مجلة الرسالة/العدد 817/صور من الحياة:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 817/صور من الحياة:

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 02 - 1949



انتقام

للأستاذ كامل محمود حبيب

دعني - يا صاحبي - أنفض أمامك جملة حالي، فما في حديثي ما تضيق له النفس ولا ما ينزعج له القلب. هذا أمري وما كان لي الخبرة منه وإني لأضطرب بين نوازع جياشة لا تهدأ ولا تستقر.

فتعال - ياصاحبي - واجلس إلى جانبي والق إلى السمع ثم لا تلمني فأنا تجربة قاسية من تجارب الحياة. . .

صفعتني الأيام في غير شفقة ولا رحمة - أول ما صفعت - حين ماتت عني أمي طفلاً أدرج في فناء الدار، ولا أكاد أعي من أمر الحياة شيئاً، ولا أكاد أنأى عن حضن أمي إلا ريثما أعود إليه أجد فيه الحياة والدفء والحنان جميعاً، وأبي بين عمله وشبابه في شغل. وافتقدت أمي حين افتقدت القلب الذي يسعدني وأطمئن إليه، وحين غاضت الابتسامة الرفافة الساحرة التي تجذبني وتحنو على؛ فرحت أسأل عنها في شوق وأبكي بعدها في حزن وأهلي من حولي يوهمنني بأن أمي ذهبت إلى القاهرة تطب لمرضها. وعجبت أن لا أجد لها شبيهاً في من أرى. فهذه عمتي وهذه خالتي وهذه وهذه. . . لأحس في واحدة منهن معنى الأمومة ولا ألمس روح الحنان.

واشتد شوقي إليها ولجت بي اللهفة إلى رؤيتها، ثم انطوت الأيام وعبرتي ما ترقأ وحنيني ما يخبو.

وصحبتني جدتي لأبي - ذات ليلة - إلى دارها، وأرادتني على أن أستحم وجاءت هي تزيل عني أوساخ الإهمال وتمسح أعفار الشارع، تدهن شعري بالزيت وتضمخ جسمي بالعطر ثم تلبسني الحرير في رفق وتلفني في الدمقس في عناية.

يا عجباً! ما لوجه هذه العجوز الشمطاء يفيض بشراً وإشراقاً وما لها تتزين وتتطيب كأنها في ليلة زفافها!.

وسألتها ما الخبر، فقالت: (بابني غداً ستذهب لترى أمك في بيت أبيك) وثوثب قلبي طرباً وطار عقلي سروراً، وشملتني طفولتي فما أستطيع أن أكتم دوافع نفسي، فذهبت أملأ الد ضجيجاً وصخباً، أغني وأصيح وأنادي وأقفز وأجري، يكاد إهابي ينشق نشاطاً على حين يفيض قلبي فرحاً. غداً سأرى أمي! وافرحتاه! وذهبت أهيئ نفسي للقيا الحبيبة أزين وأتأنق وأقف أمام المرآة أتحسس ملابسي وشعري وحذائي. ونامت العجوز وأنا إلى جانبها لا يجد النوم إلى عيني سبيلا؛ والأخيلة الجميلة البسامة تتوزعني وأنا بينها لا أحس معنى الزمن ولا يضنيني السهر وقد مضى الليل إلا أقله.

وفي الصباح لصقت بجدتي أتبعها وأتعلق بثوبها، أستنجزها ما وعدت وهي تستمهلني، والساعات تنطوي. والأمل يخبو في نفسي رويداً رويداً حتى لفني الوجوم والأسى وبدت على الخيبة وضياع الأمل. وعند الظهر قالت لي جدتي: (الآن، نذهب لنرى أمك).

وذهبت إلى دار أبي، إلى جانب جدتي، أختال في الحرير والدمقس وأزهو في طفولتي وعطري وأرنو هنا وهناك وقلبي يخفق في شدةوعنف، ترى أين كانت تتوارى أمي، أفحقاً كانت تطب لمرضها في القاهرة؟ ودخلت حجرة واسعة من حجرات الدار فإذا عبير المسك يتضوع في نواحيها وتفوح في جنباتها روح العطر. ولقد تأنقت الحجرة في زينتها وتبرجت في أثاثها فهي تخطف البصر وتخلب اللب. وأخذت أقلب البصر في أرجاء المكان فما رأيت المرأة الجالسة في أقصى الحجرة إلا حين قالت جدتي العجوز (هذه أمك) واندفعت أنا إليها ألقى بنفسي بين ذراعيها وأدفن وجهي في حجرها لأستشعر الحنان والعطف وقد فقدتهما منذ زمان.

وألقيت بنفسي في حجرها ولكني لم أحس بذراعيها تنفرجان لتضماني ولا بنفسها تستبشر للقائي ولا بقبلها ينبض لمقدمي فرفعت بصري إلى وجهها أحدق فيه، واستلبتني الدهشة والحيرة من حياء الطفولة فأرسلت من شفتي صرخة مدوية وأجهشت للبكاء ثم رجعت إلى الوراء في فزع، رجعت صوب الباب لأن هذه المرأة لم تكن أمي. وشعرت بأنني أحتقر جدتي وأمقت المرأة التي زعموا أنها أمي.

وألفيت أبي لدى الباب فربت على كتفي في حنان وضمني إليه في عطف وقال: ما بالك؟ قلت: من عسى أن تكون هذه المرأة؟ قال: هي أمك. قلت: لا. قال: ألا أن لك أمين واحدة في القاهرة وهذه هنا! قلت: فما لي لم أرها من قبل؟ وتلعثم لسان أبي وماتت الكلمات بين شفتيه، وبدا لي أن أبي كذاب فشعرت بأنني أحتقره وأمقته.

