مجلة الرسالة/العدد 806/رسالة النقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 806/رسالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 12 - 1948



اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا

تأليف الدكتور جمال الدين الشيال

إن الذين يحملون العلم إلى الناس بالتأليف أو النشر أو الترجمة أو المجلات، إنما يحملون إليهم من نور الله ليستضيئوا به وليزدادوا نوراً. وحملة العلم سواء كان أدباً أو علوماً طبية، أو غيرها، وسواء كان أصحاب مجلات يتخذونها ندوة للفكر وأصحابه إنما يفترضون على أنفسهم رياضة علمية طويلة شاقة قبل أن يبلغوا مرتبة العلماء. وفي هذه الرياضة العلمية يشترط الإخلاص الذي هو جماع الفضائل وطريق الراغب السالك طريق العلم. وكم من مشتغل بالعلم يمضي ويطويه الزمان الغشوم في غير رحمة بجهوده الطويلة وآماله العريضة؛ فإذا انزل الله نوره على عبيده فتح له من أبواب العلم ونشره ما يرفع له ذكراً.

ومن الذين فتح الله عليهم وهداهم في التاريخ إلى جوانب طريقة فجعلهم مرجعاً للأجيال التي تلتهم والتي تليهم المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي صاحب كتاب اتعاظ الحنفا الذي نشره الدكتور جمال الدين الشيال. فقد امتاز المقريزي بنظرات طريفة وملكات مواتية، وجلد على العمل وتوفيق رباني عجيب فيما ألف. وترك من بعده أخباراً تاريخية طويلة تقع في مجلدات عديدة ضخمة، بعضها معروف منشور وبعضها مخطوط ينتظر النشر. وقد عنى بنشر كتب المقريزي جماعة كبيرة من أجلة المؤرخين منهم الأستاذ فيت مدير دار الآثار العربية الملكية المصرية الآن، ومنهم الدكتور زيادة أستاذ التاريخ المصري بجامعة فؤاد، ومنهم ناشر كتاب ألفاظ الحنفا الدكتور الشيال، الذي نتحدث عنه اليوم.

وليس هذا أول كتاب ينشره الدكتور الشيال للمقريزي، فقد نشر له من قبل كتابين قيمين، الأول كتاب كشف الغمة الجامع لأخبار الأزمات الاقتصادية، وهو على حجمه جليل القدر عظيم النفع، والثاني: نحل عبر النحل. وهو كتاب قيم بثروته اللغوية الضخمة، كنا نود لو لم يهاجر الدكتور أبو شادي إلى أمريكا حتى يعرف الجمهور ويعرف أمثالنا ممن لا يعرفون عن النحل إلا القليل قيمة هذا الكتاب. أما من الناحية التاريخية، فذلك الكتاب يحوي أخباراً تاريخية قليلة. ثم هذا الكتاب الثالث الذي نعرض له اليوم، وهو كتاب اتعاظ الحنفا. . في تاريخ الدولة الفاطمية. .

وللنشر أصول صارمة تجعل نجرد النسخ مهمة دقيقة مضنية. فإذا انتهى النسخ عنه المخطوطات المختلفة ابتدأت مهمة جديدة هي إقامة النص وإصلاح خلله. فإن كثرة نسخ الكتاب تدخل عليه كثيراً من الأخطاء. ومن الناشرين من يلتزم بعد ذلك توضيح النص بالهوامش.

ولكن مهمة الدكتور الشيال تعقدت لأن المخطوط في برلين ولا سبيل إليه، فرجع إلى نشرة الكتاب القديمة. وكانت مليئة بالأخطاء فأصلح ذلك كله بمقارنة النص المنشور بالنصوص التاريخية الأخرى، ثم إنه التزم التعليق حتى تضخمت الهوامش وبلغت حداً كبيراً. وقد كان ربع هذا كافيا. ومن الخطأ أن يتصور الناشر نفسه شارحاً، فمجال الشرح طويل لا يحتمله النشر. ودليل ذلك إن الدكتور الشيال لم يشرح نقطاً كثيرة تجل عن الحصر كما شرح أشياء كثيرة فوق الحصر. فأنت تتحير حين تقرأ النص بين هوامشه الكثيرة، وقد تهمل هذه الشروح لكثرتها. فإذا صبرت فقرأت كل ذلك وجدت شيئاً غير مشروح إلى جانب شيء مشروح. ولعل أنفع شيء للناشر والكتاب والجمهور جميعاً أن توضع كافة الشروح والتعليقات في مقدمة بأول الكتاب، فيستطيع المستعجل أن يكتفي بها ويستطيع غيره أن يهتدي بها في قراءته الكتاب. وقد جرى على ذلك المنهج كثير من الناشرين حتى أصبح لزاماً علينا أتباع منهجهم إلا إلى منهج أحسن.

