مجلة الرسالة/العدد 815/أحرف القرآن
مجلة الرسالة/العدد 815/أحرف القرآن
للأستاذ عبد الستار أحمد فراج
كان حق هذا المقال أن يسبق مقالات القبائل والقراءات ولكني أخرته عن عمد فلما رأيت من تعرض له ومن كتب من المحدثين فيه ومن استفهم عن معانيه كتبت هذا المقال.
معلوم لكل إنسان إن القرآن لم ينزل دفعة واحدة ولا في مكان واحد بل نزل منجما في ثلاثة وعشرين عاما بمكة والمدينة وما حولهما؛ وكانت الآيات ينزل بها جبريل عليه السلام على رسول الله ﷺ فيتلقاها المؤمنون من فم الرسول ويكتبها من عرفوا أنهم كتاب الوحي كما يمليها عليهم الرسول الكريم. وكان الإسلام في مكة محدود الأشخاص فلما هاجر النبي إلى المدينة اتسعت رقعة الإسلام وكثر عدد الداخلين فيه من قبائل مختلفة ولهم عادات صوتية تخضع لها ألسنتهم وتتحكم في ألفاظها، فكان من سماحة الإسلام أن يترك الألسن على سجيتها من إمالة وتفخيم وما شابه ذلك من طريقة أداء اللفظ بنغمة تخضع لها عادة الإنسان اللغوية حيث لا يمكنهم أن ينسلخوا منها بسهولة.
وهذه الإباحة أرشد لها الحديث المرفوع، اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتهم وفهمت من أن الرسول قرأ فأمال (يحيى) فلما سئل في ذلك قال هذه لغة الأخوال بني سعد.
أما حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف فلم يكن مقصود به اللهجات التي هي عادة لغوية تتحكم في عضلات النطق. وكل توجيه لهذا الحديث على انه يراد به لهجات القبائل، إنما هو توجيه خاطئ أو هروب خاطئ من معناه الحقيقي الذي تظاهره جميع الروايات الصحيحة لهذا الحديث
وآخر ما قرأته متعلقا به هو ما جمعه من عدة كتب الأستاذ عبد الوهاب حمودة في كتابه القراءات واللهجات وما حمله عليه الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه اللهجات العربية متبعا في ذلك رأياً لبعض العلماء - ولي نقد على كتابيهما أرجو أن انشره في الرسالة إنشاء الله - وقد كنت أحسبهما سيطلعان علينا في هذا الحديث - وهما أستاذان مساعدان في الجامعة - ولهما على أستاذية - بالرأي الواضح المستقيم، ولكن الأستاذ حمودة كانت مهمته عرض آراء ومحاولات التوفيق بينها دون أن يكون له مجهود يذكر.
والدكتور أنيس أختار أشهر التأويلات باعتبار أن الأحرف هي اللهجات كالإمالة والتسهي مع أنها في الحقيقة أضعف التأويلات وينافيها سياق الحديث. وقبل شرح المقصود منه أرى أن أربط بين الحوادث والأحاديث حتى يستقيم الفهم ويتبين الموضوع.
زمن الحديث:
لم أجد - على الرغم مما قرأت - من ذكر العام ولو على وجه التقريب الذي قيل فيه هذا الحديث فرأيت أن أراجع طرقه ورواته من الصحابة ومن ذكروا فيه، وظروفه فتبين لي ما يأتي:
1. ليس هناك شك في أن الحديث كان بعد الهجرة لأن فبه من الصحابة الذين رووه أو وقعت معهم الحادثة. أبا بن كعب وزيد بن ثابت وأم أيوب وهؤلاء أنصار من أهل المدينة.
2. إن هذا الحديث كان بعد العام الثامن للهجرة للأسباب الآتية.
(أ) من رواته أبو هريرة وقد أسلم سنة سبع للهجرة.
(ب) من رواته عمر بن العاص وقد أسلم سنة ثمان من الهجرة.
(ج) ممن ذكروا في طرق الحديث زيد بن ثابت على أنه أقرأ غيرهم، وزيد بن ثابت كانت سنه حين قدم الرسول المدينة أجد عشر عاما، ولا يكون زيد مقرئا لغيره إلا بعد أن يتجاوز حد الحلم وعلى أقل تقدير تكون سنه ليؤخذ عن القرآن في عهد الرسول سبعة عشر أو ثمانية عشر عاما.
(د) من رواة الحديث ابن العباس وهو قد ولد قبل الهجرة بثلاثة أعوام ولا يشترك في الرواية ولا يهتم بها إلا بعد أن يتجاوز العاشرة من عمره على الأقل ولا يتجاوزها إلا بعد سنة سبع للهجرة.
(هـ) وأقوى دليل وأثبته أن النزاع في القراءة بين عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم وقد أسلم هشام يوم فتح مكة وكان فتحها في العام الثامن الهجري أو في أواخر رمضان ولم يرجع الرسول إلى المدينة إلا في ذي الحجة فعلى أقل تقدير يكون الحديث في أوائل العام التاسع الهجري
(و) من الذين رووا الحديث من الصحابة أبو بكر نفيع ابن الحارث وقد أسلم في حصار الطائف، وقد كان ذلك في أواخر شوال وأوائل ذي القعدة من العام الثامن الهجري.
(ز) يضاف إلى هذه الأدلة القاطعة أن الحكمة التي قصدها الإسلام من الحديث والتي ستظهر لنا بعد الشرح كان وقتها المناسب حينما كثر المسلمون كثرة تجعل من العسير الإشراف عليهم جميعا ولم يكثروا إلا بعد فتح مكة.
