مجلة الرسالة/العدد 810/في ذكرى المولد النبوي الشريف:
مجلة الرسالة/العدد 810/في ذكرى المولد النبوي الشريف:
من شئون الموظفين في النظم الإسلامية
للأستاذ لبيب السعيد
يعي التراث الإسلامي في تضاعيف مكتبته الجليلة صحائف عن شؤون الموظفين يجدها الباحث متفرقة هنا وهناك. وهي صحائف تحوي معاني عجيبة عميقة فيها اتجاه راشد قصرت عنه النظم الحديثة في بعض وجهاتها، ومن ثم كانت تلك الصحائف جديرة أن تستقصي وتستلهم وتسترشد.
قامت الجماعة المسلمين فاستوجب قيامها نظاماً يعتمد بالضرورة على موظفين يقومون بواجباته، ويحملون أمانته. لقد أمر النبي أتباعه أن يأمروا عليهم حتى في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات فكأنه نبه على وجوب التولية فيما هو أكثر من ذلك، وقد اضطلع هو نفسه صلوات الله عليه بكل ما يتعلق بولاة الأمور في المدينة، فولى في الأماكن البعيدة والقريبة، وأمر على السرايا وبعث على الأموال الزكوية السعاة.
واقتضت الظروف حتى في بدأ الإسلام تعدد الوظائف على نحو أبعد مما أن يظن؛ فعهد الرسول لم يخل من وظائف الوزارة ووظائف الكتابة بأنواعها، ووظائف السفراء والقضاة وفارضي النفقات ورجال الأمن والتعليم والصحة والمال والحرب والغنائم والمترجمين وغيرها، ولو لم يصطلح على بعض هذه التسميات وقتئذ بل لقد وجدت وظائف هي بطبيعتها مما لا يقوم إلا حيث التمدن ودقة الإدارة كصاحب السر ورئيس التشريفات ورجال الحاشية الخاصة.
والوظيفة في الإسلام تكليف شاق، وجهود محشودة لخير الأمة. يقول النبي (ما من أمير بلى أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل الجنة معهم.) والإسلام يقتضي من يلي أية رعية أن يرفق بها؛ يقول الرسول: (إن شر الرعاء الحطمة) يريد العنيف الذي لا يرفق برعيته بل يحطمها.
والراعي إن لم يبسط لرعيته جناح رحمته فهو من دعوة الرسول في خطر؛ يدعو عليه السلام - وكأننا نحس قلبه الرحيم يخفق في دعوته - (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فأشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فأرفق به. وغش الراع رعيته كبيرة تشقيه في الآخرة: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة). فأما العادلون، فالحديث يشير إلى فضلهم ومنزلتهم بعبارة مضيئة فيها بلاغة مؤثرة: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا).
ولذلك، ترغب السنة إلى من كان فيه ضعف عن القيام بالوظائف أن يجتنبها، وتقرر أنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه منها، ولكن السنة مع هذا ترغب في ولاية من أستجمع شرائطها وقوي على أعمالها وتعتبر الوظيفة لمن يتخذها ديناً يتقرب به إلى الله ويفعل فيها الواجب جهد طاقته من أفضل الأعمال الصالحة.
والنظم الإسلامية تتحرى في تعيين الموظفين الأمثل فالأمثل، وتعتبر في صراحة قاطعة العدول عن هذا خيانة كبيرة. ينسب إلى النبي ﷺ أو إلى عمر بن الخطاب: (من قلد رجلاً على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين).
سنت النظم الإسلامية للموظفين مبادئ تبصر الدنيا على هدى الدين؛ ولهذا نرى عصارات الدين القوية تسري في أعمال الموظفين كبيرهم وصغيرهم فتؤتي أكرم الثمرات. يكتب عمر ابن الخطاب إلى عامله أبي موسى: وإن أسعد الرعاة عند الله من سعدت به رعيته، وإن أشقى الرعاة من شقيت به رعيته. ويقول له: واعلم أن للعامل مرداً إلى الله، فإذا زاغ العامل زاغت رعيته.
والمسلمون يرون التزام الموظفين العدل أصلاً أساسياً في نجاح الدولة لا يغني عنه أي عمل صالح حتى الإيمان؛ فمهما يروى: (الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا بنصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة).
