مجلة الرسالة/العدد 814/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 814/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 02 - 1949



عالم الذرة

للأستاذ نقولا الحداد

أشكر عظيم الشكر لحضرة الأديب الأستاذ كامل محمود حبيب نقده في الرسالة لكتابي (عالم الذرة). وقد استهله بكلمات تقريظ بقصد أن يخفف من لوعة النقد. وكان ينقده باعتبار أنه ثقة في الموضوع. وسرني جداً النقد لأنه ينبهني إلى مواضع الخطأ اللهم إذا كان صواباً ولكن. . .

يقول الأستاذ (أنت في كتابك أردت أن تكون معلماً ولكن. . .)

لا يا سيدي ما كنت إلا تلميذاً أبسط لأساتذتي من أمثالك الدرس الذي تعلمته. ولكن يظهر إني لم أحسن البسط.

وقد أعطاني حضرته ستة نماذج لفصول كتاب كان يتمنى أن تكون فصول كتابي؛ لأنه رأى فصول كتابي الأولى مضطربة. وأنا أرى أن النماذج التي أقترحها جديرة بأن تكون فصول كتاب سيؤلفه هو إن شاء الله، أو أنها مرسومة في ذهنه. وحضرته يعلم أن لكل مؤلف طريقة في تبويب كتابه وتفصيله مستوحاة من دراسته وبغيته في التأليف.

وأما أنا فقد حللت الذرة التي كان يظن أنها بسيطة لا تقبل التجزئة إلى ضلعيها الإلكترون والنواة. ثم حللت النواة إلى أضلاعها البروتون والنيترون والبوزيترون إلى آخره. ثم حللت هذه الأضلاع إلى فوتونات. فلا أفهم كيف يكون هذا التحليل اضطراباً. أترك الحكم إلى القراء.

أما ذكري أن الطاقة والمادة شيء واحد وإيرادي فصلاً بشأنه في آخر الكتاب كملحق له فله سبب، وهو أني ذكرت في مقال في المقتطف أن المادة والطاقة شيء واحد، فشجب هذا القول كاتبان من القدس ومن السلط فرددت عليهما بهذا الفصل ثم انتهزت هذه الفرصة لأنقل هذا الفصل إلى كتابي كتأييد للفصل الرابع في الكتاب وهو فصل عن الطاقة والمادة.

والآن أنتهز هذه الفرصة للاستشهاد بما ورد بهذا الصدد في الفصل الأول من كتاب وزارة الحربية الأمريكية بعنوان (الطاقة الذرية) وهو بنصه: (الطاقة لا يمكن أن تخلق من العدم ولا أن تفنى من العدم، بل يمكن أن تتحول شكلاً. . .) ثم (لقد اكتشفت أخيراً أن الطاقة يمكن أن تتحول إلى مادة، والمادة إلى طاقة) والمعنى أن المادة والطاقة شيء واحد يختلفان شكلاً.

وأما سكوتي عن النقط الفنية التي وردت الإشارة إليها في صفحة 68 من الكتاب، فسببه أن البحث فيها يستلزم رسوم آلات وعدداً يتعذر فهمها على القارئ ما لم وافقاً أمام الآلات والعالم الفني يفسرها له. والتمادي في دراستها يصل إلى نقط محظور الاطلاع عليها لأنها من أسرار القنبلة الذرية التي يدور النقاش بشأنها بين بعض الدول، وبالطبع لست أنا ممن يدركون هذا الكنه، فلا أبحث فيما أجهله.

بقي أن أرد على الأستاذ في (الهنات) التي صححها وأريه أنه خطأ الصواب فيها.

أنتقد ترجمتي بالجو المغنطيسي وصححه بالمجال المغناطيسي: وأنا في جميع كتاباتي العلمية أستعمل الجو بدل المجال؛؟ لأني أرى أن استعمال المجال خطأ محض، لأن المجال سطح ذو امتدادين طول وعرض فقط، والمغنطيسية (والكهربائية أيضاً) تتوزع في حيز ذي ثلاثة امتدادات: طول وعرض وعمق، وهي امتدادات الجو لا امتدادات المجال. فالجو أصح والمجال خطأ وعلى المجمع اللغوي أن يقرر ترجمتي إن رام الصواب.

