مجلة الرسالة/العدد 804/بين البحتري وشوقي
مجلة الرسالة/العدد 804/بين البحتري وشوقي
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
انتهت المؤامرة التي دبرها المنتصر مع الأتراك، بقتل الخليفة المتوكل سنة ثمان وأربعين ومائتين من الهجرة، وكان البحتري الشاعر في المجلس الذي تم فيه ذلك الاغتيال، فثارت عواطفه، فأنشأ قصيدة يرثي بها مولاه القتيل، ويقرع فيها ابنه ولي العهد رأس هاته المؤامرة، ويقول:
أكان ولي العهد أضمر غدرة ... فمن عجب أن ولي العهد غادره
فلا ملّى الباقي تراث الذي مضى ... ولا حملت ذاك الدعاء منابره
ولا وأل المشكوك فيه ولا نجا ... من السيف ناضي السيف غدراً وشاهره
فكانت تلك القصيدة من عوامل الجفوة، بينه وبين الخليفة الجديد. والظاهر أن الشاعر قد اضطهد في بدء ذلك العهد، فنبت به بغداد وسر من رأى، وأزمع الرحيل حتى يعود إلى الجو نقاؤه وصفاؤه، وحتى ترجع حياته إلى سابق عهده بها، لينة سهلة وادعة، فاختار أن يرحل إلى المدائن عاصمة دولة الفرس القديمة، راجياً أن يجد في تلك الرحلة العظمة والتسلية. ولقد أثمرت رحلته تلك القصيدة رائعة قل نظائرها في الأدب العربي كله، وكان لها صدى في نفس شاعرنا المغفور له شوقي، فقد نفى في أيام الحرب العظمى الماضية إلى الأندلس، وظل بها حتى وضعت الحرب أوزارها، فرأى واجباً عليه قبل العودة إلى وطنه، أن يزور آثار العرب التي خلفوها بتلك الديار، وكان البحتري رفيقه في الترحال، وسينيته التي خلد بها إيوان كسرى تملك من شوقي نفسه، قال (فكنت كلما وقفت بحجر، أو أطفت بأثر، تمثلت بأبياتها، واسترحت من مواثل العبر إلى آياتها، وأنشدت فيما بيني وبين نفسي:
وعظ البحتري إيوان كسرى ... وشفتني القصور من عبد شمس
ثم جعلت أروض القول على هذا الروي، وأعالجه على هذا الوزن، حتى نظمت هذه القافية المهلهلة.
بدأ الشاعران قصيدتهما محنقين مما رمتهما الأيام به؛ أما البحتري فسر حنقه خوفه على رزقه أن يطفف، وخشيته على عيشه أن ينقص: بلغ من صبابة العيش عندي ... طففتها الأيام تطفيف بخس
وبعيد ما بين وارد رفه ... علل شربه ووارد خمس
وكأن الزمان أصبح محمولاً هواه مع الأخس الأخس.
وهنا يثور فيه الحنين إلى وطنه الشام، فيرى أنه لم يكن حكيماً، يوم باع هذا الوطن، واشترى به العراق، ولكنه لا يسرف في هذه الثورة، ولا يطيل، بل يكتفي بقوله:
واشترائي العراق خطة غبن ... بعد بيعي الشآم بيعة وكس
أما شوقي فيبدأ بالحنين إلى الشباب وملاعب الشباب، والحنق على هؤلاء الذين حرموه الإقامة في وطنه، وأبعدوه عنه، ويرق شوقي في حديثه عن قلبه الذي لم يسل بلاده، فهو متنبه مستطار، إذا استمع إلى البواخر مقلعة أو عائدة، فيقول:
وسلا مصر، هل سلا القلب عنها ... أو أسا جرحه الزمان المؤسي
كلما مرت الليالي عليه ... رق، والعهد في الليالي نفسي
مستطار إذا البواخر رنت ... أول الليل أو عوت بعد جرس
راهب في الضلوع للسفن فطن ... كلما ثرن شاعهن بنفس
فهذا القلب يكاد يطير من بين أضالعه كلما أصغى إلى باخرة تصيح في هدأة الليل، وهو كالراهب المتبتل يدق ناقوسه، كلما ثارت سفينة، تزمع الرحيل؛ وهنا يأسى شوقي لحرمانه من وطن ينعم به حتى غير أهله وذويه:
إحرام على بلابله الدوح، حلال للطير من كل جنس.
وإذا كانت ثورة البحتري على بعده عن وطنه قد وقفت عند حد إعلانها، فلم يحدثنا عن هذا الوطن قليلاً ولا كثيراً، فإن الذكريات تتهال على شوقي، وصورة بلاده تتمثل أمامه، فيطفئ شوقه بالحديث عن طبيعتها حيناً، وعن آثارها حيناً آخر، وإنه ليسمو إلى أبعد الغايات في تصوير هذا الشوق إذ يقول:
وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهفا بالفؤاد في سلسبيل ... ظمأ للسواد من عين شمس
شهد الله لم يغب عن جفوني ... شخصه ساعة ولم يخل حسي
وينتقل خيال شوقي بين الإسكندرية، وعين شمس، والجزيرة، والنيل، والجيزة، وبين الأهرام وأبي الهول، وإذا كنت لا أستسيغ بعض أخيلة شوقي هنا: كتصوير الجزيرة عرساً:
قدها النيل فاستحت فتوارث ... منه بالجسر بين عرى ولبس
أو تشبيه الأهرام بميران فرعون.
