انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 820/إلى الخير. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 820/إلى الخير. . .

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 03 - 1949



للأستاذ ثروت أباظة

. . . نعم يا سيدي، لقد رأيتني أهيم في الحوالك من الظلمات، شارداً أضرب في الحياة وتضرب بي ولا تصير. . . أقطع الطريق أو أقف دونه لا يشجعني على السير صديق أو يحثني دون الوقوف رفيق وأنا مع الحياة لا أبالي أيان يلقي بي موجها، فكل أفق لي قِبلة، فليس لي في أي أفق من الآفاق أمل مرتقب، وحولي الناس كلهم لاهٍ عن غير إلى نفسه، فلهوت عنهم؛ ولم يكن لي نفس لأثوب إليها أو أطمح بها، فكنت أشرئب إلى السماء مرات خمساً بين الصباحين فاسأله في عليائه أن يفسح بيني وبين أحد عباده على الأرض طريقاً. . . فإذا طال بي السؤال دون الإجابة ابتهلت إليه أن يضمني إلى سمائه أرى الرحمة الكبرى من ورائها تلف التقي في سيبها والمعاصيا.

ولم يكن بي عصيان لأوامره، غير أنني أحسست على الناس النقمة، وكرهت أن أرى السميد منهم، فأنصرفت إلى دار الكتب حيث يباح التثقيف بغير أجر، فظلت أقرأ وأقرأ، وكنت كلما ازددت قراءة قلت في نفسي: لو لم تكن هذه الكتب من عمل الإنسان لكانت أعظم مما هي عليه. . . وكنت أعجب كيف يستطيع الإنسان الكنود أن يخرج مثل هذا الصفاء. . . كتاب لا يَملك، فإذا مللته أنت لم يغضب، بل يقيم أيان تضعه منتظراً منك العودة؛ فإذا عدت لاقاك مفتوح الصدر، صريح العبارة، لا يخفى عنك شيئاً؛ وإذا قصر يوماً عن ابلاغك مرادك اعتذر إليك وقدم زميلاً له يشرح ما غمض فيه. . . هكذا يا سيدي عرفت صديقاً على الأرض، وهكذا كنت أفكر في شأنه، فما خانني ولا خنته، بل زادني تجربة وعلماً. . . وهكذا يا سيدي خلت أن الله قد أجاب به الدعاء وحقق لي الأمل فرحت أكتب إلى الجرائد أستعين بما ترسله من مال زهيد على مأكل يأبى الوصول إلىّ، أو مسكن ينفر - على رئاسته - أن يضمني بين حشراته، أما الناس يا سيدي فقد يئست من وجودهم منذ أزمان بعيدة.

ولم يكن اليأس مريحاً - كما يقولون - فقد ضنيت به برغم صداقة صاحبي، الكتاب. . . كذلك ياسيدي كنت حين شاء لك ذوقك الأدبي الرفيع أن تختارني لأعمل لديك على سبيل الدوام فقصدت إليك يائساً من الصداقة والشهرة، أملاً في الكسب، ولاقيتني يا سيد فأحببت في خلقاً وسلوكاً، وأحببت فيك كل ما فيك، ولم أجرؤ أن أبين عن هذا الحب خشية أن يتمادى بي ثم تنقطع بيننا الأسباب. . . خشيت على نفسي يا سيدي، ولكن خلقا فيك كريماً أبى أن يشجمني فأجبتك وأحببت الناس فيك ولك. . ووجدت نفسي قد خلقت خلقاً آخر فلا حقد ولا بأس ولا قنوط؛ وما زلت بي يا سيدي تمد لي من عطفك فأمد لك من حبي حتى وجدتني أقول لك من غير داع (إنه لو جاء يوم أغبر قطعني هنك فإنني والله لن تقوم لي قائمة بعده). . . ولست أنساك يومئذ يا سيدي وأنت تضحك لي في حب كبير. . . (إنها أوهام. . . طالما يتخيل الإنسان أموراً ثم يجسمها فلا تلبث أن يذيبها مرور الأيام) وقلت لك يا سيدي: (إنه لن يكون هناك أيام لتذيبها فسوف أذوب أنا قبل أن تمر هاته الأيام) هكذا يا سيدي بلغ بي الحب فعشت أرصد حياتي لك ولخدمتك حتى نلت لديك ما نلت. وكنت أنت حياتي بعد أن تقلصت بي أسباب الحياة.

