مجلة الرسالة/العدد 819/هل الشقاق طبع في العرب؟
مجلة الرسالة/العدد 819/هل الشقاق طبع في العرب؟
جواب عن سؤال
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
وجهت هذا السؤال مفصلا إلى صديقي الأستاذ الكبير ساطع الحصري بك المستشار الفني لجامعة الدول العربية. ولكن المقال لم يعجب الرقيب فلم يأذن بنشره. ولما اطلع عليه الأستاذ أبو خلدون أجاب عنه بهذا البحث الذي تقرأه. وإني لأرجو بعد أن ينشر أن أعلق عليه بما يتفق مع رغبة الرقيب وواجب الحق وسياسة الرسالة.
(الزيات)
صديقي الأستاذ. . .
لقد اطلعت على السؤال الذي وجهتموه إلي، في مقالكم المعنون (هل الشقاق طبع في العرب؟).
فقد أشرتم في المقال المذكور إلي حوادث الشقاق والتنافس والتخاصم التي توالت في تاريخ العرب؛ واستعرضتم الأحزاب السياسية والفرق الدينية التي ظهرت بينهم؛ ثم ذكرتم رأي ابن خلدون في هذا المضمار. وفي الآخر تساءلتم: (هل كتب الله على العرب أن يعيشوا أبداً بطبيعة البادية ونفسية الغابة وعقلية القبيلة؟)
فوجب على أن ألبي طلبكم، فاكتب إليكم ما اعتقده في هذه القضية الهامة. غير أني رأيت من الضروري أن أقف أولاً أمام (المقدمات) التي صدرتم بها هذا السؤال، قبل أن أحاول الإجابة عنه إجابة مباشرة.
فاسمحوا لي أن أسألكم بدوري: هل تظنون أن الاختلافات التي ذكرتموها كانت من خصائص الأمة العربية وحدها؟
أنا لا أشك في أن جوابكم عن هذا السؤال سيكون بالنفي؛ لأنكم تعرفون جيداً - كما يعرف ذلك كل من يستعرض التاريخ العام - أن تواريخ الأمم الأخرى لم تخل من أمثال تلك الاختلافات.
فيترتب على ذلك إذن أن أنقل البحث إلى كمية هذه الاختلافات وشدتها، فأسألكم: تعتقدون أن الاختلافات السياسية والدينية التي حدثت في تاريخ العرب كانت أكثر وأشد وأعنف من التي تجلت في تواريخ الأمم الأخرى؟
أنا أعرف أن الآراء الشائعة الآن لا تدع مجالاً للتفكير ملياً في هذا السؤال؛ لأنها تحمل الأذهان على الرد عليه فوراً بالإيجاب.
وأعترف بأني أنا أيضاً كنت - مدة من الزمن - من المتأثرين بهذه الآراء الشائعة، ومن المسلمين بأن تاريخ العرب يشذ في هذه القضايا عن تواريخ الأمم الأخرى شذوذاً كبيراً. أني بدأت أشك في صحة الآراء الشائعة عندما أخذت أتعمق في دراسة التاريخ العام؛ وازددت شكاً فيها كلما تغلغلت في هذه الدراسة؛ إلى أن أصبحت أعتقد اعتقاداً جازماً بأنها لا تتفق مع الحقائق التاريخية الثابتة أبداً؛ لأنها لا تقوم على مقارنات شاملة، بل تستند إلى استقراء ناقص جداً.
إننا ننفعل، ونتألم، ونغضب. . عندما نقرأ أخبار الاختلافات التي حدثت في تاريخ العرب. . ولا سيما عندما نتتبع نتائج هذه الاختلافات ونطلع على كيفية تضاؤل سلطة الخلافة، وتشتتها بين سلطات السلاطين وملوك الطوائف العديدين.
إننا ننفعل ونتألم من هذه الأخبار والحوادث التاريخية، لأننا نقيس أحوال القرون الماضية بمقاييس الأزمنة الحاضرة. . . ولا نكلف عناء البحث في التاريخ العام بحثاً شاملاً، لكي نعرف ما كانت تلك لأحوال من الأمور التي تشذ فيها الأمة العربية عن سائر الأمم، أو كانت من الأمور الطبيعية التي تتساوى فيها جميع الأمم في بعض الأطوار من تاريخها.
