مجلة الرسالة/العدد 813/أنانية مجرب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 813/أنانية مجرب

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 01 - 1949



للأستاذ ثروت أباظه

صاحبي شاب رقيق العاطفة، جياش الحس، يلذ له أن يقف منك موقف الناصح، ولكنه إذا فعل سار على نهج لا تكلف فيه حتى لا تملك تلقاء حديثه إلا أن تعيره الأذن الواعية والروح المقبلة. وأنت حبيب إلى نفسه، مقرب إليها، إذا قبلت منه نصحه. وأنت أكثر حبا إلى نفسه وأكثر قربا منها إذا ظهرت أمامه خاليا من التجاريب مقبلا على دنياك إقبال الطفل، إنه إذ ذاك يفرح أن جرب هو ولم يجرب من هو أكبر منه، وأن يقف هو إلى هذا الأكبر موقف الناصح المرشد الذي خبر من الماضي ما يكشف به عن القابل.

لعلي بهذا الوصف أكون قد ألقيت الضوء على عيبه الواحد. فإنك لتراه بعد هذا شفيف الروح، مهذب اللفظ، مرح الدعابة واسع الإطلاع دقيق اللفتة، أما عيبه الذي ذكرت فأمره على يسير. إن صلتي به توثقت حتى لا يزيفها غش أو توهنها مصارحة؛ فتراني إذا نصح ناقشته مقبلا على النقاش في غير ضيق فقد مرن مني على هذا الأمر حتى أصبح بعد لكل نصيحة نقاشا، ولكل حكمة اكتسبها من نثار تجاربه حججا وبراهين وأمثالا. وأنا مع ذلك حبيب إلى نفسه مقرب إليها لا يمل نقاشي ولا أمل نصائحه.

أقبل يوما على مجلسنا تعلو وجهه سمات الجد والرزانة فعرفت أن حالة النصيحة قد أدركته وأنه يريدني على أن أسمع بعضا منها؛ وكم أكون كريما لديه لو سمعتها جميعا. . . عرفت هذا فانتحيت به ناحية وقلت:

- مالك؟

- إسمع، لقد أثبتت تجاربي أن كل الناس أشرار. . وأنه يجب على الإنسان أن يقبل على أصدقائه شاكا في ولائهم، حذرا من شرهم، فليس في الناس صديق، وليس فيهم إلا الخؤون، وإنك إذا توقعت منهم الخير ثم فجئك دكت الواقعة من كيانك مهما تفهمت، أما إذا توقعت الشر ثم طالعك الخير فإن ذلك يفرحك، ولكن حذار مع هذا أن تأمن الجانب وتطمئن فقد يمهد الخير للشر كما يمهد الدفء للحريق. . إبق على شكك وحذرك فالكل شرير.

- حسبك. . حسبك فإنني أرى النوبة قد عادتك، ولكنك في هذه المرة على غير مألوفك الأدب؛ فها أنت ذا ترميني في وجهي بالشر وسوء الطوية. . ألست واحدا من أصدقائك الأشرار؟ بل إنك لتزيد فتزيدني أن أظن بك السوء بلا موجب أراه أنا! ولكن أتريدني حقا أن أصدقك؟ أجاد أنت فيما تقول! أمشي مع الناس فلا أرى غير الشر ولا يخالجني غير الحذر والخوف! أي تجارب تلك التي أوحت إليك بهذه الشرور؟ أو تكون مجربا حقا إذا فعلت هذا؟ ما أسهل هذا الأمر وما أصعبه! إن المجرب يا صديقي - في رأيي - هو الذي يعرف معايير الناس ويزن كلا بميزان. . يمدحه أحدهم فيصل إلى باعث هذا المديح. . ففي الناس من يبذل المدح ثمنا لخدمة له عندك. ومنهم من يبذله ثمنا لمديح مثله. ومن الناس من يمدح رغبة منه في المجاملة، ومنهم الصادق في مدحه، وهذا هو النوع الأمين النادر، إنك لواجده صادقا في نقده أيضا إذا نقد. . المجرب هو الذي يفرق بين كل هذه الأنواع، والمجرب هو الذي يعطي لكلمن هؤلاء مكانه الحقيق به من نفسه، أما إذا سويت بينهم جميعا ورميتهم كلهم بالشر. فأنت غر لا تعرف الناس، ولم تجربك الأيام ولا جربتها. يعز عليك أن تقتنع. . أعلم ذلك، ولكن بربك ما الذي بعث في نفسك كل هذه الثورة؟ هل من جديد؟

- الجديد هو معرفتي أنني الغيري الوحيد بين هؤلاء الناس. أنت تعرف صديقنا فلانا، كنت أؤثره وأحبه، توطدت بيننا الصداقة فأصفيته ودي، لكنه عرف أنني مقدم على مشروع تجاري فسبقني إليه، واستعان بسلطان كبير أطاح من يدي الفرصة إلى يده. . . أرأيت أنانية كتلك الأنانية؟!

- نعم. . رأيت أكثر منها.

- أين؟

- أنانيتك أنت. . . أنك - والحمد لله - لا تعرف عن التجارة شيئا وهي مهنته. وأنت - والحمد لله - في بسطة من رزقك وبحبوحة من عيشك، وهو يسعى وراء رزقه ويشقى في سبيله لماذا تعترض طريقه؟

- ولكنني صديقه، كان يجب أن يستأذنني.

- أو كنت تأذن!. يا صاحبي إنني أنا وأنت وكل إنسان في العالم أناني بطبعه، أنك لترى الأنانية في كل خطرة ينشغل بها ذهنك، وفي كل خلجة يختلج بها قلبك. . إن الخير في ذاته نوع من الأنانية. إنك إذ تقوم بذلك الخير ترجو شيئا من شيئين: إما ذكرا طيبا في الدنيا، أو مثوى كريما في الآخرة وأنت على الحالين أناني قد يسمو بك شعورك فتفعل الخير ترضى به نزعة في نفسك، وأنت في هذه الحال أيضا تنظر إلى نفسك فتريحها بعمل الخير. . لن تقتنع. . أعلم ذلك ولكنه الحق. وتريد صاحبك على أن يترك قوته لك حتى لا ترميه بالأنانية. . . إنه أناني ولكن دعه يأكل والله ما الأناني إلا أنت.

- ألا تشعر بأنك تمزج. . أتسوي بين التناحر وعمل الخير. . أإن منعني صديقي عن كسب موشك كان في عمله مثل من يقوم بالمعروف. وتدعى بعد هذا انك تعرف المجرب وغير المجرب وتبيح لنفسك أن تلغى هذه المحاضرة الطويلة عن التجربة

- قلت إنك لن تقتنع. . ولكن يجب أن أصح ما قام بذهنك. . لا. . أنا لا أسوي بين العملين لكنني أرى في كل منهما أنانية وإن تفاوتت نسبتها. . إن في كل منهما صورة من الأنانية تختلف قبحاً وجمالاً. . ألا ترى. .

لم يطمئن صدقي أن يصبر أكثر من ذلك ولم تسعفه الحجة فقام عني مغضبا دون أن يسلم، ويعلم الله أين مكاني من نفسه الآن. . ولكنني ما زلت أعتقد أنني حبيب إليها قريب منها.

ثروت اباظه