آه، لقد انطوى صدري على كراهية أبي وجدتي والمرأة التي زعموا أنها أمي. . . كرهتهم جميعاً لأنهم كذبوا. . . وأحسست بالأسى يتدفق عارياً إلى قلبي. وجرفني الحزن حين أيقنت بأنني فقدت أمي إلى الأبد.

وحين رأتني زوجة أبي قذى في عينيها اتخذتني هدفاً لغضبها وثورتها وعشت في الدار ضائعاً لا أفوز إلا بفضله مما يتركه الخادم. حينذاك أرسلني أبي إلى المدرسة في المدينة ودفع بي إلى خادم يقوم على أمري فكان هو أبي وأمي وجلادي، فهو أب لا يعرف الرحمة وأم لتعرف الحنان وجلاد لا يعرف الشفقة. وعشت هناك أشعر بالغربة فأبي لا يزورني إلا لماماً إرضاء لزوجته، وهو أن فعل لا يحبوني بعطفه ولا يهش للقائي ولا يتبسط معي في الحديث ولا يهتم بحاجاتي ولا يعني بطلباتي، ومرت الأيام وهو ينأى عني رويداً رويداً حتى أصبح غريباً عن نفسي وعن قلبي في وقت معاً وأغص بالحرمان فالخادم ينعم وحده بمال أبي وأنا لا أنال قرشاً واحداً أشتري به بعض ما يشتري أترابي. وأشرق بالمهانة فأنا أغدو إلى المدرسة وأروح في ثياب مضطربة قذرة مهلهلة على حين أن رفاقي يرفون في الجديد والنظيف. وأحس بالضعة فما أستطيع أن أدفع عن نفسي عبث زملائي وتهكمهم فما بي من قوة أن أفعل. وتمادى صحابي فامتدت أيديهم إلى وجهي ورأسي، فطرت أفزع عنهم وافر منهم وهم يجدون في إثري لأكون لهم سخرية ولهواً. ولم تستطع نفسي أن تطمئن إلى هذا الوضع الوضيع وأنا عاجز اليد واللسان والقلب، فذهبت أتلمس مهرباً فكنت أقضي أوقات الفسحة مختبئاً في (المرحاض) ثم أنفلت - آخر اليوم المدرسي - إلى بيتي أحمل همي بين جنبي فما أجد متنفساً إلا أن أشكو إلى هذا الخادم الفظ وهو لا يلقي بالاً إلى شكاتي إلا والعصا على ظهري، وأبي بين عمله وشبابه في شغل.

وقضيت السنوات الأولى من عمري المدرسي أتوارى عن زملائي خشية أن تنالني أيديهم وألسنتهم، وأنطوي على نفسي في ركن من حجرة خيفة أن أعرض أسمالي البالية على أعين الناس في الشارع، فعشت في منأى عن الناس أطمئن إلى الوحدة وأرى فيها سلوان القلب وراحة النفس.

أفكنت أطمئن إلى هذا الوضع الوضيع في سهولة ويسر؟. ليت شعري ماذا كان يضطرب في خاطري حين أخلو إلى نفسي وإن قلبي ليتضرم غيظاً ويحتدم حقداً على أولئك الذين اتخذوني سخرية ولهواً؟.

وثارت في ثائرة القرم إلى الانتقام واشتد بي النهم إلى الثأر وشغلتني الخاطرة فملأت نفسي وسيطرت على أخيلتي، وفي رأيي أن الناس يحترمون القوي ويتملقونه ويسخرون من الضعيف ويمتهنونه. وعز على أن أعيش عمري في الذلة والمسكنة فعزمت على أمر. . .

ورحت أقضي شطراً من يومي في أحد الأندية الرياضية، وشطراً آخر بين أوراقي ودرسي، ومرت الأيام فإذا ساعدي قد اشتد وعضلي قد تكتل وإذا عقلي قد استوى واستقام.

وقويت نفسي حين رأيتني في الصدر قوة وعلماً، فطردت خادمي بعد أن أذقته وبال أمره، وانطلقت إلى أبي أطلب - في شدة وعنف - أن يرتب لي من المال ما يحفظ علي كرامتي وكبريائي فما تمهل، وانطويت عن زوجة أبي وأنا أحدجها بنظرات فيها الاحتقار والبغض، ووجدت اللذة والسعادة في أن أبطش بأترابي وأقاربي فاندفعت أذيقهم الذلة وأسلوبهم الخسف لا تأخذني بهم رأفة ولا أستشعر نحوهم الرحمة.

وتخرجت في الجامعة لأفرغ إلى الانتقام وبي إليه قرم وأخلص إلى الأخذ بالثأر وبي نهم إليه. وسلكت إلى غايتي سبلاً شيطانية وأنا أعجب أن تسيطر علي روح الإجرام وأنا رجل علم وأدب. ولكن، هل كان الشيطان إلا وعاء علم وأدب لبسته روح الإجرام؟

ودفعتني شيطانيتي إلى أفانين من الانتقام أحكم نسجها، فانطلقت. . .

اليوم غلتي وأشفيت داء صدري، بعد أن عذيت من سخروا مني طفلا وقتلت من قسوا علي

صغيراً فهل تراني ندمت على أمر وأنا أشعر بأنني قد أديت رسالة قلبي؟.

ولكن عين العدالة لم تغفل عني فأنت ترى الآن الغل في يدي والقيد في رجلي وسيف الجلاد ينتظرني بعد أيام.

فقل لي - يا صاحبي - من عسى أن يكون الملوم، من عسى أن يكون يا صاحبي؟.

كامل محمود حبيب