسنت ما اختار الأستاذ أدهم من القصص التي ستكون نماذج للذين لم يخرجوا بعد في قصصهم عن نطاق الغرائز ودائرة الشهوات الجنسية. لا أميل إلى الأسطورة، ولا أستسيغها سواء أكان ملفقها تولستوي أو زفائج - وهذا لا يعني أني لا أقدرها قدرها ولا أقيم وزناً لمراميها الإنسانية التي هي فوق مستوى البشر كما في قصة (فيراتا) وإن كانت تدفع بالفكر إلى ما وراء المعقول وبالذهن في أجواء واسعة للتصور والتخيل، بل لأن إدراكنا ما برح يقف عند بدائه الأشياء وأوائل الأمور، ولأنه ما برح يزحف في نطاق ضيق من المادية الملموسة المنظورة، ولمَّا نففه بعد نطاقنا الضيق وحدوده فما بالك بما هو أبعد من البدائه وأعمق من الأوائل؟

قال الأستاذ البهنساوي في مقدمته (من بين فنون الأدب وطرف البلاغة تفردت القصة بالذيوع، وخصها جمهرة المطالعين بالأولوية، وحبسوا عليها أوقات فراغهم؛ والسر في ذلك هو اتصال الرواية بالحياة، ففيها تأخذ الحوادث بأعناق بعضها زاخرة بالشخصيات، وقد أفرغ عليها الكاتب من فنه المبدع ما يجعلها ماثلة أمامك يجري فيها الدم تهتف بالبقاء للبقاء فتكون متعة للناس، ومطلبهم جيلاً بعد جيل).

وقال الأستاذ أدهم: (والقصة في العصر الحاضر كثيرة الألوان متنوعة الشكول، تكاد تتحدى كل تعريف وتتجاوز كل تحديد، وتختلف صورها لاختلاف العقول وتباين الأمزجة فلا يستطيع الإنسان أن يحدد معالمها، ويحصي سماتها وملامحها) وكما كانت القصة أصدق في تصوير الواقع وترديد صدى الحياة كانت أدخل في الأدب والفن وأدنى إلى البقاء والخلود).

وأعيد هنا ما سبق لي قوله في مقدمة كتابي (شعاب قلب) لا شك في أن القصة قصيرة كانت أم طويلة، هي خير وسيلة للتعبير عن الخلجات الإنسانية، وأرحب مجالاً للذهن الخصب، وأبرع حيلة يحتال بها صاحب الرسالة على عقول ومشاعر لا تؤخذ ولا تستصلح إلا بالحيلة والتشويق).

وددت لو أقف طويلاً حيال قصة من تلك القصص والأقاصيص الممتعة التي دمجها المترجمان الفاضلان في أدبنا العربي، ويسرني أن أقول إنه سيكون لكتابيهما الأثر الفعال في الإعداد لإنشاء القصص، وأنهما سيخلدان ذكراهما كمترجمين أمينين، وأنهما يعينان على النهضة الأدبية وتوسعة آفاقها وتهيئة الأسباب القوية لتبلغ المقام الحق بها بين أوفى اللغات في هذا العصر.

حبيب الزحلاوي