أو قناطيره، تأنق فيها ... ألف جاب وألف صاحب مكس
فإن حديثه عن أبي الهول حديث معجب حقاً، يبعث في النفس تعظيم الأثر، ومقيمي الأثر.
ورهين الرمال أفطس إلا ... أنه صنع جنة غير فطس
تتجلى حقيقة الناس فيه ... سبع الخلق في أسارير إنسي
ثم يقف شوقي مستلهماً العظمة من حوادث الأيام، فيرى دولاً تقوم، وأخرى تسقط، وملوكاً ينهضون بالملك ثم لا تلبث شمسهم أن تتوارى. وهنا ينتقل انتقالاً طبيعياً إلى حديث إلى الحديث عن دولة العرب في الأندلس، فيقف عند آثارهم الأكاسرة يستلهمها، وهنا يبدو تأثير البحتري واضحاً في شوقي، فقد وصف البحتري ما رأى بعينه، وصور له الخيال ماضي تلك الآثار، فرسم ما تخيل، ووازن بين الماضي والحاضر، وكانت تلك الموازنة مصدر التأسي والاعتبار، وعلى هذا النسق سار شوقي في قصيدته الأندلسية.
راع البحتري ما رأى من خالد الأثر، فأنطلق يعلن إعجابه، معترفاً بأن تلك الآثار الجليلة لا يمكن أن يوزن بها أطلال العرب ولا آثارهم في صحاريهم المقفرة:
حلل، لم تكن كأطلال سعدي ... في قفار من البسابس ملس
ومساع لولا المحاباة مني ... لم تطقها مسعاة عنس وعبس
ولقد كان البحتري متفنناً مارهاً، يحاول أن ينقل إليك الأثر الذي أحس به عندما وقف أمام آثار الفرس، فيلجأ إلى التشبيه حيناً، والى تصوير ما رآه حيناً آخر، والى الخيال يكمل به الصورة، حتى تصبح واضحة مؤثرة: فهذا الجرماز - قد صار مقفراً مهجوراً، يوحي إلى النفس بالوحشة التي تملؤها عند رؤية القبور، وإن في هذا القصر من العجائب ما يدل على عظمة منشئيه، ومن بن ذلك صورة تسجيل معركة حربية دارت بين الروم والفرس عند مدينة أنطاكية، وقد وقف الشاعر أمام هذه الصورة مذهولاً لما فيها من الدقة والإحكام؛ فهذا أنوشروان يقود الجيش، مدفوعاً إلى القتال بهذا العلم المنصوب، ويحفز الهمم ويحث العزائم، وقد ارتدى المليك لباساً أخضر، وامتطى صهوة حصان يزدهي عجباً، ويختال تحت راكبه، وهذا الجيش قد أقبل على المعركة يصطلي نيرانها، ولا تكاد تسمع إلا صوت السلاح، فهذا جندي يقبل على عدوه بالرمح، وذاك يثقي السنان بالترس، ولقد بلغ من أحكام تلك الصورة أنها تخيل لرائيها أن ما يراه جيش حقيقي لا صورته، كما ملأ الوهم نفس البحتري، فأقبل يلمس الصورة بيده، ليتأكد أنها صورة لا حقيقية، قال:
فإذا ما رأيت صورة أنطاكية ... ارتعت بين روم وفرس
والمنايا موائل، وأنو شروان ... يزجي الصفوف تحت الدرفس
في اخضرار من اللباس على ... أصفر يختال في صبيغة ورس
وعراك الرجال بين بديه ... في خفوت منهم وإغماض جرس
من مشيح يهوي بعامل رمح ... ومليح من السنان بترس
تصف العين أنهم جد أحياء ... لهم بينهم إشارة خرس
يغتلي فيهم ارتيابي حتى ... تتقراهم يداي بلمس
وهذا الإيوان في القصر الأبيض عجيب الصنعة تراه فيخيل لهذا الكآبة التي تغمره أنه مزعج بفراق إلف عزيز عليه، أو مرهق بتطليق عرس، فكأنه يشعر بأحداث الزمان، ويحس بثقله عليه، ولكنه يحتمل متجلداً، وبرغم ما أصيب به من استلاب زينته، وعرائه من بسط الديباج، وستور الدمتس، لد يزده ذلك إلا عظمة وجلالاً؛ وبجمل الشاعر إعجابه الذي لا حد له في قوله:
ليس يدري، أصنع إنس لجن ... سكنوه، أم صنع جن لإنس
وهنا يسبح الخيال بالبحتري، فيعود به إلى عهد العظمة والمجد، الذي ظفر به القديم هذا القصر الموحش الضخم، فها هو ذا المليك بين حاشيته، وقد جلسوا في مراتبهم، يستقبل الوافدين عليه في إجلال وخشوع، بينما القصر يموج بمن فيه: قيان يملأنه بالغناء، ويعمرنه بالسرور؛ أما اليوم فقد انقضى كل شيء، وصار موضع عظة وعبرة، ولا يبخل البحتري على القصر بدموع يذرفها، برغم أن الدار ليست داره، ولا الجنس جنس قومه، ولكنه يحفظ للفرس هذه اليد التي أدوها إلى اليمنيين أهله، يوم أعانوهم على التخلص من غزو الجيش الذي بعثوا إليهم بجيش يقوده أرياط، ونشتم رائحة الشعوبية من بعض أبيات القصيدة كما مضى، ومن هذا البيت الأخير الذي ختمها به، وفيه يعلن إعجابه بالأمجاد من جميع الأجناس، لا فرق بين عربي وعجمي، قال:
وأراني بعد أكلف بالأشراف طراً من كل سنخ وأس ويسير شوقي هذا النهج تقريباً؛ يصف الأثر في حاضره، ويمضي به الخيال إلى الماضي، فيصف ما كان له من أبهة وجلال.