وقد كنا نحب أن ينبه الدكتور الشيال قراءه وقراء المقريزي إلى أن هذا الكتاب لا يعد من أئمة كتبه، وأن صبر المقريزي على جمع الأخبار خانه هذه المرة، وأن جزءاً هاماً جداً من الكتاب قد ضاع حتى ليعد الجزء الباقي منه شيئاً يسيراً إلى جانب الضائع. وقد ذكر الدكتور الشيال هذا الفقد، ولم يعلق عليه؛ وقد نلتمس له أعذاراً كثيرة منها أنك إن ألححت في ذلك زهدت القراء أولاً وعدمت الناشر الطابع؛ وفي ذلك كارثة محققة تصيب العلم قبل أن تصيب العلماء. والناس أحوج إلى من يشجعهم ويشوقهم إلى تراثنا العلمي القديم.

ومن حق الناس مع ذلك أن يعلموا أن الكتاب قد يكون مسودات جمعها المقريزي وفي نيته أن يرجع إليها ثم لم يأذن له وقته بذلك. وإنكان من حقهم أن يعلموا أيضا أن ذلك فرض أرجحه أنا، وقد لا يرى الأستاذ الشيال ذلك، وقد يضع هذا الكتاب في مصاف كتبه الأخرى. وقد كان عليه أن يعرفنا بقيمة الكتاب لعله يلفت نظرنا إلى ما لم نلتفت إليه.

فإذا عرفت أنه كتب مقدمة طويلة في خمس عشرة صفحة لم تتسع لذلك التمست له العذر، لأنه يحرص على أن لا تطول المقدمة. ونحن على عكسه كنا نريد أن تتسع المقدمة لذلك وأن تتسع أيضا لكثير من الشرح المودع في الهوامش إيداعا شبيها بالتستر والاستخفاء.

وكل ما مضى ملاحظات عن المقدمة وما كنا ننتظره منها. وهي بعد ذلك مقدمة ممتازة حقا واضحة وضوحا تاما في أسلوب رصين معتنى به. نفهمها بمجرد قراءتها وتستوعب ما يريد صاحبها أن يقول في رفق ولذة، فنحمد له ذلك وتنشط نفسك له.

وإذا كان الأستاذ حريصا على الأسلوب هذا الحرص فإني أرى أن يتجنب المضافات إليها قبل ذكر المضاف؛ فإن للصحفيين أن يستطيبوا ذلك التركيب الخاطئ، أما مثله فلا يقع في مثله. فإن تكرار المضاف إليه مستثقل في العادة وهو لا يجوز في النحو إلا في عطف مل يكثر اصطحابهما مما يرجع إلى صنف واحد، فنقول يد ورجل زيد؛ ولكن لا نقول دار وغلام زيد. ومثل هذا التركيب قد يرد في الشعر للضرورة، ولا يباح في النثر وقد ركب الأستاذ هذا التركيب ثلاث مرات اجتمعت في صفحة واحدة هي صفحة س.

ولنقفز بعد ذلك إلى آخر الكتاب. نجد فيه ملحقات كثيرة منها ما قدمه الناشر على أنه استكمال لنص الكتاب ويدل من الجزء الفاقد، ومنها جداول وضعها الناشر نفسه، وهذه الملحقات كما ترى مختلفة في طبيعتها، بعضها للمؤلف وبعضها للناشر. ولهذا كان من الواجب أن تختلف التسمية باختلاف الملحقات، كأن تسمى ما ينسب منها للمقريزي ذيلا أو صلة وهي تسمية مألوفة معروفة عند القدماء، وكأن تسمى ما ينسب للناشر ملحقا. وشيء آخر، هو أن الناشر جعل كل جدول ملحقا فتكاثرت الملحقات تكاثرا يكاد القارئ يضل في ثناياه. وشيء ثالث، وهو أن أحد هذه الجداول وضع لشرح قسم خاص من الكتاب فإذا طابقت بينهما وجدت الناشر أقام جدوله على رواية واحدة وأهمل سائر الروايات.