ومما يمثل النظم الإسلامية في آداب الموظف ما عده القلقشندي من آداب الكاتب، قال: ومنها لزوم العفاف والصيانة فيما يتولاه للسلطان من أعمال. . . والتعفف عن المطامع الذميمة والمطاعم الوخيمة والترفع عن المكاسب اللئيمة؛ فإن ذلك يجمع القربة إلى الله تعالى والحظوة عند السلطان، وجميل السيرة عند الرعية، حتى أن الطريقة قد تقدم بها عند السلطان المتخلفون في الفهم والمعرفة، وسادوا على من لا يقاربونه في غناء ولا كفاية، وحصلوا على الأموال السنية والمنازل العلية، وقرب بها من كان بعيداً على من كان قريباً، ومن لا مكانة له ولا حرمة على من كان له مكانة وحرمة، واستدنى لأجلها من لا يترشح لخدمة السلطان
والموظفون في النظم الإسلامية يخضعون لمراقبة بالغة. قيل عن عمر إن علمه بمن نأى عنه من عماله ورعيته كان كعلمه بمن بات معه في مهاد واحد، وعلى وساد واحد، فلم يكن له في قطر من الأقطار ولا ناحية من النواحي عامل ولا أمير جيش إلا وعليه له عين لا يفارقه ما وجده، فكانت ألفاظ من بالمشرق والمغرب عنده في كل ممسي ومصبح. وعلى نحو هذا كان الكثيرون من خلفاء المسلمين.
وبعض التصرفات الشخصية البحت لكبار موظفي الدولة الإسلامية لم يكن بمنجاة من تعقب الحكومة؛ تزوج حذيفة ابن اليمان أجنبية، فطلب إليه عمر أن يطلقها على كونها حلالاً لأن (في نساء الأعاجم خلابة، فإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم.
والموظف الذي يعفي نفسه من الضمير والواجب عليه وزر عمله. يقول أبو يوسف للرشيد: وأنا أرى أن تبعث قوماً من أهل الصلاح والعفاف ممن يوثق بدينه وأمانته يسألون عن سيرة العمال وما عملوا به في البلاد. . . إلى أن قال: وإذا صح عندك من العامل والوالي تعد بظلم وعسف وخيانة لك في رعيتك واحتجان شيء من الفيء أو خبث طعمته أو سوء سيرته فحرام عليك استعماله والاستعانة به، وأن تقلده شيئاً من أمور رعيتك أو تشركه في شيء من أمرك؛ بل عاقبه على ذلك عقوبة تردع غيره من غير أن يتعرض لمثل ما تعرض له. وإياك ودعوة المظلوم فإن دعوته مجابة.
على أن التقارير التي ترد إلى الحكومة عن الموظفين يجب أن تكون صادقة، فكاتبوها - كما يقول أبو يوسف للرشيد -: ربما مالوا مع العمال على الرعية وستروا أخبارهم وسوء معاملتهم للناس، وربما كتبوا في الولاة والعمال بما لم يفعلوا إذا لم يرضوهم، وهذا مما ينبغي أن تتفقده وتأمر باختيار التقات العدول من أهل كل بلد ومصر فتوليهم البريد والأخبار. . . وتتقدم إليهم في أن لا يستروا عنك خبراً من رعيتك ولا من ولاتك، ولا يزيدوا فيما يكتبون به عليك خبراً، فمن لم يفعل منهم فنكل به، ومتى لم يكن أصحاب البرد والأخبار في النواحي ثقات عدولاً فلا ينبغي أن يقبل لهم خبر في قاض ولا وال.
ومع هذا فروح المبادئ الإسلامية تتيح الموظفين حرية للموظفين حرية في السير إلى أهدافهم العليا هي فوق منال موظفي زماننا. ومن النصوص الكثيرة في هذا الشأن ما ورد من أن زياداً كتب إلى الحكم بن عمرو الغفاري: وإن أمير المؤمنين معاوية كتب إلي يأمرني أن أصطفى له الصفراء والبيضاء فلا تقسم بين الناس ذهباً ولا فضة وأقسم ما سوى ذلك. فكتب إليه: إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين! والله لو أن السماوات والأرض كانتا رتقاً على عبد فاتقى الله لجعل له منهما مخرجاً! ثم نادى الناس فقسم فيهم ما أجتمع له من الفيء.
