مجلة الرسالة/العدد 816/القصص
مجلة الرسالة/العدد 816/القصص
من روائع أدب القصة القصيرة الإنجليزية:
أولالا
للكاتب الإنجليزي روبرت لويس ستيفنس
(روائي أديب إسكتلندي ولد في أد نبرة في 13 نوفمبر1850 ودرس القانون في أكاديمية أد نبرة وجامعتها ومارس المهنة ثم انصرف عنها إلى الأدب. أول ما ظهر من آثاره الأدبية مقالاته في مجلة (كورن هل) 1874. تجول في أوربا وكتب عن رحلاته هذه. ذهب إلى أمريكا عام 1880 وتزوج بالمز إزيون الأمريكية. عاد إلى إنجلترا وكتب في 1882 قصة (جزيرة الكنز) التي جعلت اسمه على كل لسان. وفي عام 1886 كتب قصة (كدنايد) والقصة العجيبة التي سماها (الدكتور جاكيل والمستر هايد) وهي التي تضرب الأمثال بين الناس بها للرجل المخاتل ذي الشخصيتين المتنافرتين. وكتب قصصاً قصيرة كثيرة عام 1884 - 1887 وفي هذا العام ذهب إلى أمريكا، وساح في المحيط الهادي، واستقر به النوي في (ساموا)، وأخذ يرسل منها إلى إنجلترا أروع القصص، حتى وافته منيته بعيداً عن الوطن الرابع من ديسمبر عام 1894 وهو مكب على كتابة قصته
تمهيد للقصة:
تقع حوادثها في شمال أسبانيا في قصر عظيم من قصور أشرافها قد عبث الفقر بجدرانه وسكانه عبثاً شديداً وتدور حوادث القصة بين أربعة أشخاص: أولهم شاب إنجليزي في ميعة العمر، جميل الطلعة، في رجولته وجماله وشجاعته كل ما يحرك الحب في قلب المرأة ويدلهها - وهو جريح. وثانيهم شاب ريفي غير متعلم، تبدو عليه دلائل البله وهو ابن السنيورة النبيلة صاحبة القصر. وثالثهم السنيورة نفسها، وهي سيدة في العقد الخامس من العمر، تطل من وجهها أثار جمال ساحر، وهي مصابة بالجنون. ورابعهم أولالا، ابنة السنيورة، وهي فتاة في ربيعها الثامن عشر، رائعة الجمال شاعرة، وفيلسوفة، ومتبتلة.
تلخيص القصص:
أخذت جراح الشاب الإنجليزي تتماثل للشفاء، فقرر الطبيب إبعاده عن ضوضاء المدينة إلى مناخ جبلي جاف مدة شهرين، واتفق مع عائلة إسبانية في الريف على قبوله هذه المدة في قصرها، ولكن العائلة اشترطت سلفا أن لا يحاول هذا الإنجليزي التعرف على أفراد الأسرة، أو التدخل فيما لا يعنيه من شؤونهم، وقد كان هذا الشرط كافيا لرفضه الذهاب، لولا أن الضرورة الصحية جعلته يخضع لهذا اللون العجيب من حسن الضيافة وكرم الجوار!
وحضر فيليب ابن السنيورة لاستصحابه، وأخذ طريقهما إلى قصر يبعد عن المدينة عشرين ميلا، في عربة أثرية يجرها جواد هزيل. لم يحاول أحدهما التحدث إلى صاحبه، إنما كان فيليب يرفع عقيرته، طيلة الطريق، بغناء سمج لا يجري فيه على قاعدة من أبسط قواعد ذلك الفن الجميل. واختفت ذكاء وراء الأفق، تاركة خلفها على حواشيه ذيولا ممتدة هنا وهناك من نضار مصهور، وأخذ الظلام يسحب رداءه فتبدو في الظلمة موحشة تبعث الكآبة والخوف في أحشائها إلى النفوس. . ولمحا ضوءاً بعيداً ما لبث أن ظهر أنه ينبعث من إحدى نوافذ القصر الذاهبين إليه.
