مجلة الرسالة/العدد 811/مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (2)
مجلة الرسالة/العدد 811/مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (2)
(1) النفس عند ابن سينا (2)
للأستاذ كمال دسوقي
حدثتكم في المقال السابق عن موضع دراسة النفس من العلوم عند ابن سينا، أعني أين يقع علم النفس من قائمة العلوم ولوحة المعارف عنده، وأين كان يعالجها في معظم كتبه؛ فربطتها لكم بما يسبقها من الأمور الطبيعية الكلية التي قلت لكم إنها دائما آخرها، وبما يتلوها من القول في الإلهيات؛ التي قلت لكم إنها تمهد لتناولها في نقطة (العقل الفعال). واليوم أحدثكم عن موضع النفس ذاتها من سلسلة الموجودات المادية والروحية، وصلتها بما فوقها وما تحتها - قبل الدخول في تفصيل قواها وملكاتها - فإن النفس تشغل في مذهب ابن سينا في الوجود مكاناً لا يقل دقة واطراداً عن المكان الذي رأيتم أن علم النفس يشغله في تصنيف العلوم العقلية عنده.
وحين نقول فإنما نعني بها ما كان يسميه أرسطو ما بعد فإن الإسلاميين قد حولوا هذا العلم لأرسطى إلى ما يرضي عقائدهم، ويؤيد إيمانهم؛ حولوا ميدانه إلى (النظر في الواحد ولواحقه بما هو واحد) أي النظر في الله الواحد والكثرة التي تنشأ عنه؛ لان كل موجود عند ابن سينا يصح أن يقال له في ذاته واحد (النجاة ص 98)، وكان أرسطو حين نظم هذا العلم وعرض فيه آراء سابقيه يحدد موضوعه بأنه (البحث في الوجود بما هو موجود) فلا يعترض عليه أن يبحث في الواحد ويدلل على الألوهية، بل يترك له تحقيق ذلك إن استطاع.
على أن مشكلة ابن سينا في هذا الصدد لم تكن إثبات الوجود، ولا واجب الوجود بقدر ما كانت مشكلة صدور الخلق عن الخالق، وكيف ينشأ هذا الوجود المتكثر - الذي لاشك في كثرته - عن الإله الواحد - الذي لاشك في وحدانيته؛ خصوصاً وأن الواحد عنده وفي مذهبه لا يصدر عنه إلا واحد، وواحد فقط؟
ولما كان مذهب أرسطو وحده لا يعينه على إثبات هذه النظرية لانتقاله من الكثرة إلى الواحد، ولما فيه من تفسير مادي عقلي قد يتعارض مع الدين - مما يتحاشاه كل فيلسوف متأثر بالدين، فإن مذهب أفلوطين كان أقرب إلى إثبات ذلك منه. وأفلوطين قد ذهب إلى أ الخلق يفيض عن الخالق، وأن الوجود يصدر عنه بمحض الجود. فيتبعه الإسلاميون في هذا، كما تبعوه في غيره؛ سواء من علم منهم أنه لأفلوطين - على اختلاف بينهم - فأوقعهم ذلك في القول بقدم العالم من حيث لا يشعرون.
ويذهب ابن سينا في ذلك إلى تصنيف الموجودات من حيث الجهة إلى واجب الوجود، وكل واجب أو ممكن فهو إما بذاته أو بغيره، ومن هذين التقسيمين الثنائيين مجتمعين تنقسم الموجودات إلى واجب الوجود لذاته، وممكن الوجود بذاته، ثم إلى ممكن بذاته واجب بغيره.
وواجب الوجود عنده - كما تجدون في المقالتين الأولى والثانية من إلهياته هو الوجود الذي متى فرض غير موجود عرض منه محال؛ أما ممكن الوجود فهو الذي إذا فرض غير موجوداً أو موجوداً لم يعرض منه محال. فالواجب الوجود هو الضروري الوجود، والممكن الوجود هو الذي لا ضرورة فيه بوجه - يعني في وجوده أو في عدمه - فليس وجوده أولى من عدمه إن انعدم، ولا العكس إن وجد، فهو الذي ليس ضرورياً ولا ممتنعاً. وواجب الوجود - كما قلنا - قد يكون واجباً بذاته وقد لا يكون بذاته، فواجب الوجود لذاته (هو الذي لذاته لا لشيء آخر)، أي أن مجرد افتراض العدم فيه محال. وأما واجب الوجود لا بذاته (فهو الذي لو وضع شيء مما ليس هو صار واجب الوجود). فالأربعة مثلاً واجبة الوجود لا بذاتها بل بفرض اثنين واثنين مجموعتين أو مضروبين. والاحتراق واجب الوجود أيضاً لابذته، بل بفرض تلاقي القوة المحرقة بالقوة المحترقة (ص224).
