انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 807/أول أبطال الحروب الصليبية:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 807/أول أبطال الحروب الصليبية:

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 12 - 1948



عماد الدين زنكي

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

لم يكن الصليبيون يستطيعون أن يحدوا وقتاً أنسب من هذا الوقت الذي اختاروه للانقضاض فيه على بلاد الشام؛ فقد كان النظام الإقطاعي يومئذ يمزق وحدة هذه البلاد، ويوهن من قواها؛ فلم يستطع أمراء الإقطاعيات المتفرقون أن يصدوا هذا الجيش اللجب الذي بعثت به أوربا لالتهام تلك القطعة من الأرض، فسقطت فلسطين وجزء من سوريا بين أيديهم، وأسسوا بها إمارات صليبية هي إمارة الرها وأنطاكية وطرابلس وبيت المقدس؛ وبرغم ما بذله أمراء البلاد مجتمعين حيناً، ومتفرقين حيناً، من الجهود في حرب الصليبين لم يستطيعوا استخلاص البلاد من أيديهم، أو صد عدوانهم؛ ورأينا الفرنج وقد امتدت حدودهم من ماردين وأنطاكيا في الشمال إلى مدينة العريش لدى حدود مصر. وأخذت جيوشهم تضخم وقسوتهم على من بجوارهم من العرب تشتد، وتهبهم ما يطيقون نهبه يزيد في كل يوم، وأصبحوا يرتكبون كل عظيمة لا يهابون قصاصاً ولا عقوبة، واحتملت البلاد المجاورة لهم كل ما لا يستطاع حمله من الذي والإرهاق، ففرضت عليها الضرائب الثقيلة لا تميز في لك بين مسلم ومسيحي.

تلك كانت حال البلاد عندما ولى عماد الدين زنكي إمارة الموصل. وقد لوحظ في اختياره لهذه الإمارة ما عرف عنه من الكياسة وحسن الإدارة، والشجاعة في حرب الصليبين؛ فرأى الأمير الجديد أنه لا يستطيع النهوض بهذا العبء، وشمل الأمة ممزق، ووحدتها مبعثرة، فوضع نصب عينيه أن يوحد البلاد تحت قيادته، ويجمع أمرها في يديه، حتى يحمل على عدوه حملة رجل واحد، ويستخلص من بين براثنه الوطن المغتصب؛ فضم إلى إمارته معظم بلاد الجزيرة، ثم عبر الفرات واستولى على حلب وكثير من بلاد الشام، وحاول الاستيلاء على دمشق حتى تتم له وحدة البلاد ولكنه لم يوفق.

ورأى عماد الدين أن إمارته - وقد اتسعت رقعتها - في حاجة ماسة إلى الإصلاح الشامل؛ فنصب نفسه أباً لشعبه وسهر على إصلاح شئونه المالية، حتى يستند إلى دعامة قوية من المال فيما صمم عليه، وكانت البلاد قد خربت قبله، لطول غارات الصليبين عليها، كثير منها غير مزروع، وانقطعت التجارة لتعرضها لنهب الفرنج، فبذل زنكي جهوداً جباوة في إحياء الزراعة، وإعادة الرخاء إلى إمارته؛ فرجع الفلاحون إلى أرضهم، وبنيت المدن المخربة، وعاد إلى التجارة الحياة، كما أخذ العابثين بالنظام، وقطاع الطرق بالشدة والقسوة، وحكم إمارته بعين يقظي تنقل إليه عيونه كل ما يجري فيها وفيما حوله من البلاد، حتى لا يؤخذ على غرة. ونهض بالبلاد نهضة ثقافية، فكان هو ووزيره جمال الدين الجواد من حماة رجال العلم والثقافة. وأحاط نفسه بنخبة ممتازة من الرجال أغدق عليهم خيره، ولم يكن من صفاته التلون والتغير على أصحابه، فكانوا لذلك يخلصون له في النصح، ويبذلون نفوسهم في سبيله، وبهذا كله استطاع أن يجمع قوى هذه الإمارة ويوجهها إلى الصليبيين يحطم بها ما استطاع من قوتهم