والإسلام في احترامه للإنسانية وحمايته للحق يقرر وجوب الإنكار على الموظفين - مهما تكن مراتبهم - فيما يخالف الشرع. قال ﷺ: (ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف بريء، ومن أنكر سلم، ولكن من رضى وتابع) يريد أن الإثم والعقوبة على من رضى وتابع وإنه صلوات الله عليه ليدعو المسلمين دعوة صريحة إلى الصدوف عن مشايعة الحاكم الظالم ورفض معاونته إذ يقول لما ذكر الظلمة: (من صدقهم بكذبهم وأعلنهم على ظلمهم فليس منى ولست منه ولا يرد على الحوض).
ولا ينبغي للموظف أن يزدهيه منصبه، أو أن يغبن حتى فيما دق وهان صغيراً لصغره. كتب علي إلي بعض عماله: واخفض للرعية جناحك، وألن لهم جانبك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية، حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييئس الضعفاء من عدلك. وقد صدق في هذا الشأن عمل المسلمين الأولين قولهم.
والإسلام إذ يفيض على أتباعه جميعاً كريم الرعاية وعظيم الالتفات يحرص على إبلاغ ولي الأمر حاجات كل فرد، لا يمنع من ذلك ضآلة شأن الفرد أوضعته. يقول النبي (ص): (أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، فإنه من أبلغ سلطانه حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة). ويقول عمر الفاروق في خلافته: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية دولاً، فإني أعلم أن الناس حوائج تقتطع دوني، أما عمالهم فلا يرفعونها ألي، وأما هم فلا يصلون إلي.
ورواتب الموظفين في النظام الإسلامي تناسب الحاجة والبلد، ومن دواعي زيادتها أن يبدي الموظف في عمله كفاية وحكمة. والنبي ﷺ يوصي أئمة المسلمين بعده بموظف أحسن صنعاً في بعض الأمور، فيكتب له بهذا كتاباً ويختمه، فيظل الموظف يأخذ - فيما ذكر ابن سعد في طبقاته - أشياء من خلفاء المسلمين حتى عهد عمر بن عبد العزيز.
والراتب يتسق ومركز الموظف. بلغ المعتضد أن عامله على فارس أظهر أبهة في ولايته وأنفق فوقعت له بذلك هيبة في نفوس الرعية فزاد المعتضد رزق عامله ليستعين به على مروءته.
وكما تستقطع الضرائب الآن من الراتب، كانت الزكوات المستحقة تخصم من الأعطيات.
والحالة الاجتماعية التي لم تلتفت إليها النظم التوظيفية الحديثة إلا متأخراً لها في النظام الإسلامي اعتبار، يروي أبو داود أن رسول الله ﷺ كان إذا أتاه ألفى قسمه في يومه فأعطى صاحب الأهل حظين وأعطى الأعزب حظاً.
وإنصاف الموظفين ليست نتائجه بالشيء الذي تغضي عنه الحكومة الإسلامية؛ فعلى يوصي أحد عماله أن يسبغ الأرزاق (فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك)
ولعمر بن عبد العزيز لفتة عالية إذ يقال له: ترزق الرجل من عمالك مائة دينار ومائتي دينار في الشهر وأكثر من ذلك؟ فيقول: أراه لهم يسيراً إن عملوا بكتاب الله وسنة نبيه، وأحب أن أفرغ قلوبهم من الهم بمعايشهم. وكان من أهم ما جرت عليه الإدارة في عهد المأمون التوسعة على العمال؛ يراد بهذا حفظ حقوق الرعية والسلطان؛ رفع المأمون منزلة الفضل بن سهل، وعقد له على الشرق طولاً وعرضاً وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف درهم
ورواتب الموظفين تجري عليهم من بيت مال المسلمين لأنهم في عمل المسلمين. وقد كان الرشيد قال: يجري على القاضي إذا صار إليه ميراث من المواريث، فأجاب قاضيه أبو يوسف: لا إنما يعطى للقاضي رزقه من بيت المال ليكون قيماً للفقير والغني والصغير والكبير، ولا يأخذ من مال الشريف ولا الوضيع إذا صارت إليه مواريثه رزقاً.