وأدلته في إثبات واجب الوجود كثيرة ليس عليكم أن تحيطوا بها، وحسبكم أن تتبينوا أن كثرتها إنما جاءت من تسليمه بها قبل البدء في البرهنة على ما يريد. فأعانه (سبق الإصرار) هذا كما يقال في لغة القانون، و (الفكرة الثابتة) هذه - كما يقال في علم النفس؛ على أن ينتزع كثيراً من البراهين يؤيد بها قضيته. وإلا فما كان له أن يثبت - وما كان لقارئه أن يفهم أن (كل شيء يكون كافياً في أن يوجد بذاته، فهو واجب الوجود (لو لم يتمثل في قرارة نفسه صورة الله الذي يؤكد له الوجود والوحدانية والخير وأنه عقل وعاقل ومعقول، وأنه عاشق ومعشوق، وأنه لذيذ وملتذ. . . ولماذا لا يلتذ من يشعر بكماله حين يتأمل نفسه.
ذلكم أن تأمل الله لذاته هذا يحدث له لذاته من ناحية، ويحل مشكلة ابن سينا من ناحية أخرى. فمن هذا التأمل يصدر الفيض الإلهي ويكون الخلق. فينشأ أولاً عقل أول هو واجب الوجود بالله ممكن بذاته. وهذا العقل الأول حتى الآن واحد وروحي، ولكنه يتأمل الله من ناحية، ويتأمل ذاته من ناحية أخرى. فمن تأمل العقل الأول لله ينشأ العقل الثاني، وعن تأمله لذاته ينشأ الفلك الأول جسمه ونفسه. ثم إن هذا العقل الثاني من حيث أنه واجب الوجود بالأول يتعقل هذا الأول فينشأ العقل الثالث، ويتعقل من ناحية أخرى ذاته - من حيث هو ممكن الوجود بذاته - فينشأ جسم الفلك الثاني ونفسه، وهكذا يظل كل عقل يتأمل وجوبه بغيره فينشأ عنه عقل أدنى. ويتأمل إمكانه بذاته فينشأ عنه جسم ونفس الفلك المرتبط به حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر المدبر لعالم الكون والفساد، وهو العقل الفعال الذي تتصل به نفوس البشر.
فالعالم العلوي إذن يتركب من سلسلة متراكبة كل حلقة فيها تحتوي على ثلاثة أشياء: عقل، وفلك، ونفس. وعلى رأسها جميعاً واجب الوجود لذاته الذي لا يبدع إلا العقل الأول، وهذا يبدع لأول مرة ثلاثة أشياء. عقلاً ثانياً، وفلكاً نفسياً، وجسمياً. وهكذا تتكرر العملية حتى تخلص لنا عشرة عقول وتسعة أفلاك؛ آخرها فلك القمر وكرة الهواء المحيطة بالأرض
وأترك لكم تصور هذا العالم العلوي كما تشاءون، ولكني أود أن تلاحظوا معي على هذه النظرية الفروض آلاتية:
أولاً: افتراضها منذ البدء أن الله واجب الوجود لذاته، وأنه عقل وعاقل ومعقول.
ثانياً: تسليمها بأنه واحد، وانه لا يصدر عن الواحد إلا الواحد - بالنسبة لله على الأقل.
ثالثا: قيامها على تعقل الله لذاته وتأمله لنفسه - وكذلك الأمر في العقول الأخرى كل بدوره - كأساس للخلق، ومبدأ للجود الإلهي. كما أريدكم أن تقفو بعقولكم طويلاً عند مناقشة مأخذها التالية:
أولاً: أنها - وقد وضعت قانوناً عاماً، هو أنه لا يصدر عن الأحد إلا الواحد - قد قصرت تطبيقه على واجب الوجود وحده ثم تجاوزته في الحال مع العقل الأول فجعله يخلق ثلاثة أشياء بدلاً من شيء واحد. مما يجعلها متناقضة مع ذاتها منذ اللحظة الأولى - إلا أن يكون ابن سينا قد قصد (بالواحد) هنا الله وذلك ما لا يدل عليه قوله هذا الذي سبق أن بينت لكم مرجعه فعودوا إليه، فقد لا تجدون فيه هذا التناقض الذي أجد.
