مجلة الرسالة/العدد 817/القصص
مجلة الرسالة/العدد 817/القصص
في ميدان الجهاد
للأستاذ وهبي إسماعيل حقي
إلى المجاهد الكبير من اجتمع إلى حكمة الشيوخ عزمات الشباب صاحب الدولة (احمد باشا حلمي) وفقه الله في مهمته. . .
كان الوقت ليلا، وكانت السماء صافية الأديم، وكان القمر يرسل أضوائه الفضية الساطعة، فتملأ الأرجاء أمنا، وتغمرها نوراً، ولولا أن الجو تتمشى في جنباته موجات من يرد فبراير القارس لتبدلت الحال، ولخرج الناس من مكامنهم ليستمتعوا بهذه الطبيعة الأخاذة، ويستنشقوا عبير النسيم الذي انبعث من البحر الأبيض يحمل النشاط والقوة، ولما لجأت (كتيبة الإيمان) - إلى ذلك الكهف الذي اتخذته مقر لقيدتها، في إحدى جبال فلسطين الكثيرة، والتف أفرادها حول النار ليصطلوا.
وكانت هذه الكتيبة واحدة من الكتائب التي ألفت جيش الإنقاذ الذي خف فلسطين حينما وضح اليهود عن المغالاة في مطامعهم بإثارة الغارات - من آن لآخر - على القرى العربية الآمنة ومثلوا معهم تلك الأدوار التي حدثنا عنها التاريخ في عصور الجاهلية الأولى، ومن هتك الأعراض، وسلب الأموال وقتل الضعفاء من الشيوخ والأطفال.
واتخذت كهفاً واسعاً مركزاً لها، فيه توضع خططها الحربية، وفيه تحفظ المؤونة ومنه تشن ضد الصهيونيين العتاة.
كان ضوء القمر على باب الكهف يعاون أشعة النار في تبديد الظلمة، فيستطيع الإنسان أن يميز وجوه الحاضرين، فيرى فيهم الأبيض والأسمر، والأسود والأشقر، ويرى فيهم الطويل والقصير.
فهولاء الأربعة البيض الذين اتخذوا مجلسهم قريباً من الموقد، تنبئ ملامحهم أنهم أوربيون: فأما العملاقان - اللذان تشع من عيونهما أشعة القوة والجد، وينبعث منها بريق الأمل - فهما من إحدى المدن الألبانية التي تغذى أهلها بلبان الحرية، ومن أجلها حاربا الطليان والألمان، ثم حاربا الشيوعية، وأخيراً تركا الوطن إلى إيطاليا فراراً بعقيدتهما.
وأما هذا القميء العريض المنكبين الذي اتسمت آيات الحزن على صفحة وجهه، ولاح الامتعاض وحب الانتقام في أساريره، فإنه من تلك القرية البوسنوية المسلمة التي أغار عليها ذلك الوحش الآدمي المجرم (ميخائلوفيك) فحرق رجالها وهم يؤدون صلاة العيد في أحد مساجدهم واجبر، نساءها أن يرقصن على الثلج عاريات، بعد أن سلبهن الشرف والعرض، ثم أعدمهن رمياً بالرصاص. وكان من حظ رفيقنا هذا أن تأخر عن شهود الصلاة فنجا من الموت، وفر إلى اليونان ومنها إلى إيطاليا.
أما هذا الذي يشبه الصيني إلى حد بعيد فهو من تتار بولونيا غادر بلاده بعد الزحف الروسي ليحارب الظلم والاستبداد فوصل إلى جبال ألبانيا وحارب مع عصابتها جيوش المحور.
وجمعت المقادير بين الأربعة في أحد معسكرات إيطاليا، واستمتعوا إلى تلك الفظائع التي يرتكبها اليهود مع عرب فلسطين فهبوا للدفاع عن الحقوق المهضومة ورد العدوان الصارخ.
أما الباقون من أفراد الكتيبة فيستطيع من يراهم أن يعرفهم بسيماهم ولكنتهم العربية، فمنهم المصري والسوداني، ومنهم السوري والعراقي والمغربي واللبناني ومنهم غير هؤلاء كثيرون.
اجتمعوا حول النار في الكهف يتشاورون ويتباحثون في الأعمال التي يجب أن يبتدئوا بها في غدهم.
وقال قائدهم الأكبر، وهو فلسطيني أتم علومه أتم علومه في ألمانيا، ودرس الفنون الحربية في معاهدها، ونبغ في الهجوم الخاطف: في الصباح المبكر سنهجم على مواقع العدو القريبة منا في ناحية الشمال.