فيجب علينا، قبل كل شيء، أن نطلق أذهاننا من ربقة هذه الآراء الشائعة، لندرس هذه القضايا من جديد، بنظرات علمية بحتة، مع استقراء الحوادث التاريخية استقراء تاماً.
فلنبدأ أولاً بقضية الاختلافات الدينية. ولنستعرض ما حدث منها في أوربا، طوال القرون الوسطى وخلال النصف الأول من القرون الأخيرة. . . نجد أنها لم تكن قط أقل تنوعاً ولا أخف عنفاً مما حدث في العالم العربي خلال الأزمنة المذكورة، إن لم تكن أكثر تنوعاً وأشد عنفاً منها. .
أحصوا المذاهب المختلفة التي نشأت في الغرب منذ ظهور المسيحية في البلاد الأوربية خلال القرون المذكورة. . . استعرضوا الخلافات الدينية والمذهبية التي حدثت بين الدول وبين الكنائس من جهة، وبين الكنائس المختلفة من جهة أخرى. . . استقصوا أخبار الحروب الأهلية والدولية التي نجمت من هذه الاختلافات الدينية في مختلف أقسام البلاد الأوربية، حتى في فرنسا التي تظهر الآن أكثر تباعداً عن الاهتمام بالأمور الدينية من جميع بلاد العالم. . . قلبوا صحائف التاريخ التي سجلت أعمال محاكم التفتيش من جهة، وحياة مؤسسي المذاهب الدينية من جهة أخرى. . . فإنكم تضطرون إلى التسليم بأن الاختلافات الدينية التي حدثت في البلاد الأوربية كانت - بوجه عام - أوسع نطاقاً، وأكثر تنوعاً، وأشد عنفاً من التي حدثت في العالم العربي.
وأما الاختلافات السياسية، فأمرها يحتاج إلى أشمل، وتفكير أعمق. . .
فيجب علينا أن نلاحظ قبل كل شيء: أن العرب انتشروا - بعد الهجرة النبوية - بسرعة خارقة، في بقاع واسعة جداً من القارات الثلاث المعلومة قديماً. ففتحوا خلال قرن واحد، بلاداً أوسع بكثير مما فتحه الرومان خلال ثمانية قرون.
تصوروا الاتساع الهائل الذي وصلت إليه الدولة العربية في أوائل القرن الثاني للهجرة وأواسط القرن الثامن للميلاد. . تتبعوا حدود تلك الإمبراطورية التي كانت تمتد من سواحل بحر المحيط الأطلسي إلى شواطئ نهر السند وسهول كشغر، ومن سفوح همالايا إلى جبال البرنس والألب، ومن سواحل بحر الهند إلى أواسط بحر قزوين وبحيرة آرال، ومن باب المندب إلى جبال القافقاس. . . وتذكروا في الوقت نفسه بساطة الوسائط الناقلة والمواصلات ووسائل الحروب والسيطرة التي كانت معلومة ومستعملة في تلك العصور. . . ثم قولوا لي: كيف كان يمكن أن تبقى تلك السلطنة المترامية الأطراف مصونة من مغبة الانقسام مدة طويلة من الزمن، بالرغم من اختلاف الشعوب الكثيرة التي دخلت تحت حكمها، وبالرغم من طول المسافات الهائلة التي كانت تفصل ثغورها من عاصمتها، وضآلة الوسائط التي كانت تضمن اتصال هذه العاصمة بتلك الثغور.
قولوا لي: أية سلطنة من السلطنات التي يذكرها التاريخ القديم والوسيط، استطاعت أن تسيطر على مثل هذه البقاع المترامية الأطراف، مدة أطول من التي سيطر عليها العرب، دون أن نتعرض إلى اختلافات وانقسامات؟
لا تنس أن إمبراطورية إسكندر الأكبر - في القرون الأولى - تجزأت بعد موت مؤسسها، مع أنها كانت أصغر بكثير من الإمبراطورية العربية. كما أن إمبراطورية شارلماني - في القرون الوسطى - لم تسلم من الانقسام بعد موت عاهلها، مع أنها كانت قليلة الاتساع جداً بالنسبة إلى اتساع الدولة العربية في أواخر عهد الأسرة الأموية، أو أوائل عهد الأسرة العباسية.