ثانياً: وما قلته في الوجود تنشأ عنها الكثرة، يقال مثله في الروحية تنشأ عنه المادية. فقد أراد ابن سينا من توسيط العقل الأول بين الله والموجودات أن يبعد عنه صدور الكثرة من ناحية والمادة من ناحية أخرى؛ لأن الله ليس بمادي، ولذا كان العقل الأول الصادر عنه غير مادي أيضاً، ولكن كيف يتأتى لهذا العقل الأول أن يخلق بتأمله (الذي هو عقل روحي) مادة الجسم الأول نفسه؟ هذا تناقض وغموض آخر.
ثالثا: أن هذا المذهب يقف بالفيض عند الفلك العاشر، فلك القمر وكرة الأرض؛ أي العقل الفعال. ولا يبين لنا كيف تفيض أشياء هذا العالم عن العقل الفعال، وهل هي تفيض عنه لعلم الله أو بغير علمه، فذلك - فيما أظن - هو الذي حدا بابن سينا إلى أن يقصر علم الله على الكليات دون الجزئيات. (النجاة ص 247). واعتبر الغزالي ذلك كفراً صريحاً؛ لأنه تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. (كما أنك إذ تعلم الحركات السماوية كلها، فأنت تعلم كل كسوف وكل اتصال وانفصال جزئي، فكذلك الإله يعلم الجزئيات ولا يغرب عنه شيء شخصي) (الغزالي: المنقذ من الضلال، طبعة دمشق الثالثة ص 95)، رداً على ابن سينا (النجاة ص248).
والنتيجة الضرورية لهذا المذهب الأول بقدم العالم - وإن لم يستطع ابن سينا أن يقول به صراحة. فإن الله قديم ولا شك. وما دام العالم ينشأ عنه تعقله لذاته على هذا النحو، وتعقله لذاته صفة لا تنفك عنه، فلا بد أن يصدر عنه هذا الفيض منذ الأزل لا سيما أن العقل الأول واجب الوجود به؛ بمعنى أنه يفترض وجوده منذ افتراض وجود خالقه تبعاً لتعريفه هو لواجب الوجود فوجوب وجوده ضروري لا من حيث أنه ممكن بذاته؛ بل من حيث هو واجب بالله. وبمثل ذلك يكون العقل الثاني ضرورياً بالأول. وهكذا تستمر السلسلة ويتم الخلق بهذا الفيض الأزلي القديم عن الله الأزلي الواجب الوجود.
ومهما يكن من أمر هذه النظرية فهي لا تعدو أن تكون مزيجاً من نظرية أرسطو في عقول الأفلاك، ومن مذهب أفلوطين في فلسفة الإشراقية التي ظلت مورداً يفيض بالخصب والوفرة في كل فلسفات الأديان. وقد جارى ابن سينا هذه الأفلاطونية المحدثة، فقالي بما قالت به من خيرية الله، ونزوع الكائنات إلى أن تنجذب بالشوق، وأضاف إليها ما كان قد تأثر به من قول ارسطو - وما كان شائعا لعصره - من حركة الأفلاك السماوية حركة دائرية حول عقولها لتصل إلى الواحد، وازدياد شوقها أبداً للوصول إليه وإن كان ذلك الوصول بعيداً عنها؛ إذ الكواكب في رأي ابن سينا حيوانات مطيعة لله تعالى (ص 258)، ولكل منها عقل يديره كما أن له نفسا تحركه. وقد ساهم هو في ما كان شائعاً بين معاصريه من أن كل كوكب من كواكب الأفلاك يشبه إلهاً من آلهة اليونانيين، فالشمس للحرارة، والقمر للرطوبة والمريخ للغضب. . . الخ وهذه الأفلاك التسعة أجسام سماوية تؤثر حركتها في نفوسنا وأجسامنا - مما تأثر فيه الفارابي في (مدنيته الفاضلة)، ومما عابه عليه ابن رشد حين طعن الغزالي بأقواله هذه على الفلسفة.
أرأيت إذن موضع النفس في ترتيب الموجودات عند ابن سينا؟ الأفلاك لها نفوس تحرك أجسامها في العالم العلوي، والأجسام النباتية والحيوانية والإنسانية لها نفوس تحركها في العالم السفلي، وبين العالمين يقف العقل الفعال وسيلة وواسطة اتصال. وفوق العالم العلوي كله الجوهر الفارق غير الجسم، والصورة المجردة؛ الذي هو الله، والعقول العشرة المدبرة التي تتأمله وتتعقله، وتحت العالم السفلي كله الهيولى أو المادة الأولى التي هي محل نيل الوجود في كل موجود، وفي كل طبقة فيما بين ذلك جملة موجودات ذات مواد وصور متنوعة شتى.
وحسبكم إذن هاتان المقالتان في التقديم لدراسة النفس عند ابن سينا، ولشرع منذ المقال التالي في تحليل الفصل المطلوب إليكم دراسته.
كمال دسوقي