وعلى مسافة يردات معدودات من القصر تركا العربة، في حراسة فلاح من خدم القصر، واجتازا الباب الخارجي والردهات الداخلية حتى وصلا إلى غرفة قد وضع فيها سرير ومنضدة عليها نبيذ وطعام حار شهي، وقد أضرمت فيها نار جعلت جوها دافئاً.
انصرف فيليب إلى بعض شؤون، وتناول الجريح الطعام، وأوى إلى فراشه متعباً منهوكا وراح يسبح في نوم هادئ عميق! وأفاق مبكراً وأول ما دار بخلده أن يتعرف على ما حوله وعلى كل شيء يجد السبيل إليه مدفوعا إلى ذلك بحب الاستطلاع الذي أثاره في نفسه شروط الأسرة البعيدة عن اللياقة وأول ما بدأ به الغرفة التي يرقد فيها. أجال بصره فرأى صورة فتاة جميلة تدل ملابسها على أنها لا تعيش في هذا الزمن ولكن قسمات وجهها شديدة الشبه بملامح فيليب أخذ يطيل النظر إليها وهو في كل مرة يشعر بأن الصورة توقظ في قلبه لوناً غامضاً من الحب وارتاح إليه وأنس به الوحشة، وفي هذا المكان المقفر من العطف والوجوه الجميلة.
ثم أخذ يقضي أوقات فراغه في لهو بريء: يبدأ من الصباح فيصعد التلال المجاورة، ويدور بالغابات والجداول حتى يأخذ منه التعب مأخذه، فيعود إلى غرفته غير ملتفت إلى شيء حسب الاتفاق مع الطبيب، إلا بمقدار ما هو ضروري لرؤية الطريق.
مل هذه الحياة الرتيبة وكرهها، واستدعى فيليب إلى غرفته وأخذ يحدثه في لباقة وبراعة عن مواضيع بعيدة، يدس في ثناياها أسئلة عن الأسرة وأحوالها، ما لبثت أن أغضبت فيليب فتركه دون أن يجيبه عن شيء منها.
غير أن ذلك لم يثبط عزيمته وصمم على أن يكتشف بنفسه كل شيء، وأخذ في ذهابه وإيابه يلتفت يميناً ويساراً فرأى الجناح الذي تعيش فيه السنيورة. وبينما يهم بالخروج في صبيحة يوم مشمس جميل رآها جالسة في نور الشمس بالقرب من طريقه فحاول أن يتقدم إليها بالتحية، ولكنه تذكر الشرط القاسي فمر بها وهي تتلفت إليه دون أن يرفع طرفه إلى مكانها، غير أن الجرأة عاودته فحياها، فردت له تحية جافة، لا حياة فيها ورمقته بنظرة جامدة هادئة، منبعثة عن كبرياء. . ولكنه أدرك بعد زمن أنها صادرة عن عقل غير سليم!
وألف صاخبا السنيورة وألفته، فكان يمر بها صباح ومساء يرفع إلى مكانها تحياته، وينطلق إلى رياضته وراء التلال أو يمر بفيليب وهو منهمك في أعماله الزراعية. لقد كان سلوك السنيورة السلبي غير مشجع له على التحدث إليها، لذلك رغب في الابتعاد عنها.
وقد أدرك بفطنته أن الأسرة مرضاً وراثياً من الغباوة أو الجنون، بدا له واضحاً في عقل فيليب وسلوكه وفي عقل السنيورة وسلوكها. لقد سمع من الطبيب أن للأسرة فتاة في ريعان الصبا، فحسبها نوع والدتها وأخيها فاحتقرها وأمات الخيال الذي كان يود البحث عنها في شعوره!