وهاأنت ذا يا سيدي اليوم تقصيني عن موارد حبك فأخرج إلى الكتاب مرة أخرى وألاقيه فيلاقيني مفتوح الذراعين حانياً، وكنت أقسمت يا سيدي وأنا أعمل بجريدتك ألآ أكتب في غيرها أبداً؛ ومازلت يا سيدي باراً بهذا القسم؛ بيد أنني تذكرت اليوم فقط أمراً لم يخطر لي ببال، تذكرت يا سيدي أنك مرهف الحس، دقيق الشعور، وخشيت يا سيدي إذا أنا حطمت حياتي أن تشعر بما جنيته علي، ولا أريدك يا سيدي أن ترجع إلي وأنا حطام لتعينني على حياة أكرهها ما دمت أنا بعيداً عنها. فقلت في نفسي: لأعمل حتى لا يشعر بما جناه، وحتى يطمئن إلي أنني مازلت أقاوم الحياة. وإنني يا سيدي حتى اليوم كلما سألني سائل عن سبب القطيعة خلقت في نفسي عيوباً لا أظنها تجرؤ أن تنتسب إلي وأنا من أحببته أنت حيناً من الدهر، ولكني كنت أجور على نفسي حتى لا يجور القوم عليك. . . فأنا مازلت أحبك شأني دائما، أما ما قام بنفسك من شك في وفي حبي لك فأنت وحدك الذي ستمحوه حين تستبين حقيقة نفسي ما دمت لم تستبينها حتى اليوم، وما دمت يا سيدي تعتقد - رغم كل ما أبنت لك - أنني كنت أداهنك وأداجيك. ولعمري أي فائدة تعود علي من المداهنة والمداجاة وأنا لم أطلب منك يوماً مطلباً لنفسي؟. . أي فائدة وقد أغريت لتركك بالمال فكنت أسب كل من يجرؤ على هذا أي فائدة!. . اللهم إلا إذا كنت تظنني أمثل لمجرد التمثيل؛ وحينئذ يا سيدي أسمح لي أن أرى في هذا التفكير انحطاطاً عما عرفته فيك من ذكاء لماح. . . ولكن دعني يا سيدي أقل الحقيقة. . . إنك عجبت أن يكون في العالم إخلاص كإخلاصي، واستبعدت أن يحب شخص شخصاً مثلما أحببتك، وخشيت أن أكون كاذبا فقلت في ضميرك: لأرح نفسي من عناء البحث والاستقصاء والتحليل، ولأقطع بين وبينه الصلات قبل أن يفجعني بالخيانة. ولو أنك نظرت إلى ماضي وأنت تعرفه لعلمت أن مكانك من نفسي ليس بالغريب. . . لقد كنت يا سيدي بمثابة الواحة التي يجد بها التائه ماء وظلا وعيشاً، فهو قائم بها لا يريم. . . كنت يا سيدي كذلك في حياتي وما تزال يا سيدي كذلك ولن تزال.

لعلك تعجب لم أكتب إليك كل هذا الكلام. . . كتبت لأبين لك عما ينتفض به حسي، ولأطمئنك على قلبي من الأيام فلا يملكن عليك العطف شعورك، ولتهدأ بالا ولتثق يا سيدي أنني لن أصادق بعدك أحداً حتى لا أفجع فيه مرة أخرى، ولكنني سأعيش، وسأعيش بما أتحته لي من شهرة، فأنالك أيان تلقي بي الأيام رحلها، ولكنني أستحلفك يا سيدي إلا تعامل غيري بمثل ما عاملتني. . . على أنه لن يتاح لك أن تفعل، فأن أحداً لن يحبك أو يخلص لك كما أحببتك وأخلصت لك. . . لأن أحداً لم يلق في حياته إجداباً كما لاقيت. والسلام عليك ورحمة الله.

قرأ صاحبي الخطاب وأنا أتابعه مأخوذاً بأسلوبه المترسل عاجباً من إخلاصه المكين؛ وما أنتهى الصديق من القراءة حتى صحوت إليه أقول:

- فمن الكاتب؟

- لقد عرفت شخصيته وما أظنك بحاجة إلى معرفة اسمه.

- ولم أقصيته عن موارد حبك بعد أن أتحتها له؟!

- لقد أجاب هو عن هذا السؤال خير إجابة.

- أو ما يزال مقصيا!!

- أو تظنني إلى هذا الحد من الجمود! لقد ذهبت إليه أستغفره فنفر. . . إن كل ما أرجو أن يبلغ إخلاصي له مبلغ إخلاصه لي. . . أرج الله معي.

- والله إن لم تخلص له فأنت أكبر جحود رأيته، وأعيذك أن تكون ولن تكون. . . فبالله عليك لا تسر به إلا إلى الخير.

- إلى الخير دائماً إن شاء الله. . . إلى الخير.

ثروت أباظه