وأستقر الرأي أن يبدأ الهجوم من الساعة الخامسة قبل أن تبزغ الشمس، ويملأ نورها الجو، وصدرت الأوامر للجميع أن ينظفوا أسلحتهم، وأن يتموا استعدادهم. . . وتفرقوا إلى مضاجعهم
في زوايا الكهف، وفي الساعة الرابعة جلجلت أصوات المؤذنين في الفضاء: (الصلاة خير من النوم) فهرع الكل إلى الينبوع الذي لا يبعد كثيراً عن الكهف وأسبغوا الوضوء لصلاة الفجر، وأمهم قائدهم. ولما قضيت الصلاة، توجهوا إلى الله مخلصين أن يهيئ لهم النجاح في مسعاهم وأن يكتب لهم النصر على أعدائهم.
ورجعوا إلى مقرهم فلبسوا أسلحتهم وحملوا أمتعتهم وخرجوا إلى باب الكهف يقطعون المسافة أمامه ذهوبا وجيئة وهم ينتظرون الأمر بالانقضاض، وكل منهم يهمس لأخيه: متى سنذهب؟ لقد تأخرنا اليوم!.
ثم دوى في الفضاء صوت جهوري تردد صداه في جنبات الوادي: استعدوا.
فخشعت الأصوات، وشمل الحاضرين سكون رهيب، وتراص الجميع في صفوف منتظمة، ووقف على رأس كل صف ضابط ينادي الجنود بأسمائهم.
ثم برز القائد الأعلى وخطب فيهم يستنهض الهمم ويستحث العزائم فقال: لست أرابي في حاجة لأن أذكركم بما يجب على الجندي في الميدان من الاستبسال في القتال، والحرص على الفوز. لا أملك إلا أن أقول: علينا أن نصل إلى النصر بأي ثمن.
فرد الجند من أعماق قلوبهم: إننا - بعون الله تعالى وحسن قيادتك - منتصرون (إن ينصركم الله فلا غالب لكم).
وزحف الجند في حذر، وكانت النجوم لا تزال تؤدي رسالتها في كبد السماء، ترشد الضال، وتنير الطريق. وكان البرد قد بلغ النهاية في الشدة، ولكن الكتيبة ما كانت تقيم له في حسابها وزنا كأن حرارة الإيمان بددت من حولها برودة الطقس.
وكان على الجند الزاحف أن يقطع مسافة غير قصيرة ليصل إلى خنادق العدو التي توفرت له فيها أسباب الراحة وألوان المتع، وكميات من الزاد والذخيرة لاتحد. . . ففيها الفرش الوثير، والطعام الكثير، والعتاد الوفير، الذي انثال على اليهود من كبريات دول الغرب.
وحين أصبحوا غير بعيد من مراكز العدو استمعوا إلى القائد يصيح فيهم: تأهبوا للهجوم. فانقسموا إلى أربع فرق، كل فرقة لا تعدو العشرين، وإن هي إلا لحظات حتى كانوا مرهفي الحس لتلقي أمر القائد.
ووصلوا إلى المنطقة التي تجب فيها الحيطة ويلزم الحذر حيث الألغام المبثوثة، والأسلاك الشائكة والقنابل المنثورة. ولم يمض إلا قليل حتى أصوات الطلقات في الفضاء، فعلموا أن الحراس قد أحسوا بهم، وأنهم يستعدون للقائهم.
وانبطح أفراد الكتيبة على الأرض، وابتدأت المعركة، وكانت رعدة من البرد قد سرت في أجسادهم حين افترشوا الأرض، لكنها لم تلبث أن تبددت عندما حمى الوطيس.
ثم تعالت صيحات الفزع من خنادق الصهيونيين، وارتفعت أصوات السب واللعن لمن حرمهم لذة التمتع بالنوم في ذلك الوقت الباكر.
وأخذ أفراد الفرق يتقدمون رويداً رويداً زحفاً على البطون ووابل الرصاص يمرق من فوق رءوسهم فلما كانوا على خمسين متراً من مقر الأعداء، تزايدت الطلقات، فلم يعقهم ذلك عن التقدم في العراء.
وقد أطلقوا العنان لأسلحتهم تقذف بنيرانها إلى الخنادق التي لم تتأثر بها كثيراً فكانت تصدم بالجدر المتينة ثم تعود من حيث أتت حسيرة، لأنها لم تبلغ الغاية ولم تقيم بالمهمة.