زار شوقي قرطبة فراعه ما آل إليه أمر تلك العاصمة القديمة فقد انتقص الدهر أطرافها فعادت قرية حقيرة لا شأن لها، بعد أن كانت في القديم على عهد العرب، أعظم بلاد أوربا وأرقاها، يقول شوقي:
لم يرعني سوى ثري قرطبي ... لمست فيه عبرة الدهر خمسي
يا وقي الله ما أصبح منه ... وسقى صفوة الحيا ما أمسي
قرية لا تعد في الأرض كانت ... تمسك الأرض أن تميد وترسي
غشيت ساحل المحيط وغطت ... لجة الروم من شراع وقلس
وإذا كان البحتري قد تخيل قصور المدائن وجلالها، فقد تخيل شوقي قصور قرطبة وأبهتها، وقلده في تصويره الناصر تحت الدرفس. ويعود البحتري إلى يقظته فيرى الدار خلاء، كما عاد شوقي إلى يقظته فوجد الدار ما بها من أنيس، وخص البحتري الإيوان بجزء من قصيدته بمجده، وشوقي قد خص المسجد العتيق بجزء من شعره يخلده، وأرى هذا الجزء أروع أجزاء القصيدة وأقواها، إذا استثنينا تشبهه أعمدة المسجد بألفات ابن مقلة، إذ هو أشبه بوزن الجبلة بالنملة. أما الأثر الذي أحس به شوقي عندما وقف أمام هذا المسجد العتيق، فقد نجح في تصويره تصويراً ينقل هذا الأثر إلى نفوسنا، إذ يقول:
ورقيق من البيوت عتيق ... جاوز الألف غير مذموم حرس
أثر من (محمد) وتراث ... صار (للروح) ذي الولاء الأمس
بلغ النجم ذروة وتناهى ... بين (ثهلان) في الأساس و (قدس)
مرمر تسبح النواظر فيه ... ويطول المدى عليها فترسى
وسوار كأنها في استواء ... ألفات الوزير في عرض طرس
فترة الدهر قد كست سطرَيها ... ما اكتسى الهدب من فتور ونعس
ويحها، كم تزينت لعليم ... واحد الدهر واستعدت لخمس وكأن الرفيف في مسرح الع ... ين ملاء مدنرات الدمقس
وكأن الآيات في جانبيه ... يتنزلن من معارج قدس
منبر تحت (منذر) من جلال ... لم يزل يكتسبه أو تحت (قس)
ومكان الكتاب يغريك رياً ... ورده غائباً فتدنو للمس
صنعه الداخل المبارك في الغرب، وآل له ميامين شمس ومما لا ريب فيه أن الذي أصبح خلاء مقفراً، خلده شوقي في شعره؛ ويقف شوقي حزيناً كئيباً، يتخيل العرب وهم يغادرون بلاد آبائهم في ذله وضعف فيقول:
خرج القوم في كتائب صم ... عن حفاظ كموكب الدفن خرس
ركبوا بالبحار نعشاً وكانت ... تحت آبائهم هي العرش أمس
رب بان لهادمٍ، وجموع ... لمشت، ومحسن لمخسّ
إمرةُ الناسِ همة لا تأتي ... لجبان، ولا تسنى لجبس
وإذا ما أصاب بنيان قوم ... وهي خلق، فإنه وهي أس
وكما ختم البحتري قصيدته بشكر الفرس على ما كانوا قد أسدوه إلى قومه اليمن، من سابق اليد، ختم شوقي قصيدته بشكر الأندلس على ما قدمت إليه من كرم الضيافة له ولا بنيه.
أحمد أحمد بدوي