ومن قلة الإنصاف للناشر مع هذا أن تجرح هذهالملحقات شيء من النقد. لأن الناشر وفق في جمعها ونصب في البحث عنها وصور بها الجزء الفاقد خير تصوير. ولكنه مجرد تصوير للجزء الفاقد لم يقصد به الحصر. ففي كتب المقريزي عن الفاطميين شيء كثير لم يوضع ضمن الملحقات. غير أن الدكتور الشيال إنما اقتصر على كتاب خاص من كتب المقريزي هو - المواعظ والاعتبار، فنقل عنه، وقد ذكر سببا دعاه إلى ذلك لا نقره عليه، ولكن هذا القسم الملحق قد أحيا الكتاب وصوره لنا فوضع أمام أعيننا الجزء الموجود ورسم لنا تخطيط المفقود منه.

ولنرجع بعد ذلك إلى الكتاب نفسه لأننا لم نعرض إلى الآن إلا لمقدمته وملحقاته.

الكتاب منشور نشرا صحيحا سليما. نظر فيه الأستاذ الناشر فأمعن النظر، وجبر أخطاء النشر القديم، وتكلف في سبيل هذا التصحيح عناء وجهدا يستحقان كل الحمد والثناء، فرجع إلى مراجع كثيرة ضبط بها النص: والمعروف أن التزام النص دون مسه إلا بالاختصار قاعدة جرى عليها القدماء، لاعتبارهم التاريخ علما نقليا لا يجوز التصرف فيه إلا بأقل قدر مستطاع. وضبط الدكتور الشيال كذلك أسماء الأعلام وأسماء الأماكن ضبطا تاما، وعرف بها، فرجع في ذلك إلى المصادر التاريخية والجغرافية القديمة. وقد كان ينبغي عليه أن يزيد على ذلك فيضع في الكتاب خريطة جامعة. ثم حسنة أخرى: هي أنه فصل النص إلى فقرات، وأضاف إليه عناوين دون أن يتجاوز الحد. ولم يضع هذه العناوين جزافا، وإنما أخذها من مصادرها. فاستقام له النص استقامة محمودة، وأصبح مفهوما واضحا. وهذا غاية ما ينتظر من الناشر الأمين، والمؤرخ المثبت.

غير أن الكمال لله وحده، هو وحده المنزه عن السهو والخطأ. وقد تورط الناشر في أخطاء قد يحسن التنبيه إليها. أما بعضها فيتصل بقراءة النص وهو قليل جدا. أما بعضها الآخر فلا نشك أن المطبعة هي التي ورطته فيه. ومثل هذه الأخطاء المطبعية مما يقع فيه الناس جميعا، ومما يقع فيه الناقد نفسه أيضا. ولكن ذلك لا يبررها.

وقد كانت مطبعة بولاق الأميرية تحسن ضبط الطبع؛ والمطابع في أوربا اليوم تعنى بضبط الطبع أكبر عناية، وتتخذ المراجعين على حسابها، ولا تقتصر على تصحيح المؤلف. بل قد تنبه المؤلف على أغلاط منها عنها. فإن خلل الضبط يمس سمعة المطبعة أكثر مما يمس غيرها. وقد وضع الناشر قائمة طويلة للتصويبات، إلا أنه لم يصوب غير الأخطاء الظاهرة، وترك ما عداها لذكاء القارئ.

والقارئ لا يحب في العادة أن يتعدى دور القراءة والاستفادة؛ فإذا كلفته فوق ما ينبغي من القراءة أضجرته وأثقلت عليه. ومن حقي أن آخذ له بحقه وأن ألوم المطبعة والناشر.

وكيف لا أولم وقد سمح الناشر لنفسه أن يلوم صاحب النشرة الأولى، وأن ينبه على أغلاطه واحدةً واحدة. ووجد هذه الأغلاط رغم اليقظة وتحرى الضبط توضح لك ما قلته منذ حين: وهو أن كثرة النسخ تدخل على النص من الأغلاط ما لم يكن فيه. ولهذا كان النشر فنا من الفنون التي تحتاج إلى طبيعة خاصة، وكان الناشر جديرا باحترام القارئ وتسامحه واحتمال ما يقع فيه من سهو. وإليك الأخطاء التي وقعنا عليها:

لعلي بن أبي طالب ولدان سماهما عمر، وميز بين العمرين بالأكبر والأصغر، فلما جاء ذكر أحدهما (ص6) أصلح لفظ الأكبر وجعله الأصغر، ثم جاء ذكر الأصغر (ص7) فلم يدخل عليه تعديلا ولم ينبه عليه، فترك في النص عمرين أصغرين.

وفي ص8: فولد الحسن. . . وحسنا وإبراهيم وجعفر، (بدون النصب في جعفر) وشبيه بهذا أو من قبيله ص10 س4.