ونادى القائد نداءه الصارم: أيها الجنود البواسل! الكلمة الآن للقنابل. . . ليهجم الصف الأول على الخنادق الكامنة إلى اليمين. وأما الثاني والثالث فليقوما بالهجوم على الخنادق في الشمال. وليقف الرابع بالمرصاد، ليتقدم إلى من هم في حاجة إلى مساعدته.
وبدأت الشمس تنشر أشعتها في صفحة الكون، فتبعث الدفء وتخفف حدة البرد، وتجلى الموقف على حقيقته، فهاتان قوتان تعتركان: أما أولاهما فهي قوة الظلم والعدوان، وحوش في زي الإنسان وجائرون في لبوس ذوي الحق المضاع والجناح المهيض. وهم من أجل ذلك يرتعشون فرقاً ويرتعدون خوفاً كلما التقوا مع المجاهدين في ميدان؛ لأنهم لا يعرفون الحكمة ولا الداعي لمحاربتهم لهؤلاء الوادعين الذين أمنوا في أوطانهم، واطمأنوا في ديارهم.
أما القوة الثانية فهي قوة الحق تتمثل في هذه الحفنة من الأبطال الذين خرجوا من ديارهم وأبنائهم، واستلموا سيوف العدالة ليبطشوا بالذين استباحوا الحرمات واعتدوا على الحريات، وعاثوا في الأرض فساداً. . . إنهم حين يندفعون إلى الأوكار اليهودية، قد وقر في نفوسهم، وارتسم في أذهانهم تلك الفظائع التي ارتكبها هؤلاء الأشرار من سفك الدماء، وتقتيل الأبرياء، وهتك الأعراض، وتشتيت الأسر، وبقر بطون الحبالى، فتلتهب عزائمهم وتتمليء نفوسهم بالشجاعة والقوة، ويشعرون بالارتياح فيتقدموا إلى العدو وهم أشد تعطشاً لسفح دمه ثأراً لإخوانهم.
واستطاع جند الكتيبة أن ينفذوا إلى الخنادق، وفي داخلها نشبت المعركة، واشتد القتال. فلم يثبت لليهود قدم، ووجلت قلوبهم، وارتخت أعضاؤهم، ولم يكن لهم هم سوى البحث عن الوسيلة للفرار.
ووقف بعض الجند من كتيبة الإيمان يقتلون من زينت له نفسه الهرب على باب الخندق، وهم يصيحون من الفرح: أين موسى شرتوك الذي سول له شيطانه أن يفخر برجاله في العالم أجمع
أهؤلاء هم الرجال الذين هددوا باحتلال الأراضي المقدسة حتى الحدود المصرية؟. أهؤلاء هم الذين نشروا الخوف وأشاعوا الرعب في ربوع فلسطين الآمنة؟ هاهي حصونهم لم تحملهم منا؟ وهاهي أشلائهم قد تناثرت حولها؟ وهاهي أسلحتهم واستعداداتهم لم تحل بيننا وبينهم. إنهم باغون وعلى الباغي تدور الدوائر.
واحتلت الكتيبة خنادق اليهود. وتولتهم الدهشة من عجيب ما رأوا فيها، فهي مزودة بكل طريف من الكماليات فضلا عن الضروريات: فهذه وسائل التدفئة الحديثة وتلك، آلات الكهرباء، وهذا رياش فاخر، وذاك معين من المؤونة لا ينضب، إلى غير ذلك مما لا يدع للشك مجالا في إنهم كانوا يعتقدون أنهم في هذه الأماكن مخلدون.
وتراءى لأفراد الكتيبة عظم الفرق بين القوتين وبين الاستعدادين، كعظم الفرق بين السماء والأرض. . . وانخلعت قلوبهم من الحيرة لهزيمة هؤلاء الصهيونيين مع هذا العدد الوفير، وهذه العدة البالغة، وأيقنوا أن النصر للقوة المعنوية دائماً، وللقوة المادية نادراً.
وألقى الجنود نظرات خاطفة على عتاد الأعداء ليحملوا ما هم في حاجة إليه من متاع وسلاح، ثم التفوا حول قائدهم ليصغوا إليه وهو يأمرهم بملاحقة الأعداء ومواصلة الهجوم حتى يجتنوا ثمار النصر ناضجة، فانبسطت الأسارير، وارتسمت على الشفاه بسمات الفرح بذلك النصر المبين. وتزايد سرورهم حين عرفوا أن عددهم لا ينقصه إلا ثلاثة قد لقوا حتفهم برصاصات صهيونية غادرة.