كان الفرنج ينظرون إلى هذه الإمارة الناشئة بعين الريبة، فما هو إلا أن صمم عماد الدين على لقائهم عند حصن الأثارب سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وهو حصن قريب من حلب، اشتد ضرره على أهلها، فلا يكاد يمر يوم من غير غارة عليهم، أو نهب لأموالهم. حتى جمع الفرنج فارسهم وراجلهم يريدون أن يسددوا إلى تلك الإمارة ضربة قاضية، لا تقوم لها بعدها قائمة. ولعل الخوف من هذا الحشد الذي جمعوه قد داخل نفس بعض أصحاب العماد؛ فأشاروا عليه بالعودة، ولكن الحماسة المتدفقة في صدره ملأت نفوس جنده همة وإقداماً، فأقبلوا على أعدائهم في إيمان وبسالة يريدون أن يظفروا بالشهادة في سبيل الله. ولقد صبر الفريقان وأبلوا في المعركة أشد البلاء، ثم ظفر المسلمون بأعدائهم وانتصروا عليهم، وانهزم الفرنج هزيمة منكرة. قتل منهم عدد ضخم، ووقع الكثير من فرسانهم في الأسر وأذاقهم المسلمون من بأسهم ما أدخل في نفوس عدوهم الرهب والوهن، فلم يستطع الفرنج لقاء عماد الدين عندما مضى مجداُ بجنده إلى قلعة حارم بالقرب من أنطاكيا، وبذلوا له نصف دخل المدينة على أن يعقد بينه وبينهم هدنة، فأجابهم إلى ذلك، حتى يعطي جيشه الناشئ فرصة للراحة والاستعداد، وعاد بعد أن رأى الفرنج أن البلاد قد جاءها ما لم يكن لهم في حساب وصار قصارى همهم أن يحفظوا ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طمعوا في ملك جميع البلاد.

رأى الفرنج هذا الخطر فأرادوا تحطيمه، ومضى ملك بيت المقدس إلى أعمال حلب يهاجمها، وجاءت طائفة من فرنج الرها تغير عليها، فاستقبلهم عامل حلب وهزم الأولين، وأباد الآخرين. وأراد عماد الدين أن يثأر من عدوه، فانقض بجنده على اللاذقية وأثخن في الفرنج قتلا، وأسر منهم سبعة آلاف أسير، وكانت الغنائم أكثر من أن تحصر، وأخذت الروح المعنوية تقوى عند المسلمين، بينا دب الوهن والخوف إلى نفس أعدائهم، فلم يثأروا لأنفسهم، ومضى زنكي يكيل لهم الضربات المتلاحقة، ويأخذ منهم القلاع والحصون، ويسترد المدن والقرى، ويمنح أهلها الأمان والسلام حتى ضج الفرنج، وأرسلوا إلى ملك القسطنطينية يستصرخون به، ويحرضنه على أن يصل لينقذ البلاد قبل أن تملك، فأقبل على عجل، ثم مضى إلى حلب يريد أن يستولي عليها فلم يجد فيها مطمعاً، فذهب إلى قلعة شيرز، ولم تكن خاضعة لزنكي، يريد أن يجعلها قاعدة يشن منها هجومه. ولعل ملك الروم ظنها سهلة المنال، وأن العدو اللدود زنكي لا يعني بأمرها فحاصرها، ونصب عليها سبعة عشر منجنيقاً، ولكن صاحبها أرسل يستنجد بعماد الدين فجاء إليه مسرعاً بجيشه؛ غير أن ملك الروم كان قد جمع من الجند عدداً ضخماً؛ فرأى العماد أن يستخدم الحيلة في هزيمته؛ فكان يسير كل يوم إلى شيزر هو وجنده، ويقفون بحيث يراهم الروم، ويرسل سرايا تأخذ من ظفرت به منهم، ثم إنه أرسل إلى ملك الروم يقول له: إنكم قد تحصنتم مني بهذه الجبال فانزلوا منها إلى الصحراء حتى نلتقي، فإن ظفرت بكم أرحت المسلمين منكم، وإن ظفرتم بي استرحتم، وأخذتم شيزر وغيرها. فأشار فرنج الشام على ملك الروم بلقائه، فلم يفعل، وقال: أتظنون أن ليس له من الجند إلا ما تريدون؟ إنما هو يريد أن تلقوه فيجيئه من نجدات المسلمين مالا حد له. وكان زنكي يرسل إلى ملك الروم يوهمه أن قلوب الفرنج متغيرة عليه وأنهم سينفضون من حوله إن هو أقبل على الحرب، ويرسل إلى الفرنج يخوفهم من ملك الروم، ويقول لهم: إن ملك بالشام حصناً واحداً ملك بلادكم جميعاً. فخاف كل من صاحبه، ورحل ملك الروم عن شيزر وترك المجانيق وآلات الحصار بحالها؛ فتبع زنكي جند عدوه وظفر بالكثير منهم، ووقع في يده جميع ما تركه الفرنج غنيمة باردة، وقد بهر هذا النجاح شعب عماد الدين وخلده الشعراء في قصائدهم.

