مجلة الرسالة/العدد 813/أساليب التفكير:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 813/أساليب التفكير:

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 01 - 1949



التفكير في الشرق القديم

للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي

كل منا يسعى إلى استكناه أسرار الوجود، وكشف الستر عن خباياه، تتتابع على مشهد منه ظواهر الطبيعة، وتتوالى إمام ناظريه مواكب الأحياء وتتري تحت سمعه وبصره أحداث الإنسان: فيعمل الفكر بغية اكتشاف أسباب هذه الأمور، والبواعث التي تحدثها وتسيرها والغايات التي تتجه إليها والحكمة الكامنة وراءها. وجملة القول أن الإنسان يحاول تفسير ما يبصر وما يسمع وما يعي، وتختلف تفسيراته تبعا لتقدمه الفكري ومرتبته من التطور العقلي.

من أجل ذلك اختلفت تفسيرات الطفل عن تفسيرات الراشد المكتمل، وتفسيرات المجنون عن تفسيرات العاقل المتزن، وتفسيرات البدائي عن تفسيرات المتمدن المتحضر. اتفق الجميع على أمر واحد: هو البحث عن الحقيقة ما امتدت بهم أسباب الحياة، ولكنهم يسلكون سبلا ثلاثا أقصرها وأسلمها سبيل العلم، وأرحبها طريق الفلسفة وأدناها وأكثرها التواءودورانا حول الحقيقة طريق التفكير الخرافي.

وقد حدثت القراء في مقال سابق عن التفكير الخرافي في حياة الفرد، وانتهيت معه إلى أنه برغم بعده عن الحقيقة الموضوعية وانحرافه عن القصد في محاولة بلوغ الواقع، يعد وثبة أولى في طريق العلم والعرفان، ومحاولة ساذجة لكشف أسرار الوجود ومرحلة لازمة في التطور الفكري لا بد مسلمة إلى ما هو أرقى: إلى الفلسفة والعلم.

والبشرية في تطورها الفكري كالفرد في تطوره الفكري. لم تكشف عن قوانين الجاذبية، ومدار الأفلاك، والقوة الكهربائية، والطاقة الذرية، إلا بعد جهاد عنيف، وكفاح فكري شاق دام آمادا طوالا، ومحاولات مضنية كان أولها التفكير الخرافي الذي يسم العقل البشري في طفولته. فالتراث الفكري الذي خلفته أجيال البشر يبين أن أول مرحلة من مراحل التفكير كانت مرحلة دينية صرفة يمتزج فيها التفكير بالخيال.

ونحن نعلم أن الفكر الإنساني بزغ أول ما بزغ في الشرق القديم: عند المصريين والفرس والآشوريين والبابليين والهنود والصينيين. ونظرة عامة إلى ما خلف هؤلاء من محاو تفسيرية نكشف عن غلبة العاطفة الدينية، وسيطرة التقاليد الموروثة، والجنوح إلى الخيال.

ولا بد لتفكير يصدر عن الأهواء والعواطف، ويستمد المعارف من الخيال والأوهام، ويستهدف السعادة في الدنيا والآخرة، لابد لتفكير هذا شأنه أن ينتج عقائد دينية، وفنونا جميلة، وحكمة أخلاقية كل ذلك في مزيج واحد متفاعل لا فرق فيه بين علم وفن ودين وأخلاق، حتى لنجد علماء القرون الغابرة هم شعراؤها وحكماؤها وكهنتها في آن واحد.

ألا ترى إلى الكهنة المصريين في العهد الفرعوني يرعون الدين، ويحمون الفضيلة، ويحملون رسالة العلم، ويرفعون لواء الحكمة، ويوجهون سياسة الدولة، ويتحكمون في مصير الشعب؟ أو لم يكن شعراء العرب في بداوتهم، وشعراء اليونان قبل عصر الفلسفة قادة الفكر وقادة المجتمع في هذه الربوع؟ فامرؤ القيس والنابغة والأعشى وزهير في جزيرة العرب، وهوميروس وصحبه ممن طمست الأحقاب أسماءهم في بلاد اليونان.

وهل ننسى أن زراد شت حكيم الفرس كان داعية دينية لعقيدة تحمل بين ثناياها فلسفة ناشئة؟

وهل كان بوذا الحكيم الذي خلد في تاريخ الفكر بحكمته الأخلاقية وتحرره الفكري وآرائه السياسية، إلا كاهنا لإحدى القبائل الهندية الكبرى وابنا لشيخها؟

وجملة القول أن التفكير الخرافي في الشرق القديم يتصف بخصائص ثلاث: الخضوع لسلطان الدين أي التقاليد الموروثة المقدسة، والاتجاه الخيالي ومن هنا كانت صلته الوثيقة بالفن، والنزعة الأخلاقية.

وعلينا الآن أن نستعرض أمثلة من الفكر الشرفي القديم مبتدئين بالتفكير في مصر القديمة.

لم يكن للمصريين دين واحد، بل أديان عدة اختلفت باختلاف الأقاليم، وتطورت مع تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية في وادي النيل. وقد برزت الديانة المصرية القديمة كعامل هام في حياه الشعب، في عهد مشيدي الأهرام كخوفو وخفرع وأوناس، وفي عهد الملوك الغزاة كتحتمس الثالث وسيتي الأول ورمسيس الثاني.

والذي يهمنا في هذه الديانةهو تصور المصريين للكون، وسذاجة تفسيراتهم لأحداثه: فهذا أمنحتب الرابع، الذي عبد آتون (قرص الشمس) فسمي لذلك (أخناتون) أي روح آتون، ينشد مخاطبا قرص الشمس معتبرا إياه علة لظواهر الطبيعة، وقوة روحية تدبر الكائنات: (يا شمس النهار، يا من تخشاه البلاد القاصية

أنت موجد حياتهم

أنت الذي خلقت في السماء نيلا

لكي ينزل عليهم ولهم.

