مجلة الرسالة/العدد 814/ما دمت أنت معي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 814/ما دمت أنت معي

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 02 - 1949



للأستاذ إبراهيم محمد نجا

ما دمت أنت معي، فلست بآسف ... إن فاتني شيء من الأشياء

حسبي من الدنيا جمالك مونقاً ... متفرداً بالسحر والإغراء

وشبابك الداني القطوف، وإن يكن ... أنأي على غيري من الجوزاء

وربيعك البكر الذي لم تأته ... رؤيا خريف، أو خيال شتاء

وهوى بقلبك قد تفيء ظله ... قلبي، ففاز بلذة النعماء

يا روح أحلامي الذي استودعته ... حبي، وكامن لهفتي، ورجائي

يا سر أشواقي الذي ناديته ... منذ انتفضتُ، بمهجتي ودمائي

يا نبع إلهامي الذي غنيته ... فشدا، وبارك فرحتي وغنائي

وبكيت فانتفض الحنان بقلبه ... دمعاً يواسي أدمعي وبكائي

يا نور أيامي الذي وافيته ... فانساب فجر منه في ظلمائي

أنت التي جعلت شبابي جنة ... قد أيعنت بربيعك الوضاء

شرب العبير بها - فطار مرنَّحا - ... خمر السنا، وسلافه الأنداء

الطير في أفنائها مترنم ... والزهرير قص فوق صدر الماء

والنسمة العذراء تجعل خطوها ... نغماً، ككل مليحة عذراء

أنت التي ملأت حياتي فرحة ... غنى بها قلبي أرق غناء

أنت التي ألهمتني شعر الهوى ... حتى سموت به على الشعراء

كنا معاً طفلين لا ندري الهوى ... إلا حنيناً مبهم الأصداء

ومضى الزمان بنا يصوغ شبابنا ... في قدرة وبراعة وخفاء

حتى انتفضتُ على صبابة آدم ... وأفقتِ أنت على هوى حواء

فعرفت أن الحب أشعل في دمي ... لهباً، وشب النار في أحنائي

وسألتني عن سره ببراءة ... فأجبتُ: تلك طبيعة الأحياء!

ومضى الزمان بنا، فكان زماننا ... سحر الحياة وروعة الأشياء

وعلى يديك شربت من خمر الهوى ... ناراً تحنُّ لمسها أعضائ كان الحياء يذودني عن شربها ... حيناً، وحيناً لا يذود حيائي

وعلى يديك شربت من خمر الهوى ... نوراً أطير به إلى العلثاء

وعلى يديك عرفت أسرار الصبا ... عند اللواتي هن سر بقائي

كم ذا تلاقينا، فكان لقاؤنا ... من لوعة الحرمان خير شفاء

نجني ونقطف ما نريد ونشتهي ... في غفلة عن أعين الرقباء

ونظل نبدع ما نشاء من المنى ... في ظل تلك الجنة الفيحاء

حتى إذا حان الفراق تفجرت ... في القلب نار كآبتي وشقائي

ومضيت عنك، وملء نفسي لوعة ... أخفي ظواهرها على قرنائي

وبمقلتيك مدامع حيرانة ... بين الظهور، وبين الاستخفاء

وعلى يديك ضراعة ملهوفة ... كضراعة الظمآن في الصحراء

أحيا بعيد الدار، يملأ عالمي ... جَزَعُ النوى، وكآبة الغرباء

تهفو إليك نوازعي ومدامعي ... فيردها هذا المدى المتنائي

وأراك في قلبي خيالاً ماثلاً ... يبكي معي في وحدتي الخرساء

وأراك في أفق الخيال حمامة ... حامت على نبع من الأضواء

فيكاد يقتلني الحنين، وقد مشى ... ناراً على كبدي، وفي أحشائي

ويظل يحلم باللقاء وعطره ... قلبي، ولكن لات حين لقاء!

ومضى الزمان بنا، فجمع شملنا ... في عشنا المتألق الأجواء

نحيا به إلفين في ظل الهوى ... وعلى رُبا جناته الخضراء

تتألق الآمال ملء شبابنا ... كتألق الربوات في القمراء

وترفرف الأفراح في أيامنا ... مثل الفراش بروضة غناء

حتى إذا ذهب الشباب، وملؤه ... وهج الحياة، وجذوة الأهواء

وبدا الشتاء كأنما ثارت به ... أيدي الزمان، فضج بالأنواء

ُلذْنَا بدفء من حنان خالص ... ومودة روحية وإخاء

وبذكريات عذبة تحي لنا ... لذات أيام الشباب النائي

تُظل أيامُ المشيب حياتنا ... بسعادة رفافة الأفياء وبألفة نسج الزمان خيوطها ... من روحنا في قوة ومضاء

فنظل طول العمر يغمر حبنا ... أيامنا بسكينة وصفاء

حتى إذا انقضت الحياة. . . حياتنا ... ودعا الفناء بنا على استحياء

طرنا معاً في عالم نحيا به ... روحين من أرواحه السعداء

أيامنا فيه ربيع دائم ... وشبابنا فيه لغير فناء

(الإسكندرية)

إبراهيم محمد نجا