ولا تنس أن انقسام السلطنات والإمبراطوريات الكبيرة وانحلالها إلى إقطاعيات صغيرة كانت من الأمور الطبيعية المألوفة في جميع أنحاء العالم المعلوم في القرون الأولى والوسيطة.
ولذلك أعود وأسألكم مرة أخرى: كم أمة من الأمم التي عرفها التاريخ كانت أقل اختلافاً وأكثر اتحاداً من الأمة العربية من الوجهة السياسية؟
اليونان؟. . . ولكن التاريخ يشهد شهادة صريحة على أن هذه الأمة لم تتحد سياسياً في يوم من الأيام. . . كانت كل مدينة من المدن اليونانية الكثيرة مملكة قائمة بذاتها، دولة مستقلة عن غيرها. وهذه الحالة كانت تبدو لليونانيين طبيعية وضرورية حتى أن كبار مفكريهم كانوا يحبذون هذه الحالة، وكانوا يشاركون الرأي العام في هذا المضمار. وقد قال أفلاطون: إن عدد المواطنين في الدولة - أي الجمهورية - يجب ألا يزيد على خمسة آلاف. وقال أرسطو: إن الدول يجب أن تكون صغيرة، حتى يستطيع جميع أفرادها أن يعرف بعضهم بعضاً معرفة مباشرة.
في الواقع أن هذه المدن المستقلة - أي هذه الدويلات الصغيرة - كانت تتفق وتتحالف من حين إلى حين لدرء الخطر الخارجي الذي يحدق بالجميع. غير أن هذا التحالف كان لا يلبث أن ينفصم وينحل من جراء تنافس المدن الرئيسية على زعامة الحلف.
ومن المعلوم أن أشهر وأهم هذه المحالفات تكونت عند هجوم الماديين على بلاد اليونان. غير أن هذه المحالفة أيضاً لم تعمر طويلا، بل انحلت وزالت قبل أن يمضي على تكوينها عقدان من السنين!
وقد انقضى تاريخ اليونان السياسي بالمنافسات والمنازعات التي قامت بين أثينا وأسبارطة وكورنت. ومن المعلوم أن هذه المنافسات أدت إلى حدوث عدة حروب دامية بين مختلف المدن اليونانية كان أشهرها الحروب التي عرفت باسم حروب اليلويونيز ولا ننس أن هذه الحروب التي اشترك فيها معظم المدن اليونانية هي التي أدت إلى تحطم الأسطول الأسبارطي من جهة، وإلى تدمير أسوار أثينا من جهة أخرى.
وقد حدثت هذه المنافسات والمحاربات بين تلك الدويلات، مع أن مساحة اليلويونيز - مع شبه جزيرة آتيكا - كانت أقل من مساحة بعض المديريات في مصر، والمحافظات في سوريا، والمتصرفيات في العراق. ومع أن المسافة التي تفصل أثينا عن أسبارطة لا تختلف كثيراً عن المسافة التي تمتد بين القاهرة والإسكندرية، وتقل كثيراً عن التي تفصل دمشق من بغداد، وتتضاءل تماماً أمام المسافات الشاسعة التي تفصل بغداد عن قرطبة ولا سيما بلخ عن لشبونة.
إن هذه المئات من الدويلات اليونانية التي تقاسمت هذه الرقعة الصغيرة من الأرض ظلت متفرقة متنافسة متخاصمة، ولم تجتمع تحت إدارة واحدة إلا عندما دخلت تحت حكم دولة أجنبية.
ترون، أيها الأستاذ، أن الأمة اليونانية لم تكن قط في حالة تحسد عليها من هذه الوجهة.
وأما الرومان، فلا شك في أنهم امتازوا بين أمم التاريخ القديم بالاتحاد والانتظام. والإمبراطورية التي أسسوها عاشت مدة أطول من مثيلاتها بوجه عام.
غير أنه يجدر بنا أن نلاحظ أن هذا الامتياز نتج عن توافر عدة عوامل وأوضاع مساعدة لم تتيسر لغيرها أبداً.