واستمر في رحلاته القصيرة. ولك الشيطان سول له في أحد الأيام أن لا يذهب إلى التلال البعيدة، ولكن إلى داخل القصر، واغتنم فرصة ذهاب فيليب إلى أعماله الزراعية، وفرصة استسلام السنيورة إلى نوم تحت الشمس، وانسل إلى القصر وأخذ يور في حجراته وصالاته الرحبة، فبهره تخيل ما كان هذا القصر من السؤدد والثراء، وراح يغرق عواطفه في لجة من الفن تبدت في مئات الصور الرائعة لكبار الفنانين قد علقت هنا وهناك وقد أخذت يد التلف تشوه جمالها واستمر في تجواله حتى وصل إلى مكان فيه أوراق مبعثرة وكتب قيمة، بعضها أدبي وبعضها ديني، والآخر فلسفي. وهي لكبار المؤلفين في اللغة اللاتينية. ومظهر الكتب يدل على كثرة استعمالها وامتدت يده تعبث بأوراق فوق كرسي، فرأت شعراً قد كتب بقلم رصاص وبخط أنيق جداً على ورقة، يدل على براعة فنية وشاعرية فذة والهام خصب فعلم صاحبنا أن الغرفة التي هو فيها مخدع العذراء التي يبحث عنها، وإنها هي الشاعرة الجميلة الفيلسوفة. أحس في أعماق نفسه بأنه أقترف جرماً أخلاقياً بشعاً لاستباحته مخدع فتاة خفية عنها وعن أسرتها كما يفعل اللصوص، وتراجع مذعوراً من تأنيب ضميره إلى قواعده في تلك الغرفة الكئيبة، والشعر الرائع لا يزال يتردد في حنايا حسه وهو يقول لنفسه، إن التي تنظم شعراً من هذا النوع لا تكون إلا ملاكاً من ملائكة الرحمة وغير ممكن أن تكون مصابة بجنون.
وارتمى فوق سريره يفكر في الشعر وفي ناظمه، ويحلم بلقائها. . وعبثاً حاول صرف خيالها عن خاطره، وعبثاً حاول مقاومة تلك الرغبة العنيفة التي تدفعه دفعاً إلى العودة للجناح الخاص الذي تعيش الشاعرة الشابة فيه من ذلك القصر الكئيب وأخذ طريقه بعد أيام إلى مكانها. . . وفيما هو يهم بفتح الباب المؤدي إليه، إذا بيد تفتحه وإذا به وجها لوجه أمام فتاة بارزة النهدين، في عنفوان الصبا ونضارة الشباب. وما رأى لها شبيها في حياته. . . تراجعت الفتاة قليلا مشدوهة. . . وهي تكاد تلتهمه بنظراته الجائعة. . . وتراجع قليلا، محمر الوجه خجلا من اكتشافه في ذلك المكان الخاص من القصر لا يسمح له بالذهاب إليه، وولى الأدبار إلى غرفته، بعد أن ألقي نظرة طويلة على الشاعرة الجميلة الشابة الساحرة، وهي تلاحقه بنظراتها التي حملت إلى قلبه أولى رسائل الحب الجارف العنيف.
تغيرت حياة الشاب بعد هذا اللقاء. . أصبح لا يجد معنى للحياة إلا إذا رآها. . . لا يشتهي الطعام، ولا يجد النوم إلى جفنه سبيلا. وأحس في نفسه أنه يتحول إلى مخلوق جديد لا يمت بصلة إلى الإنسان الذي كان يعيش في جلده. . .
أصبحت المروج الجرداء والتلال الموحشة والبراري الصامتة روضة من رياض الجنة. . . أنه يرى وجه أولالا في كل ما تقع عليه في الدنيا، فيرى كل شيء ساحراً جميلا. لقد أصبح عاشقاً.
وأفاق مبكراً ومر في طريقه العادي فرأى وجه الشاعرة الجميل يطل من مكان قريب. . . فاندفع إليها مشدوها مذهولا ولكنها تراجعت قليلا وحاول أن يقول لها كلمة فرأى أن الكلمات تموت على شفتيه. ففر متجها إلى التلال القريبة. . . وجلس على صخره تطل على قصر الحب والسعادة وأخذ يحلم بسعادة اللقاء، ويضمد في قلبه الجراحات العميقة التي خرج بها في المعركة النظرات في صباحه. وبينما هو مذهول، إذ لمح شبحاً يقترب من مكانه وراء الأشجار. . حدق طويلا. يكاد يجن! لقد اقتربت! إنها. . إنها أولالا. . . أسرع بلا فيها مادا ذراعيه إليها فغابت معه في قبلة طويلة وهي تبكي بكاء موجعاً عنيفا. . ثم تدفعه فجأة وتفر منه كالمهاة التي يطاردها الصياد إلى سجنها في القصر العتيد.