وإذن لقد هاجر رسول الله واتسعت دائرة الإسلام وكثر الأتباع وقد مضى عليهم ثلاثة عشر عام في مكة وثمانية أعوام في المدينة يقرءون بعادتهم اللغوية فلم يصل إلينا إن بعضهم أنكر على بعض في القراءة أو شكى بعضهم في تلاوة الآخر. نعم لقد مضى على الإسلام والقرآن في مكة ثلاثة عشر عاما نزلت فيها بضع وثمانون سورة ثم ثمانية أعوام في المدينة نزل فيها كثير من السور فما حدث خلاف بينهم مع إسلام كثيرين ممن لهم لهجات مختلفة من إمالة وتسهيل وغير ذلك وما أتانا خبر عن تنازعهم الذي أدى إلى أن يلبب عمر هشام بن حكيم بردائه وهما قريشيان لهجتهما واحدة ويذهب به إلى الرسول ليستقرئه والى أن يدخل الشك في قلب عمر فيقول الرسول ثلاثا: أبعد شيطانا. وأن يدخل قلب أبى بن كعب من التكذيب ولا إذ كان في الجاهلية فيضرب الرسول صدره فيتصبب عرقا. . .
العرب أمة أمية أغلبهم لم يقرأ كتابا قط ومنهم - كما في الحديث - الشيخ الفاني ومنهم الغلام ومنهم العجوز الكبيرة وهؤلاء تعجز ذاكرتهم عن الحفظ الوثيق وبخاصة القرآن قد كثرت سوره وتعددت آياته والرغبة الدينية في النفوس قوية يحرصون على قراءة القرآن فلا تنزل آية إلا بادروا إلى استماعها وتلقيها. ولكن ما يكادون يمر علهم زمن حتى يشتبهوا أن يكونوا هذا اللفظ أو مرادفه هو المنزل وأكثرهم لم يكتبوه لأميتهم فيرجعوا إلى الرسول والى من كتبوه يستعيدون ما تلقوه ويتكرر ذلك والرسول يشهد ما هم فيه من معاناة وما يبذلوه من جهد، ويعلم - كما قال لهم - أن القرآن أشد انفلاتا من الإبل في عقلها ورأى أفراد الأمة بعد فتح مكة قد كثروا. فمن يرعاهم إذا اختلفت ألفاظهم ومن يردهم إذا نقصوا أو زادوا.
والرسول كما قال الله فيه بالمؤمنين رءوف رحيم يسعى إلى تخفيف عن الأمة ولا يريد أن يشق عليها فقد سأل الله من قبل أن يخفف عنهم الخمسين صلاة حتى صارت خمسة صلوات في اليوم والليلة. فلجأ الرسول ﷺ إلى الله يسأله التخفيف عن أمته والرحمة بها (إني بعثت إلى أمة أميين منهم الغلام والخادم والشيخ الفاني والعجوز الكبيرة) (فأتاه جبريل فقال إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف واحد فقال الرسول أسأل الله معافاته ومغفرته سل الله لهم التخفيف فأنهم لا يطيقون ذلك فأنطلق جبريل ثم رجع فقال إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين قال الرسول أسأل الله معافاته ومغفرته رب خفف عن أمتي فأنهم لا يطيقون ذلك فانطلق جبريل ثم رجع فقال إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك على ثلاثة أحرف فقال أسأل الله مغفرته ومعافاته إنهم لا يطيقون ذلك سل الله لهم التخفيف فانطق ثم رجع فقال إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف فمن قرأ منها بحرف فهو كما قرأ ما لم تختم آية رحمة بعذاب أو آية عذاب برحمة).
لقد جاءت رحمة الله وصدر الإذن بأن يقرأ القرآن بحروف مختلفة والسبعة لا مفهوم لها بل هي دليل للكثرة يعلمه جبريل الحروف وهي الألفاظ وأداء الجملة - كما تؤيد ذلك اللغة - على شريطة ألا يتغير المعنى ولا يختلف السياق فبدأ الرسول يلقن الصحابة ما انزل الله عليه، هذا يلقنه الآية بألفاظ وذلك يلقنه الآية بالألفاظ مع اختلاف في بعضها وإن كان المعنى واحدا. لقنه كل هذا جبريل بأذن من الله العزيز الحكيم (فأيما واحد أصاب من ذلك حرفا فهو كما قرأ)
فغدا المسلون وقد حفظوا ما لقنهم فدخل عمر بن الخطاب المسجد فسمع هشام بن حكيم وهو قريشي مثله يقرأ سورة الفرقان بخلاف ما لقنه الرسول فكاد يساوره في الصلاة فصبر حتى أسلم فلما أسلم لببه بردائه وقال له من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأها قال أقرأنيها رسول الله ﷺ فقال كذبت فو الله أن رسول الله لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها فأنطلق يقوده إلى الرسول فقال يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها وأنت أقرأتني سورة الفرقان فقال الرسول أرسله يا عمر اقرأ يا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعه عمر يقرأها فقال الرسول هكذا أنزلت ثم قال الرسول أقرأ يا عمر فقرأ القراءة التي أقرأها الرسول فقال الرسول هكذا أنزلت فوقع في صدر عمر شيء فعرف النبي ﷺ ذلك في وجهه فضرب صدره وقال أبعد شيطانا أبعد شيطانا أبعد شيطانا ثم قال يا عمر إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فأقرءوا ما تيسر منها إن القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذاب أو عذاب رحمة)