يتساقط الفيضان على الجبال كالبحر الزاخر

فيسقى مزارعهم وسط ديارهم.

ما أبدع تدابيرك يا إله الأبدية. . .)

هذا ولم يكتف المصريون بعبادة الشمس من حيث هي مصدر الحياة، وإنما قدسوا النيل، واتخذوا من السماء إلها، ومن الكواكب أربابا، كما يتبين من دعاء ورد في إحدى أوراق البردي ذلك نصه: (أنت الإله الأكبر، سيد السماء والأرض، خالق كل شئ، يا إلهي وربي وخالقي، قو بصري وبصيرتي لأستشعر مجدك، وأجعل أذني صاغية لأقوالك. .)

وهكذا يتبين تأليه المصريين لقوى الطبيعة بحكم بداوتها الفكرية، شأنهم في ذلك شأن الطفل: موضوعات الدين في ذهنه صور حسية خيالية، لم ترق بعد إلى المستوى العقلي التجريدي؛ الطفل الذي يميل بحكم طوره العقلي إلى أن يضفي على الكائنات جامدة كانت أو حيوانية صفاته الإنسانية؛ فيرى الشمس والقمر والنجوم حاصلة على صفات الكائنات الإنسانية، من قدرة وإرادة وفهم، المر الذي يجعله حينما يصطدم بحائط أو باب صدمة تؤلمه، ينهال عليه ركلا، مفرغا فيه حتفه كما لو كان الحائط أو الباب ذا إرادة شريرة وكما لو كان يحس الألم كما يحسه هو.

وهذا يذكرنا بأحد الأباطرة القدماء الذي انهال على مياه البسفور ضربا بالسلاسل لأنه اجترا فاكتسح أسطوله.

فسلوك المصريين القدماء إزاء قوى الطبيعة المعبودة، وسلوك الطفل إزاء الباب، وسلوك الإمبراطور الحانق على البسفور سلوك ناجم عن تصور خرافي للحوادث، وتعليل وهمي لها.

آمن المصري القديم بخلود الروح. ولا يسع من يستعرض مقابره ونقوشه ومعابده إلا أن يستوثق من سيطرة هذه العقيدة على ذهنه سيطرة أذهلته عن واقع الحياة، ومن شوقه المتحرق للعالم الآخر شوقا أطلق الخيال يجوب في آفاق هذا العالم المجهول، فيرسم صورة لحياة الروح بعد مغادرة الجسد، صورة هي لوحة فنية لا أثر للعقل فيها، ولا فضل للبرهان في تثبيتها، إنما الفضل كل الفضل للخيال الذي أنتجها، والعاطفة الدينية التي ألهمتها.

هذا (أوزوريس) الإله الصالح (رمز الخير والعدالة) يرأس محكمة العدل الكبرى، يجلس على عرشه في صدر قاعة يكلل سقفها القناديل وعلامات الحق، وأمامه أحفاده أبناء (حورس) وآلهة أركان العالم الأربعة، ومعهم اثنان وأربعون قاضياً، بعضهم برؤوس بشرية، وبعضهم برؤوس حيوانية، وعلى راس كل منهم ريشة نعامة رمزا للمعبودة (معت)، ممثلة الحق والاستقامة والعدل، وفي يد كل منهم سيف لقتل الخاطيء، ووظيفتهم ملاحظة ما يظهر في كفتي الميزان الذي يزن الحسنات والسيئات.

وإمام (أوزوريس) وحش مفترس متحفز لافتراس الميت إذا رجحت كفة خطاياه. ثم يقف الميت على باب قاعة العدل خائفا مرتعدا في الساعة الرهيبة التي يقرر فيها مصيره، ويترافع عن نفسه، ثم يصدر الحكم بالبراءة أو الإدانة؛ حتى إذا انتهت المحاكمة أمر (أوزوريس) بالفائزين إلى الجنة وبالخاسرين إلى الجحيم.

هذه أفكار الخلود والثواب والعقاب، كما يصورها كتاب الموتى تصويرا حسيا خياليا، دون برهان ودون تفكير عقلي خالص. . . إنما هي محاولة فكرية لمعرفة ما وراء الموت، ومصير المذنب ونهاية المحسن، محاولة استخدمت فيها الوسيلة الوحيدة التي يسمح بها ذلك الطور من النمو العقلي: طور الخرافة والعاطفة.

وما دمنا بصدد الحديث عن المذنب والمحسن، أو عن الخير والشر فلننتقل إلى (زرادشت)، أبرز حكماء الفرس، الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، وخلف دينا لا يزال له أتباع حتى اليوم في ربوع الهند وغيرها.

وقف زرادشت حائرا في عالم متناقض فيه الخير والشر، والجمال والقبح، والسعادة والشقاء؛ وأعمل فكره محاولا تفسير شطري الوجود فتصور العالم نهبا لروحين متصارعين: أورموزدا وأهريمان. الأول إله الخير، صانع السماء والأرض والبشر والملائكة الأبرار؛ والثاني إله الشر، علة الموت ومفشي الرذائل ومحدث الأمراض والشياطين. الأول يؤلف مع ملائكته وأتباعه الصالحين حزب الحق، والثاني يؤلف مع شياطينه والكفار المنافقين حزب الباطل. والحرب بين الحزبين سجال. ولكن زرادشت حكيم متفائل، يدفعه تفاؤله إلى تصور نهاية سعيدة للرواية الكونية، إذ يغلب الخير في النهاية ويصبح العالم كلا واحدا متجانسا إلى أبد الآبدين.

(البقية في العدد القادم)

عبد المنعم عبد العزيز المليجي