وقد وجد في النظم الإسلامية نظام تقرير المكافآت والمعاشات: أجرى رسول الله ﷺ على قيس بن مالك الأرحبي من همذان لما استعمله على قومه عربهم وأعاجمهم ومواليهم، فأقطعه من ذرة (نسار) مائتي صاع، ومن زبيب (خيوان) مائتي صاع، (جار له ذلك ولعقبه من بعده أبداً أبداً أبداً). وعمر بن عبد العزيز أمر أن يرفعوا إليه كل يتيم ومن لا أحد له ممن قد جرى على والده الديوان، فأمر لكل خمسة بخادم يتوزعونه بينهم بالسوية، وفرض العوانس الفقيرات، وكان لا يفرض للمولود حتى يفطم، فنادى مناديه: لا تعجلوا أولادكم عن الفطام فأنا نفرض لكل مولود في الإسلام.
والموظفون يجدون رعاية اجتماعية عند العجز؛ كتب عمر ابن العزيز إلى أمصار الشام أن يرفعوا إليه كل أعمى في الديوان أو مقعد أو من به فالج أو من به زمانه تحول بينه وبين القيام إلى الصلاة، فأمر لكل أعمى بقائد ولكل اثنين من الزمني بخادم.
والاتجار ليس من شأن موظفي الدولة؛ اجتمعت لأبي هريرة أموال كثيرة فقرر أن خيله تناسلت وسهامه تلاحقت وأنه اتجر؛ فقال له عمر بن الخطاب: أنظر رأس مالك ورزقك فخذه، واجعل الآخر في بيت المال.
وقد عرفت النظم الإسلامية مبدأ عدم تكرار الراتب، فعمر بن عبد العزيز أمر أن لا يخرج لأحد من العمال رزق في العامة والخاصة، فإنه ليس لأحد أن يأخذ رزقاً من مكانين، في الخاصة والعامة.
وما ينبغي للموظفين أن يستعملوا شيئاً من وسائل النقل الخاصة بالدولة، فأصحاب البريد يجب أن لا يحملوا على دواب البريد إلا من تأمر الحكومة بحمله في أمور المسلمين فإنها للمسلمين. وفي هذا المقام يذكر أبو سيف أن عمر بن عبد العزيز كان يبرد، فحمل مولى له رجلاً على البريد بغير إذنه، فدعاه، فقال: لا تبرح حتى تقومه ثم تجعله في بيت المال.
والوظائف العسكرية تقتضي كشفاً طبياً يجرد فيه الشبان من ثيابهم للإطلاع على عيوب أجسامهم، ولم يكن يقبل فيها الصبيان.
والثقة بالموظفين واجبة، يقول طاهر بن الحسين لولده عبد الله: ولا تتهمن أحداً من الناس فيما توليه من عملك قبل تكشف أمره بالتهمة، فإن إيقاع التهم بالبداء والظنون السيئة بهم مأثم. واجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظن بهم وارفضه فيهم يعنك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم.
وقد سبقت النظم الإسلامية إلى الأخذ بمبدأ اللامركزية منذ عهد الرسول. روى أن السعاة الذين كان يبعثهم على الزكاة كان الواحد منهم أحياناً يرجع إلى المدينة وليس معه شيء منها إذا وجد لها موضعاً يضعها فيه.
ومن النصوص التي تذكر في هذا المقام فتعجب ما كتبه عمر بن عبد العزيز إلى عامله باليمين: (أما بعد فإني أكتب إليك آمرك أن ترد على المسلمين مظالمهم فتراجعني ولا تعرف مسافة ما بيني وبينك، ولا تعرف أحداث الموت، حتى لو كتبت إليك أن اردد على مسلم مظلمة شاة لكتبت أردها عفراء أو سوداء فأنظر أن ترد على المسلمين مظالمهم ولا تراجعني).
وما أجمل ما كتب إلى عامله على الكوفة: (إنه يخيل ألي أني لو كتبت إليك أن تعطي رجلاً شاة لكتبت إلى: أذكر أم أنثى؟، ولو كتبت إليك بأحدها لكتبت إلي: أصغيرة أم كبيرة ولو كتبت بأحدها لكتبت: أضأن أم معزى؟، فإذا كتبت إليك فنفذه ولا ترد علي.