وقد ترك النص غير مستقيم ص99 س7، 8، وكان إصلاحه ميسورا. ومن هذا القبيل أيضا ص112 س12، 13 لو حذف: (فتح سوسة بالسيف) لاستقام النص. وشبيه به لفظ (فوقع) ص122 س15، ثم ص123 س6، فإنه غير مفهوم.

وفي ص124 س13 ذكر قلعة كتامة نقلا عن ابن الأثير وهي قلعة كيانة. والفرق بين. وقراءته على ماأراد الناشر فوقع في خطأ أكبر.

وفي ص186 س6 قال: (دخل المعز لدين الله أفريقية) وصوابها: رحل المعز لدين الله (عن) أفريقية. والتاريخ المذكور لحركة المعز هذه هو الذي يحتم تصحيحنا.

وقد يريد الناشر التنبيه على قراءة مخالفة، ثم نجد القراءة المخالفة في الهامش كالأصل في المتن مثل ص106 هـ5، ومثل ص144 هـ2، ص130 هـ2.

ثم إن من الهوامش ما يطول من غير مبرر ظاهر مثل هامش ص2، وقد كان يكفي الإشارة إلى صفحتي و، ز، من المقدمة. ومثل هذا هين، وقد يستلطف التكرار. غير أنه في ص35 أحال في الهامش رقم 1 إلى الذي يليه مع أن الذي يليه لا يتصل به إطلاقا.

أما الأخطاء المطبعية اليسيرة فكثيرة العدد، وقد تقدمنا بلوم المطابع ووفيناها حقها من اللوم والفائدة من التنبيه على هذه الأغلاط ضئيلة ليسرها. ولذلك نضرب عن ذكرها.

ولنلخص ما قلنا: مقدمة رصينة واضحة، ونص أقيم خير إقامة، وملحقات بعضها تذييل من كتب المقريزي، وبعضها جداول من وضع الناشر. ثم شروح مستفيضة. فإذا استثنينا الأخطاء التي وقعنا عليها، لم نجد غير انتقادات على الشكل في ذاته وتوزيع الشروح في كل مكان.

وحسب الأستاذ الناشر أننا نثني على ضبط النص، فذلك أساس عمله. أما ما عداه فهو متفضل به على القارئ رغبة في معونته وحرصا على نفعه.

ولنا إلى ذلك ملاحظات على قائمة المراجع وعلى الفهرست الأبجدي، ولكنها ملاحظات تتصل بطريقة العرض. وليس لها محل ما دمنا لم نتفق في الشرق العربي بعد على أوضاع ثابتة عامة لها

فالكتاب كما ترى مضبوط مشروح، فلا يهولنك ما ترى من كثرة الملاحظات فإنها لا تمس إلا الشكل ونحن إنما نريد بذلك التنبيه على خلل التنسيق.

والدكتور الشيال بعد هذا قد وقف نفسه على تاريخ مصر كما فعل المقريزي وجعله مادة للدروس التي يلقيها في كلية الآداب بالإسكندرية. وقد دفعه حبه لأستاذه عبد الحميد العبادي بك إلى أن يهدي إليه الكتاب، والواقع أن هذا الإهداء قد وقع موقعا حسنا من تلاميذ العميد المؤرخ؛ فإن فضله على أجيال المؤرخين المعاصرين لا ينكر. فهو أول من خرج عن التقليد القديم في دراسة التاريخ الإسلامي، ونحا به إلى الناحية العلمية الصرفة، ثم تبعه تلاميذه وزملاؤه فوجدوه قد شق لهم الطريق وقرب بين منهج الشرقيين والمستشرقين. والعبادي بك في نفوس الآلاف الذين تتلمذوا عليه منذ ربع قرن أو يزيد منزلة كبيرة وتقدير عظيم. فهو شيخ المؤرخين غير منازع. وإن له من تلاميذه كتبا حية. وله مقالات تعد نماذج في ذاتها وصورا رائعة وهي التي نشرها في المجلات، وقد جمع منها ثلاثين مقالة نتناول كلها العصر الأول وعصر بني أمية، وسماها: (صور من التاريخ الإسلامي). أما مقالاته عن العصر العباسي فستظهر قريبا إن شاء الله. ولكن العبادي بك أهل بغير ذلك لكل إهداء وتكريم من تلاميذه الكثيرين. . .

محمد عبد الهادي شعيره

أستاذ مساعد بكلية الآداب بالإسكندرية