أولاً: أن السلطنة الرومانية تكونت بتدرج عظيم، وهذا التدرج ساعد على رسوخ الأوضاع الجديدة واستقرارها مساعدة كبيرة.
ثانياً: أن الإمبراطورية الرومانية شملت جميع سواحل البحر الأبيض المتوسط. ولا حاجة إلى القول بأن روما كانت في نقطة مركزية من هذا البحر، وقد ساعد ذلك كثيراً على اتصال العاصمة بمختلف أقسام السلطنة عن طريق البحر بسرعة وسهولة بالنسبة إلى وسائط النقل والمواصلة المعلومة في تلك العصور القديمة.
ثالثاً: أن السلطنة الرومانية لم تتباعد عن السواحل كثيراً، ولم تتغلغل في الأقطار القارية أبداً. إنها لم تسيطر على جزيرة العرب ولا على ما بين النهرين؛ فمعظم أقسام العراق، وجميع بلاد إيران وخراسان، وما وراء النهر والأفغان. . . ظلت خارجة عن حوزة السلطنة الرومانية، وذلك قلل إلى حد كبير مشاكل الحكم التي تلازم السلطنات المترامية الأطراف.
إن اجتماع هذه الأسباب الأساسية هو الذي ساعد على إطالة عمر الإمبراطورية الرومانية بالنسبة إلى ما كان معتاداً في القرون الأولى والوسطى.
ومع كل هذا يجب ألا ننسى أن هؤلاء الرومان أيضاً لم يسلموا من آفات الاختلاف والتنافس: استعرضوا تاريخ روما بنظرة فاحصة ولاحظوا كم من المنازعات قامت بين مختلف الطبقات الاجتماعية، حتى في مدينة روما نفسها، وحتى في عهد الجمهورية؟ وكم من الحروب الداخلية نشبت بين القواد في عهد الإمبراطورية؟ وكيف أصبحت الجيوش ذات الكلمة النافذة في تنصيب الأباطرة؟ وكيف كانت الغلبة والكلمة العليا في هذا الأمر تارة إلى الجيوش المرابطة في أسبانيا، وطوراً إلى الجيوش المرابطة في سوريا، وتارة إلى الجنود المرابطة في أفريقيا؟ وكيف أصبح الوصول إلى العرش رهن النجاح في مؤامرات لا تعد ولا تحصى؟
وإذا لاحظتم كل ذلك اضطررتم إلى التسليم بأن الإمبراطورية الرومانية لم تعش سالمة من الاختلافات، بل إنما عاشت بالرغم من الاختلافات، وأما إخلاف الرومان القدماء، فلا ننس أنهم عاشوا متفرقين متخالفين مدة لا تقل عن خمسة عشر قرناً.
وإذا تركنا السلطنات القديمة جانباً، وانتقلنا إلى الدول المعاصرة لنا، وتتبعنا أحوالها الماضية - طوال القرون الوسطى وخلال النصف الأول من القرون الأخيرة - وصلنا إلى نتائج مماثلة لما ذكرناه آنفاً.
ولنأخذ فرنسا مثلا؛ فقد كان من المعلوم أنها أسبق الدول الأوربية إلى الوحدة السياسية الكاملة، والتماسك القومي المتين، ولكنا إذا استعرضنا أحوالها خلال القرون التي ذكرناها آنفاً وجدناها بعيدة عن الوحدة كل البعد، ومسرحاً لشتى أنواع الخلافات والحروب.
أنا لا أود أن أطيل الحديث في هذا الموضوع، ولذلك أكتفي بنقل كلمة كتبها مؤرخ فرنسا الشهير (أرنست لافيس) لتلخيص تلك الأحوال، قال المؤرخ:
(لقد مضى عهد من التاريخ كانت فيه فرنسا شبيهة بمقدونيا الحالية منقسمة إلى أجزاء كثيرة، متخالفة، متنابذة، متنافسة، متخاصمة. وقد وجب أن تسيل الدماء مدراراً حتى تلتحم هذه الأقسام المختلفة، فتصل فرنسا إلى وحدتها الحالية. . .).
