مجلة الرسالة/العدد 815/وحدة الوجود

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 815/وحدة الوجود

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 02 - 1949



للأستاذ نقولا الحداد

هذا الموضوع طرح على بساط البحث في هذه المجلة منذ أكثر من سنة، وتناقش فيه بعض الكتاب وتشعبت آرائهم فيه في نواحي مختلفة، وما استقرت على نظرية واحدة. واليوم عاد الأستاذ عبد العزيز محمد الزكي يبسطه ثانية عارضا فيه نظرية طاغور الهندوكي. وهي على حد قوله حجر الزاوية في الديانة الهندوكية كالتوحيد في الإسلام (والنصرانية أيضا).

وقد أفاض الأستاذ عبد العزيز في الموضوع في ستة أعمدة من المجلة، ولكنه بكل أسف لم يعرفنا المقصود من (وحدة الوجود). ومعظم ما ورد في مقاله مبهم قلما يستقر الذهن فيه على معنى.

والذي فهمناه من الوجود إن للفلاسفة فيه قولين: وحدانية الوجود وثنائية الوجود ? أما وحدانية الوجود فقد وضحت في فلسفة اسبينوزا وفحواها إن الكون كل واحد، وان كان مكونا من أجزاء، وانه يشمل، أو بالأحرى إن الله يشملهم. وبحسب هذه الفلسفة يكون الله موجودا في كل جزء من الكون، أو إن كل جزء من الكون يعبر عن الله. وبهذا الاعتبار فالله موجود في كل مكان.

وكذلك العقل الذي يدرك الكون (عقل الله مثلا وعقل الإنسان المنبثق من عقل الله بحسب فلسفة المطران بركلي) هو جزء من الكون لا ينفصل عنه والكون لا يوجد بدونه، فإذا لم يكن العقل موجود فالكون لا وجود له، وأن زعمنا إن الكون موجود على كل حال، فبأي عقل يوجد؟ وأي عقل يدركه؟ ما لا يوجد في الإدراك أو في عقل مدرك، فلا وجود له

أما ثنائية الوجود، فقد وضحت في معظم فلسفة الفلاسفة، وهي أن الكون موجود منفصل عن الله وعن العقل الذي يدركه؛ مرتبتان أي الكون المادي هو الكون العقلي، والمقصود بالكون العقلي الله وما أنبثق منه من العقول. وبهذا المعنى يكون الله ذاتية قائمة بذاتها مستقلة عن الكون المادي، وإنما هو بحسب رأي اللاهوانيين حال في كل ذرى من مواد الكون المادي، ولكنه ليس منه البتة

فإذا للوجود كونان: كون مادي وكون عقلي أو روحي، وهذا ليس من ذاك بل هو يدركه.

ومعظم الفلاسفة ثنائيون يعتقدون بثنائية الوجود. ولا أدري أي النظريتين تتفق مع طاغور والديانة الهندوكية، وكذلك لا أرى أي النظريتين توافق النصرانية والإسلام. إن هذا يتوقف على ماهية الله. والله في اللاهوت المسيحي روح (لا مادة) أزلي (وأبدي سرمدي) خالق كل شيء (من العدم) وقادر على كل شئ، وموجود في كل مكان وكل زمان، وعالم بكل شيء). وأظن هذا التعريف مقبول في الإسلام. وبحسب هذا التعريف يوافق الرأي الثنائي الإسلام والنصرانية، لأن الوحدانية تستلزم أن يكون الله خاضعا للإدراك البشري. أعني يستطيع العقل الإنساني أن يبحث فيه ويحلله، كما يبحث في الذرة ويحللها، ويفهم مقاصده من غير وحي وإلهام. وهذا لا يوافق الإسلام ولا النصرانية.

وأما كيفية مطابقة (الوحدة) للعقيدة الهندوكية فلم نفهمها جيداً من بحث الأستاذ الزكي واقتباسه نظريات طاغور. فمثلا لا نفهم قوله إن الله حينما امتلأ بالسرور فاضت منه الخليقة، فالكون عند طاغور هي الصورة التيس يتجلى فيها سرور الله الخ)

هذا كلام يحتاج إلى تفسير مستفيض إن كان تفسيره ممكنا. ثم قوله: (إن الإنسان لم يحصل على كماله الروحي إلى عندما يتلاشى شعوره بذاتيته ويدمجه في كل ما حوله من كائنات. وبغير ذلك لم يدرك أحد حقيقة وحدة الوجود). كيف ذلك؟

وهناك فقرات كثيرة من هذا الطراز لا نفهمها. عذرا يا أستاذ!

وقد اتفق بطاركة الفلسفة الأولون - سقراط وأفلاطون وأرسطو - على إن الله موجود مع الكون السرمدي منذ وجد هذى الكون (إن كان لوجوده بداية)، ولكنه لم يخلقه وإنما هو يديره.

هذه العقيدة أقرب إلى المعقول من غيرها، وتطابق نظرية ثنائية الوجود إذا اعتبرنا الله مجموعة من النواميس الطبيعية وعلى رأسها ناموس الجاذبية، فأما إن تكون الجاذبية هي الله نفسه أو إن الله ورائها ممسكها بيده يدير بها عوالم الكون، لأنه بحسب العلم الطبيعي نرى الجاذبية موجودة مع الأكوان منذ الأزل ومنبئة في كل ذرة من ذرات العوالم المادية وجميع حركات الذرات والأقمار والسيارات والشموس والسدم - كل هذه تتحرك في (الزمكان) (زمان مكان) بقوة الجاذبية تتحرك كيمياويا وحيويا وميكانيكيا، هي قوة قصوى موجودة في كل زمان ومكان، ولكنها لم تخلق العوالم من العدم.

هذه النظرية ممكن أن تتفق نع وحدة الوجود ومع ثنائيته أيضا - وما أُتيتم من العلم إلا قليلا.

نيقولا الحداد

2 شارع البورصة الجديدة - القاهرة