وتعانق الجميع عناقاً سريعاً حاراً، تعبيراً عن ابتهاجهم بهذا الفوز الحاسم، ثم انصاعوا لأمر القائد الذي ناداهم: إلى الأمام أيها الأصدقاء؛ فعلينا أن نحتل جميع المراكز القريبة ليتم تطهير المنطقة كلها.
واستبسل اليهود في الدفاع عن مراكزهم، ونشطت مدافعهم الثقيلة والخفيفة، وأطلت فوهاتها من فتحات الخناق لتقذف الحمم، وتجاوبت الطلقات، وتلوت في أجواز الفضاء مسرعة متوالية كأنها حيات تسمى، وكأنها تزأر زئيراً مفزعاً، وتدوي دوياً مزعجاً، لو سمعه من لم يتعود لطاش عقله، وفقد السيطرة على أعصابه.
ولكن أفراد الكتيبة كانت قلوبها تخفق الشجاعة كلما سمعت قصف المدافع، ورعد القنابل وعصف البنادق، ولم يفت في عضدها تلك الانفجارات من حولها ولا ذلك الدوي الذي يصم الآذان.
وأحس الجنود أن ما معهم من العتاد أوشك أن ينفذ، ومع ذلك لم ينكص واحد منهم عن التقدم. ولكن اقتصدوا كثيراً في إطلاق الرصاص، وكانوا يسدون إلى الهدف دائماً. وفرغت القنابل ولم يبق لدى الكتيبة سوى عدد لا يفي بالغرض من الطلقات.
وأحس العدو ذلك من فتورهم في الهجوم، فقويت روحه، واجترأ على الخروج من مكمنه، وواجه أفراد الكتيبة بالعدد والعدة، وتحولت المنطقة إلى قطعة من الجحيم؛ فالتهبت البقاع، واشتد القتال. . . ثم نفذت ذخيرة الكتيبة، وخمدت مدافعها، وسكتت بنادقها، ولكن أحداً من رجالها لم يتزحزح عن موقفه لأنهم يعلمون أن لهم إحدى الحسنين، والنصر المؤزر أو الفوز بالجنة.
ونادى القائد محمد: إلى الأمام أيها الأبطال. . . لا ترهبوا الموت. . . إلى الممر فهناك النصر. . . لكنه لم يتم كلمته فقد نفذت إلى قلبه رصاصة آثمة ألقته على الأرض، وحاول أن يقف على رجليه فلم يستطع. . . أراد أن يستمهل الموت حتى يؤدي واجبه كاملا لكن الموت لم يمهله. . . تقدم خطوتين إلى الأمام زحفاً ولم يقو على الاستمرار، فعلم أنها آخر لحظاته فرمق الجميع بنظرة عطف وحنان، وسمعه أقرب الجند إلى مكانه يهمس بكلمات متقطعة وعى منها: (إلى الأمام. . يا أصدقائي خذوا بثأري. لا تهدروا دمي. . . تحيا. . .) ثم فاضت روحه إلى بارئها تشكو تعسف الصهيونيين، وتستنجز وعيده فيهم (كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله). . . وأتم الجندي كلمته. (تحيا فلسطين).
ثم تقدم أصدقاؤه لينفذوا خطته، وهم يعلمون أنه إنما أراد أن يقذف الرعب في قلوب الأعداء بهذا التقدم، فيفسد عليهم خططهم، وإن أعقب ذلك موت كثير من رجاله، فالحرب تضحية.
ثم سمع الجند صوت القائد يأمرهم أن يثبتوا في أماكنهم، وأن يفكروا في الانسحاب حتى لا يفجعوا الوطن في حياتهم؛ فإن الذخيرة قد نفدت، وإن القائد قد قتل، وإن التقدم مع كل هذا معناه موت الباقين. وكان مما قاله لهم: قفوا إلى أن تصدر إليكم أوامر أخرى.
واشتدت ضربات اليهود، وأقاموا ستاراً كثيفاً بمدافعهم الرشاشة لا يتسنى لإنسان معه أن يرفع رأسه إلى أعلى إلا إذا كان في غنى عن حياته.
وطلب القائد إلى الجند أن ينبطحوا على الأرض، وأن يزحفوا على بطونهم إلى أن يخرجوا من ميدان القتال ويبعدوا عن مرمى قذائفهم.