هذه كانت أحوال فرنسا التي سبقت جميع الدول الأوربية في طريق الاتحاد. وأما إذا أنعمنا النظر في تواريخ الدول الغربية الأخرى، فنجد فيها أيضاً أحوالاً مماثلة لذلك تجلت بمقياس أوسع، وبشدة أعظم، واستمرت مدة أطول.
لابد من أن نتذكر - في هذا الصدد - أن ألمانيا كانت منقسمة إلى أكثر من ثلاثمائة دولة ودويلة حتى أوائل القرن الماضي، وكانت لا تزال منقسمة إلى تسع وثلاثين دولة قبل ثمانين عاماً فقط!
إن اتحاد هذه الدول لم يتم إلا بعد جهود كبيرة وتضحيات عظيمة، وهذه الجهود قد اجتازت مرات عديدة أطوار فشل أليمة
ولهذا كله أستطيع أن أقول بكل تأكيد: إننا كلما توسعنا وتعمقنا في دراسة تاريخ الدول الأوربية ازددنا يقيناً بأن معالم الاختلاف والانقسام فيها لم تكن قط أقل من التي تجلت في تاريخ العرب بوجه عام.
إني أقول هذا بكل تأكيد مع علمي بأني أخالف بذلك آراء الكثرة الساحقة من الكتاب والباحثين.
وقد فكرت ملياً في الأسباب والعوامل التي حملت الرأي العام على التباعد عن طريق الصواب في هذه القضية الهامة، وأعتقد أنني وصلت إلى معرفتها بكل وضوح:
إن مراكز رؤيتنا لتاريخ العرب تختلف - بوجه عام - عن مراكز رؤيتنا لتواريخ الأمم الأخرى.
فنحن ننظر إلى تواريخ الأمم الأخرى عن بعد نظرة إجمالية فندرك خطوطها الأساسية العامة دون أن نتيه في تفاصيلها الفرعية. ولكننا ننظر إلى تاريخ العرب من قرب نظرة تفصيلية فنطلع على كثير من تفاصيله دون أن نحيط علماً بخطوطه الأساسية.
وأستطيع أن أقول: إن موقفنا تجاه التاريخ العام موقف رجل يتفرج على الجبل من السهل البعيد.
وأما موقفنا تجاه تاريخ العرب، فهو موقف رجل يسير في قلب الجبل ويتغلغل في وهاده.
ومن المعلوم أن الجبال تتألف عادة من وهاد ووديان، ومرتفعات ومنخفضات، وهضاب ومنحدرات، فلا تبدو عالية شامخة، إلا لمن ينظر إليها من بعيد، ويدرك شكلها العام دون إن يتيه بين خطوطها الفرعية المعقدة. . .
إن تواريخ الدول الأوربية تبدو لنا جبالاً مرتفعة شامخة، لأننا ننظر إليها بنظر المؤلفين الأوربيين، ومن الخارج ومن البعد، فلنغير موقفنا منها ونظراتنا إليها، وذلك بالتغلغل فيها، نرى عندئذ أنها مؤلفة من وهاد ووديان بالرغم من منظرها الخارجي العام.
وأما تواريخ الدول العربية، فتبدو لنا مجموعة مرتفعات ومنخفضات مشوشة ومعقدة، لأننا ننظر إليها بنظر الإخباريين القدماء، ومن داخلها؛ فلنغير موقفنا منها، ولننظر إليها من بعد - نظرة تسمو على النزعات - فنرى عندئذ أنها أيضاً مرتفعة شامخة بالرغم مما فيها من وهاد ووديان.
يجب علينا أن نضع هذه الحقيقة نصب أعيننا على الدوام، وأن نسعى لتوحيد نظراتنا إلى صحائف التاريخ القومي والتاريخ العام، ولنعدل عن استعمال نظارات مكبرة للعيوب في الأولى، ومصغرة للعيوب في الثانية، كما اعتدنا ذلك إلى الآن.
وعندما نفعل ذلك نفهم حق الفهم أن الأحكام الشائعة بيننا على تاريخ العرب، إنما هي وليدة نظرات خاطئة، ومقارنات قاصرة، ولهذا السبب كانت في حاجة شديدة إلى التصحيح والتقويم بوجه عام.
أبو خلدون ساطع الحصري