وينتقد الأستاذ ترجمتي بالقوة الدافعة المركزية. وهو يصححها أو بالأحرى يغلطها بقوله (القوة الطاردة المركزية) وبين الدفع والمطرد بون عظيم. الطرد هو الإقصاء عن المركز إلى اللانهاية. والقوة الدافعة المركزية هي القوة التي تحفظ الجرم المدفوع في البعد الذي تقتضيه القوة الجاذبة بحيث لا يهبط إلى المركز ولا يشرد عنه. فإذا قذفت قذيفة بقوة أضعف من قوة الجاذبية تنقذف إلى مدى القوة التي قذفتها ثم تهبط نحو المركز. ولكن إذا كانت القوة الدافعة (لا الطاردة) تعادل القوة الجاذبة (بسرعة نحو 5 أميال في الثانية على الأرض) فالجرم المقذوف لا يهبط إلى الأرض نحو المركز ولا يشرد في الفضاء بل يبقى دائراً حول الأرض كأنه قمر ثان له. فانظر ما أعظم الفرق بين الدافعة المركزية والطاردية المركزية! أما عن الجرافيت فتفسير الأستاذ له لم يزده بياناً؛ فما هو إلا فحم حجري مضغوط كما قلت والفحم كربون على كل حال بقي أن الأستاذ لم تعجبه المعادلة:

كتلة سرعة=زخماً بل يصر على أن تكون عزماً بدل زخم. ولو كلف خاطره أن ينظر في أي معجم من معجمات اللغة لرأى بين عزم وزخم بوناً شاسعاً.

الزخم هو الدفع أو الاندفاع بشدة.

والعزم هو توطين النفس على العمل أو الفعل، أو هو القصد أو الإرادة، وليس معنى من هذه المعاني هو المعنى المقصود بشدة الاندفاع أو الدفع. فالعزم هنا خطأ محض كما يرى القارئ.

ثم لم يعجبه القول أن السرعة هي مدى انقذاف مقدار من الكتلة في الثانية، بل يصححها بقوله أما سرعة جسم متحرك هي معدل إزاحته في ثانية. وللقارئ أن يحكم أي القولين أصح. ألا يصح فيه قول القائل (وفسر الماء بعد الجهد بالماء).

كنت أود أن تكون نقدات أستاذنا كامل وجيهة لكي أستفيد منها، فإذا هي نقدات ناقد نواها منذ شرع يطالع الكتاب. وعلى كل حال أشكر له اهتمامه وأتمنى أن يأتينا بكتاب من قلمه في هذا الموضوع العويص فنتعلم منه ما لم نعلمه.

نقولا الحداد

م ش البورصة الجديدة القاهرة

الملك أوديب

تأليف الأستاذ توفيق الحكيم

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

وأخيراً تناول الأستاذ توفيق الحكيم بأسلوبه البارع في القصة والحوار مسرحية الملك أوديب، بعد أن تناولها قبله تسعة وعشرون مؤلفاً، من سنة 1614م إلى سنة 1939 هـ، وهي مسرحية قديمة ألفها سوفوكليس اليوناني، ليصور فيها الصراع بين الإنسان والقدر، على نحو ما كان يذهب إليه اليونان من عقيدة المحتوم.