وكانت جثة قائدهم محمد على عشرة أمتار منهم، تسبح في بحر من دمائه الزكية، والتبس الأمر عليهم أيتركون هذا الجدث الطاهر في تلك العصابة الآثمة يمثلون به؟ أم يعودون إليه ليحملوه معهم وإن سبب لهم هذا العمل المتاعب والصعاب.
ولم يطل بهم التردد؛ فقد وقف (سعيد) - وهو جندي من جنود الكتيبة غير المبرزين - وأسرع إلى حيث جثم قائده وحاول زملاؤه أن يحولوا بينه وبين ما أراد فلم تجد محاولتهم. . . وانحنى سعيد على جثة القائد بين يديه وهم به أن يرفعه إلى أعلى، وما هو إلا أن برز صدره حتى ندت عنه صيحة مدوية أعقبها أنات موجعة؛ وسقطت الجثة أمامه؛ فقد سدد إليه الأعداء رصاص بنادقهم فأصابه منها رشاش، خارت له قواه، واصطكت أسنانه ولكنه ملك زمام شجاعته، واستجمع قوته وحمل الجثة ثانية، وأسرع بها إلى قومه وهو يجر رجليه في مشقة بالغة وحين وصل إلى رفاقه سقط أمامهم مغشياً عليه، تتفجر الدماء غزيرة من جوانبه تخط على رمال الصحراء صفحة المجد الخالد والبطولة النادرة. . . وارتسمت على شفتي سعيد بسمة الرضا بما صنع؛ فقد حال بين جثة قائده وزميله وبين الأعداء ن تبطتتتتتبطشتبطش أن بها. وتم انسحاب الكتيبة إلى مكان أمين، وقد حملوا معهم سعيداً الجريح، ومحمداً القتيل. ثم التفوا حول سعيد يضمدون جراحه، وكلهم أسف لما حل به. فلما أفاق توالت عليه الأسئلة، عن حاله، وبماذا يحس، وأجابهم بصوت خافت: إني بخير والحمد لله. . . ليست حياتي في خطر. . . وليس بي سوى الحزن على محمد القائد البطل. . . لقد كتب المسكين إلى أمه أمس، وأنا الذي أودعت البريد رسالته التي يقول فيها إنني في صحة جيدة. . . وإنني سعيد في حربي لهؤلاء الجبناء الأنذال، وأجد اللذة في الانتصار المتوالي عليهم. . . ثم ختم الرسالة بقوله: إنك يا أماه ستفخرين كل الفخر عندما أعود إليك مرفوع الرأس عقب الانتصار النهائي على (بن صهيون) وأقص عليك تفاصيل المعارك التي خضناها، وسيرة الأبطال الذين اشتركوا معي في هذا الجهاد المقدس). ثم سالت من عيني سعيد قطرات من الدموع مسحها براحتيه، والتفت إلى زملائه الذين أحسوا مثل إحساسه وهو يقول: ولآن علينا أن ننتقم لمحمد. أليس كذلك أيها الأصدقاء؟ فأجابه الجميع في صوت واحد: نعم يا سعيد! سننتقم له أشد الانتقام!
قال من نقل إلى هذا الحديث - وهو ممن خاض جميع المعارك مع هذه الكتيبة، قبل أن تزحف الجيوش العربية النظامية إلى فلسطين، وكان ضابطاً في الجيش برتبة الملازم الأول، فترك وظيفته وتطوع في جيش الإنقاذ - استرحنا يومين كاملين، تم فيهما استعدادنا، وعادت إلينا حيويتنا، ثم قمنا بهجوم خاطف عنيف على مراكز العدو في تلك البقعة، واشترك معنا سعيد، وأبلى فيه بلاء حسناً، واستشهد وهو ينزل العلم الصهيوني ليرفع مكانه العلم العربي فوق برج المستعمرة.
واحتفلنا بجنازته احتفالا رهيباً، ودفناه بجوار (محمد القائد البطل) ووضعنا بجوار قبريهما حجراً كبيراً خططنا عليه تاريخ استشهادهما في الهجومين المتوالين، ليذكر الذين يزورون الأراضي المقدسة تلك الأعمال الحربية العظيمة التي قامت بها الكتائب المتطوعة في تنظيف فلسطين من الوباء الصهيوني.
والآمال كبيرة في الجيوش النظامية ألا تدع صهيونياً واحداً يتنفس هواء تلك البقاع الطاهرة التي روتها دماء المجاهدين الأحرار.
ثم انحدرت على وجه صديقي (صدقي) دمعة كبيرة وهو يستنزل الرحمة لزملائه الأبطال.
وهبي إسماعيل حقي
عضو البعثة الألبانية بالأزهر