عاد إلى القصر يتبعها، وهو كالمجنون. . . إنه يريد أن يضمها إلى صدره مرة أخرى، يريد أن يتحدث إليها. ولم يكد يدخل غرفته حتى وجد ورقة من نفس الورق الذي قرأ القصيدة فيه قد كتبت بنفس الخط، تطلب منه أن يرحمها إن كان يحبها، بمغادرة القصر في اليوم التالي.
كان يقدر أن يمر به كل هول في الحياة، بعد ما حمل قلبه حباً من هذا النوع، فلا يأبه له، ولكنه ما قدر أن تطلب إليه أولالا. . أولالا التي أحبته وأحبها حباً جنونياً، أن يغادرها حالا وتستحلفه باسم الحب أن يفعل. أنه لا يحتمل ذلك أراد أن يخادع الواقع بالكذب زاعماً أنها لم تطلب منه، وأنه يحلم. . ولكنه يرى أن خطها وأسلوبها الشعري ودموعها وراء كلماتها. . إنه أمام الحقيقة المرة. . . أنه لا يقوى على ذلك. . . وأسرع نحو النافذة يريد التخلص من الحياة ولم يفطن إلى أنها موصدة فاصطدمت ذراعه بالزجاج فجرحت جرحاً بالغاً تصبب منه الدم بغزارة. . . فصرخ وأسرع نحو أولالا. . . فصادفته السنيورة فطلب مساعدتها. لقد هاج منظر الدم المتدفق جنونها المكبوت فاندفعت إلى ذراعه تعضها كالحيوان المفترس عضاً أليما وهي تصرخ صراخاً منكراً وصل إلى مسامع أولالا وفيليب فأسرعا وأنقذا حياته واحتملاه إلى غرفته وراحت أولالا تضمد جراحاته وتصلي وهي دامعة العينين. . وأفاق بعد لأي فوجد أولالا منفردة إلى جانبه تمرضه وتسهر عليه وهي تبكي راكعة أمام سريره فتناول يدها بقبلاته وبللها بدموعه وعلى حين فجأة تترك الغرفة، فيدخل فيليب ويحمله إلى مدخل القصر ويوصله إلى عربته إلى دير قريب.
قضى صاحبنا في الدير الجديد أياما اندملت فيها جراح ذراعه ولكن ما تزال جراح قلبه دامية. وأخذ بعد أن استرد قسما من عافيته يتردد على جبل منيف يطل من مسافة بعيدة على قصر أولالا. كان يجد عزاء كبيراً في الجلوس على قمة ذلك الجبل.
وكثر تردده على ذلك المكان، وكانت في قمته صخرة وجد الراحة والعطف في قلبها الجلمود. . . واستغرق في أحد الأيام في ذهول عاطفي جعله كالميت لا يتأثر مما حوله ولا يحس بوجود نفسه وفتح عينيه فجأة وحملق. . وعاد إلى وعيه فرأى. . وحسب نفسه في حلم. . ولكن التي يراها أولالا. . أولالا جاءته بنفسه تبتسم إليه. . لقد تلاقيا. . عجبت أولالا من رؤيته في تلك القمة - ولكنها كانت تعرف ذلك وتعمدت المجيء - وتظاهرت بالعتب عليه لبقائه قريباً منها حتى ذلك الوقت وقالت له إن قصة حبهما قد تحث بها القاصي والداني وأن الناس قد نذروا قتله وقتلها. وجثت على الأرض واستغرقت في صلاة عميقة وهو يدعو الله أن يلهمه ويلهما الصبر والرحمة. وودعته بعد أن قالت له إنها راهبة، وقد وضعت حب الله بينه وبينها.
وعاد إلى ديره وقد أخذ اليأس من نفسه كل مأخذ: إنه لن يراها بعد اليوم.
لعمرك ما فارقت بغداد عن قلبي ... لو أنا وجدنا من فراق لها بدا
كفى حزناً أن رحت لم أستطيع لها ... وداعاً ولم أحدث بساكنها عهداً
المسيب - العراق
علي محمد سر طاوي
مدرس الإنجليزية في متوسطة المسيب