وتتلخص هذه المسرحية في أن لايوس ملك طيبة تزوج فتاة تسمى جوكاستا، وقد رزق منها طفلاً هو أوديب، فجاء إليه ترسياس العراف الذي كان يدعي الوحي من السماء، فأخبره بأن هذا الطفل إذا كبر يقتله ويستولي على ملكه، وأشار عليه بقتله وهو في المهد، فأعطاه هو وجوكاستا راعياً لهما ليقتله. فلما ذهب به ليقتله لم يطاوعه قلبه على قتل طفل بريء، فأعطاه راعياً آخر ليذهب به إلى بلده ويتخذه ولداً، فذهب به ذلك الراعي إلى بوليت ملك كورنت وزوجته ميروب، فتبنياه وربياه في قصرهما إلى أن كبر، ولكنه علم أنه لقيط، فلم تقبل نفسه أن يقيم مهما بعد علمه بذلك، ففر من قصرهما ليبحث عن حقيقة أصله فألقى به القدر إلى طيبة، وكان لايوس قد خرج من طيبة في حاشية له، فزحم أوديب مركبة لايوس عند مفترق الطرق بين دلف ودوليا، وقام شجار بينه وبين الحراس من الحاشية، فتغلب عليهم وقتلهم، وأصابت ضربة منه رأس لايوس فقتلته وكان في الحاشية ذلك الراعي الذي أعطاه لايوس أوديب ليقتله، ولم ينج غيره من الحاشية. فأشيع أن جماعة من اللصوص خرجوا على لايوس فقتلوه، وكانت جوكاستا لا تزال في عنفوان شبابها، وكان لها أخ يسمى كريون، فجعلوه وصياً على العرش، وهنا ظهر وحش خارج أسوار طيبة له وجه امرأة وأجنحة نسر سماه أهلها أبا الهول، وكان كل من تخلف منهم خارج الأسوار بعد الغروب يلقي عليه لغزاً ليحله فيعجز عنه ويقتله، حتى أهلك عدداً كبيراً منهم، فاتفقوا على أن يمنحوا عرش طيبة لمن ينقذهم منه، ويزوجوه جوكاستا، وكان أوديب هو الذي أنقذهم من ذلك الوحش لأنه قدم عليه فسأله عن لغزه: ما هو الحيوان الذي يمشي في الصباح على أربع، وفي الظهر على اثنتين، وفي المساء على ثلاث؟ فأجابه بأنه الإنسان، لانه يحبو في صغره على يديه ورجليه، وفي الكبر يستوي ماشياً على قدميه وعصاه، فأعطوا أوديب عرش طيبة وزوجوه جوكاستا وهو لا يعلم أنها أمه، كما قتل لايوس وهو لا يعلم أنه أبوه وقد قضى معها عيشة طيبة ورزق منها بأولاد ولكن هما كان يثقله من جهة أصله الذي خرج من كورنت يبحث عنه، فكان يهمه أن يصل إلى معرفة حقيقة أصله، وفي معرفته القضاء على هناءة عيشه هو وزوجته لأنها أمه وأولادها إخوته، وهنا شاء القدر في قسوته أن يوصله إلى حقيقة أصله فيسلط طاعوناً على أهل طيبة، ويعجز أوديب عن إنقاذهم منه كما أنقذهم من ذلك الوحش فيرسل كبير الكهان كريون أخا جوكاستا إلى معبد دلف ليسأل الآلهة عما يفعلونه ليرفع غضبه عنهم فيجيبه الإله بأن سبب هذا الغضب إثم يدنس طيبة بدم الملك لايوس ولا مفر من غسل الدم بالدم، ويخبره بأن قاتله هو أوديب، ثم يسوق القدر القاسي الحوادث بعضها إثر بعض، إلى أن يبين لأوديب الحقيقة التي سعى وراءها فإذا هو قاتل أبيه لايوس وإذا هو زوج أمه جاكوستا، وإذا هو أخو أولاده منها، ويثقل وقع الحقيقة على جاكوستا فتذهب إلى حجرتها هرباً منها، ثم يجدونها تتدلى في هوائها معلقة بحبل في عنقها، وقد ماتت مختنقة به، ويراها أوديب كذلك فيبلغ مصابه غايته، ويتنزع مشابك ثوبها الذهبية فيطعن بها عينيه ليبكيها بدموع من دم، ويزال الدم يسيل من عينيه إلى أن يذهبا وتنتهي بهذه الفجيعة تلك المسرحية، وقد تصرف الأستاذ توفيق الحكيم في نقلها إلى العربية ليجعل منها مسرحية توافق البيئة العربية الإسلامية، فلا تكون محض جبرية كما كانت في أصلها اليوناني بل لسعي أوديب في الوصول إلى الحقيقة أثر في مصيرها ليكون القدر فيها وسطاً بين الجبر والاختيار، كما قال أبو حنيفة: إني أقول قولاً متوسطاً، لا جبر ولا تفويض ولا تسليط، والله لا يكلف العباد بما يطيقون، ولا أراد منهم ما لا يعلمون ولا عاقبهم بما لم يعلموا ولا سألهم عما لم يعلموا ولا رضى لهم بالخوض فيما ليس لهم به علم والله يعلم بما نحن فيه وقد أصاب الأستاذ الحكيم في توجيه مسرحية أوديب هذا التوجيه ولكني أخالفه في أن أوديب سوفو كل بلغت الكمال الفني أوجه بعد مفخرة للذهن فهي ألاعيب كهان وثنيين لا يسمون إلى حقيقة القدر، لانه أسمى من أن يقدر هذه الألاعيب من أولها إلى آخرها ليلهو بها أولئك الكهان وينصبوا ويعزلوا بها ملوكهم ويوقعوا المصائب على شعوبهم وما كان أحرى الأستاذ الحكيم أن يوجه المسرحية إلى مشف هذه الألاعيب لتوافق البيئة الإسلامية موافقة كاملة ولتنتهي إلى تلك الفجيعة التي لا تستسيغها عقليتنا ولا ترى في قتل أوديب لأبيه من غير عمد ولا في زواجه بأمه من غير علم شيئاً يوجب هذا المصير المؤلم، كما لا يوجب ذلك الطاعون الذي أصاب أهل طيبة وهذا إلى أنهم لم يكن لهم يد في ذلك القتل.

وأين القدر في هذه المسرحية من القدر في أمر موسى وفرعون؟ ولعل هذه المسرحية مأخوذة من قصتهما مع الفارق الكبير بينهما فقد أراد القدر أن يربي فرعون موسى ليقتله من أجل غاية سامية، فلما أخبر فرعون كهنته بأنه سيقتل بيد مولود إسرائيلي عمد إلى قتل كل مولود يولد لبني إسرائيل ولكن القدر الإلهي غلبه على أمره وجعله يربي ذلك الطفل الذي سيكون هلاكه على يديه ومع هذا لم يجعل هلاكه على يديه إلا بعد أن أعذر إليه ليكون هلاكه عقاباً له يستحقه، ولاشيء من هذا كله في مسرحية أوديب وإنما هي ألاعيب كهان جهلة يستغلون جهل الشعوب ويلعبون كما يشاء لهم جهلهم بمصيرهم.