وبمثل هذا كتب أبو جعفر المنصور إلى مسلم بن قتيبة. والمأثور عن المأمون أنه كان يحرص الحرص كله على الانتفاع برجاله ويطلق لهم حريتهم في العمل.
وامتد الأخذ بهذا المبدأ إلى الوزراء؛ كان العباس ابن الحسن وزير المكتفي يقول لنوابه بالإعمال: أنا أوقع لكم وأنتم افعلوا ما فيه المصلحة.
وللشعب حق شكوى الموظفين، حيث يقف وإياهم على قدم المساواة، يسوي الحكم بينهم في الموقف حتى يظهر الحق، فإن توجه قبل الموظف اقتص منه إن كان هناك داع للقصاص، أو عامله بما تقتضي به الشريعة، أو اعزله. وقد وقع للفاروق عمر ولعمر بن عبد العزيز أن مثل كل منهما وهو أمير للمؤمنين مع خصمه أمام القاضي.
ومن آيات عمر بن الخطاب في العدل يوجهها إلى الرعية: (من ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له إلا أن يرفعها أليَّ حتى أقصه منه.
والنظم الإسلامية تتجافى عن الوساطة وتتكرم عن المحسوبية في شؤون الموظفين؛ توسط مولى عمر بن الخطاب أن يكتب كتاباً إلى عامله بالعراق ليكرم من قصدوا إليها، فانتهره عمر وسبه، وقال: أتريد أن يظلم الناس؟ وهل هو إلا رجل من المسلمين يسعه ما يسعهم به. وعلي يكتب إلى الأشتر النخعي حين سيره إلى مصر:. . . ثم انظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختباراً، ولا تولهم محاباة وأثرة. . . ولقد انتهى إلى علم معاوية أن ابن أخته عبد الرحمن بن أم الحكم عامله على الكوفة أساء السيرة في إمارته فعزله وأقصاه عن الحكم. والهادي في عهده القصير منع أمه الخيزران من التدخل في أمور السلطان لقضاء حوائج الناس.
والنظم الإسلامية تسمو بها مثلها العليا وإخلاصها الأمين فتحارب الخيانة والرشوة بين الموظفين في جميع صورها من غير رحمة. ذكر رسول الله ﷺ الغلول - وهو اصطلاحا الخيانة في الغنيمة - فعظمه وعظم أمره. ولقد أبى على أحد عماله بأسلوب ينضح بالغضب والجد أن يحتجز من الصدقات التي جمعها شيئاً بدعوى أنه أهدي إليه.
وتسد الروح الإسلامية منافذ التحايل، فالهدايا للموظفين هي الرشا، والهدية إذا دخلت من الباب خرجت الأمانة من الطاقة. ولقد حفل تاريخ عمر بن الخطاب بالثورة على بعض عماله كلما رأى تغير حالهم في العمالة عما كانت قبلها، ولم يطامن من ثوراته أن من هؤلاء العمال أمثال أبي هريرة وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري. والموظفون أنفسهم يستبشعون عدم الأمانة وينفرون منه. كتب عمرو إلى عمر محتجاً: معاذ الله من تلك الطعم، ومن شر الشيم والاجتراء على كل مأثم، فأقبض عملك فإن الله قد نزهني عن تلك الطعم الدنية والرغبة فيها.
وصحائف الموظفين المسلمين حافلة بأمثال كثيرة للموظفين الذين لم تشره نفوسهم إلى المال وهو تحت أيديهم وخرجوا من أعمالهم بالصفة التي دخلوها بها. ومن القواعد الكريمة التي استقرت في النظم الإسلامية أن جور الراعي هلاك للرعية، وأن استعانته بغير أهل الثقة والخير هلاك للعامة.
ومن جميل ما وقع لحبيب بن مسلمة أحد قواد المسلمين أنه سار يريد بلداً في أرمينية فجاءه بالطريق رسول بطريقها وأهلها يسأله الصلح وأن يكتب لهم، فكتب حبيب إليهم كتاباً ضمنه قوله: وقد قبلت هديتكم وحسبتها من جزيتكم.
أما بعد: فالموظفون كما تريدهم النظم الإسلامية قلوب واعية وضمائر لا يأخذها الإعفاء. وما أحرانا وتلك روعة نظمناً الإسلامية السالفة، أن نتفقدها ونتعهدها ونتزود منها لنظمنا الخالفة.
لبيب السعيد