وكان أعظم ما قام به عماد الدين، أنه حطم إمارة كاملة من إمارات الصليبيين، تلك إمارة الرها، ففي جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وخمسمائة سقطت المدينة في يده بعد أن حاصرها حصاراً عنيفاً. وقد فكر في أن ينزل عقوبة مخيفة بالصليبيين انتقاماً لما اقترفوه من مذابح عندما دخلوا بيت المقدس وأنطاكيا وغيرهما، ولكن إنسانيته غلبت غضبه، فلم يقتل عدا المحاربين أحداً، ولم يأسر رجلا ولا امرأة ولا طفلا. ولم يستول على ممتلكات أحد، وأمر جنده بإعادة ما أخذوه فعاد البلد آمناً عامراً

كان لسقوط الرها دوى عظيم في جميع الأرجاء. وكان فتحاً عظيماً ملأ قلوب المسلمين غبطة وبهجة، وأقبل الشعراء يهنئون عماد الدين بهذا الفتح وأكثروا وأطالوا؛ فمن ذلك ما قاله ابن منير:

صفات مجدك لفظ جل معناه ... فلا استرد الذي أعطاكه الله

يا صارماً بيمين الله قائمة ... ووفي أعالي أعادي الله حداه

أصبحت دون ملوك الأرض منفرداً ... بلا شبيه، إذ الأملاك أشباه

فداك من حاولت مسعاك همته ... جهلا وقصر عن مسعاك مسعاه

أين الخلائف عن فتح أتيح له ... مظلل أفق الدنيا جناحاه

فتح أعاد على الإسلام بهجته ... فافتر مبسمه واهتز عطفاه

أبقاك للدين والدنيا تحوطهما ... من لم يتوجك هذا التاج إلا هو

ترك عماد الدين الزنكي حامية قوية في الرها، وأخذ يتابع انتصاراته على الصليبيين ويستخلص من أيديهم ما بقي من إمارة الرها، وبينما هو يحاصر إحدى القلاع اغتاله وهو نائم أحد مماليكه بإغراء أعدائه وذلك في ربيع سنة إحدى وأربعين وخمسمائة

كان زنكي إلى جانب شجاعته وبسالته سياسياً ماهراً، يهادن عدوه، ويلين إذا رأى ذلك ضرورة أو كان محتاجاً إلى وقت يجمع فيه شمله، وبعد عدته فإذا رأى الفرصة مواتية انقض لا يلوي على شيء، ويفرق بين خصومه بالحيلة والمكر حتى يأخذ كلا على حدة، وساعده على النجاح في حروبه ما بثه من العيون في بلاد عدوه تأتيه بالأخبار وتنقل إليه حقيقة الحال.

مات عماد الدين وألقى عبء إكمال جهاده على عاتق ولده نور الدين، وأرجو أن أوفق في كلمة أخرى إلى بيان المدى الذي بلغه الابن العظيم في تحقيق آمال والده البطل الكبير.

أحمد أحمد بدوي مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول