مجلة الرسالة/العدد 803/طرائف من العصر المملوكي
مجلة الرسالة/العدد 803/طرائف من العصر المملوكي
رسالة الدار عن محاورات الفار
أو فن القصة
للأستاذ محمود رزق سليم
هذا عنوان طريف حقاً يثير الطرب، ويدفع السامع إلى تلمس الأثر واستطلاع الأثر. فكم للفار بين الدار من آثار، وكم للدار عند الفار من أخبار، وما ينبئك مثل خبير. فهو ربيب فتوقها ودعي شقوقها. أتخذ من أحجارها مأمنه، وبين جدارها مسكنه. فحفظ أخبارها وكتم أسرارها. والدور تتقلب بها الأيام كما تتقلب بالرجال. فتشقى مرة وتسعد أخرى. وتفيض تارة بالخير، وتبوء تارة بالفراغ منه. وعليها من خارجها طلاء يغشي جدرها، يبهر العين ويخدعها عما رواءها.
أما الفأر فهو بها الضيف المقيم، والزائر الذي لا يريم. يشاركها في سرائها وضرائها. يسعد إذا هبت عليها انسام السعادة، ويشقي إذا عصفت بها ريح الشقاء.
وكثيراً ما تضم دور الكرماء طوائف الفيران وجماهير الجرذان. ولها مما فضل نصيب، تمد منه الموائد، وتتنادى إليها ضيافن، لم يوجه لها نداء ولم يرسل إليها استدعاء، فحسبها أنها في دور الكرماء! فتملأ البطون وتعبئ الحصون، وتسهد إلى وقت سامرة، وتنقلب إلى مخادعها شاكرة ذاكرة - أما دور البخلاء - جنبت جنابها ووقيت أعتابها - فإنها لا فضل فيها لجائع، ولا ثمالة لظامئ، ولا ستر لمحروم. طالما نصب أهلها للفأر المصائد، ودبروا المكائد. فأنقلب عنهم ساباً شاتماً يذكرهم بكل قبيحة، ويرميهم بكل مذمة: ونفسه فياضة منهم بالعجب لأنهم يختزنون - فضلاً عن المال - ألواناً من الطعام والشراب. فإذا لم يكن للفأر فيها نصيب، فلمن يختزنونها، ولأي شيء يقتنونها؟
والعجب كل العجب أن يلتئم الغنى والبخل، وينسجم الفقر والبذل! أما الأغنياء فبخلاء، لا ينون بأس الأناقة والنظافة، والخوف من الداء وانتشار الوباء، يرأبون الصدوع، ويسدون الفرج، ويغلظون الدهان، ويبثون الفخاخ. وإذا طعموا فبالقسطاس، وإذا شربوا لا يبقون في الكأس. وإذا افضلوا فاليسير من الفتات الذي لا يصلح للأقوات؛ فلا يقوى عليه الضعيف، ولا يسمن منه النحيف.
أما الفقراء فكثير منهم كرماء. ينضحون بالبر على بني الحيوان من الإنسان وغير الإنسان. يتهاونون في الحرص على أطعمتهم وأشربتهم، ويهملون الجدار حتى يمتلئ بالأحجار، فتعج بالزائرين من كل أمة.
والفأر بينهم من الأعيان، يجد في الدار مسرحه، وفي الجدار مطرحه. وله بين هذا وتلك ما شاء من طعام وشراب. . .
وتنعقد بينه وبين الدار صحبة يمتها المقام ويمكنها الألف، فلا يني كلما بان عنها يذكرها، وهي لا تفتأ كلما غاب تتفقده. . . ولو على رضا منه، وكره منها.
وكثيراً ما تنتقل الصحبة بينهما من الدار إلى أصحابها، ومن الجدر إلى أربابها. فتزول الوحشة، ويقوى الأنس، وتستأنس العين. حتى ترى وفود الفأر ترى زرافات لا تهاب ولا توجل. وتدير أعينها ف الحاضرين كأنما تتقاضاهم أجر الحراس وثمن الإيناس. . .
وهذه الدار التي تنشر رسالتها وتقص للناس قصتها، وتحب أن تحدثهم عن الفار ووفوده إليها، وتبسط لهم ما دار بينها من الحوار عن عهد رخائها وبؤسها، وأيام عزها وليالي تعسها، هي دار شاعر! عاش في العصر المملوكي. وهو عصر، كما علمنا، لم يدر للشعراء دره، عاشوا فيه عيش الحرمان، بينما سال سيل خيره في غير مجاريهم، وفاض ثريره دون وديانهم.
أما الشاعر فهو صفي الدين الحلي الذي طوحت به الأيام فنزح عن بلاده، وحمى آبائه وأجداده، إلى ملوك بني أرتق بماردين، وتنقل في مساكنها من دار إلى دار، حتى استقر في (دار ابن الدكناس) وكتب على لسانها هذه الرسالة.
ولهذه الرسالة أو المقامة سبب اتخذه الشاعر الناثر وسيلة لأن يكتبها على لسان داره.
وقد أفصح عن هذا السبب بقوله:
(وأنشأ عن لسان الدار التي أسكنها بماردين، وتعرف بدار ابن الدكناس، إلى القلعة الشهباء. وأرسلتها إلى السلطان الملك الصالح أبي المكارم شمس الدين. أشكو بفحواها مماطلة نائب له بدين، كان بضعه لي، وبعضه على يدي، بمبلغ طائل كتبه على نفسه، وأخرجه على مصالح الدولة، وتعذر عليه وفاه. ولم أؤثر مخاشنته لسابق صحبة بيننا. فأنشأتها على سبيل الخلاعة والمزاج. فلما وقف السلطان عليها أطلق المال من خزانته العالية.) الخ.
وقد بدأت الرسالة بأن تكلمت الدار. فسمت، وتقدمت وتسمت. وأخذت تخاطب القلعة الشهباء مقام الملك الصالح فمدحتها وأثنت عليها. ثم انتقلت إلى الشكوى مما أصابها من هجر مالكها الأول، بعد أن رأت ضروباً من العز والنعيم والتمتع. ثم مما كابدت من بعده من هم وبؤس. حتى هال فيرانها بؤسها، فتحدثت عنه فيما بينها، وأهمها أمرها، فتناقشت فيه واتخذته موضوعاً لجدال جاد.
فقام من بين الفيران خطيب سرد قصة الدار على سامعيه، ثم أوصاهم بالساكن الجديد خيراً - والساكن الجديد هو صفي الدين! - ثم تحدثت الدار عما كان من أمر صفي، وكيف أنه أعاد إلى رحابها عهد السرور والأنس، ومد فيها موائد الحبور والبهجة، حتى ضاقت ذات يده، وتغيرت به الأحوال، وتقلب عليه الليل والنهار. حتى جأرت الدار بالشكاية له ورثى لحاله فيرانها، وعاد أمره بنها مثاراً لجدل جديد. . .
ثم بينت أن سبب نكبته، ذلك الدين الذي أقرضه لنائب السلطان. . . وتضرع الدار في الخاتمة إلى القلعة الشهباء أن ترثي لحالها وتقبل شفاعتها في ساكنها، حتى يرد إليه دينه فتسعد حاله.
هذا ملخص سريع لمقامة صفي الدين. ومما قالته الدار في مفتتحها:
(بسم الله الرحمن الرحيم. المملوكة والمحرومة المرحومة، الموحشة بعد الإيناس، دار ابن الدكناس، تقبل الأرض بين يدي القلعة الشريفة، والذروة المنيفة. العزيزة الثناء سيدة القلاع، وواسطة عقد البقاع، وإنسان عين اليفاع، التي قلائدها النجم، ومطارفها الغيوم، وقرطاها الفرقدان، وقلباها السما كان. ونطاقها الجوزاء. وعجولها العواء. وفرقها المجرة، ونثر إكليلها إلا كليل والنثرة، حصن النجباء وكهف الغرباء وكعبة الأدباء. القلعة الشهباء.). . . الخ ومن شكواها قوله:
(وتنهى أن المملوكة، والمظلومة المضنوكة، يسكتها الحياء والأدب. وينطقها الإعياء والنصب. وشكوى الجماد إلى الجماد، كشكوى العباد إلى العباد. وإن المعهود، من تقادم العهود، أن الله إذا خص مخلوقاً بنعمه، عم بها أبناء جنسه، وأشركهم فيها مع نفسه). إلى أن قالت نصف حالها بعد ساكنها: (فلما طوحت بساكنها الأيام، إلى أقصى الشام، جفاها الإخوان حيناً طويلاً، وهجرها الرفاق هجراً طويلاً، فكابدت بعده هما وبوسي، وأقامت فارغة كفؤاد أم موسى. لا تجد أنيساً في عراصها القفار، ولا تسمح حسيساً غير صهيل الفار. حتى رثت لها أكثر البيوت، وخيم على وجهها أسرة العنكبوت). . . الخ.
ومن كلا م الجرذ الخطيب في إخوانه، قوله بعد حمد الله والصلاة على النبي بتطويل وتنويع، موصياً إخوانه بحسن لقاء الساكن الجديد - صفي الدين - راسماً لهم سياسة هذا اللقاء: (هذه الدار المباركة أول تربة بركم أترابها. وأول أرض مس جسمكم ترابها. فلا يمكن على أيديكم خرابها. ألا وإنها منذ خلا مسكنها من ساكنها، وتمكن العفاء من أماكنها، جعلتموها ندوة نهاركم وليلكم، وحلبة رجلكم وخيلكم، والآن فقد أنجابت عنها أيام البئوس، وأفلت طوالع النحوس، ولحظها الدهر بعين الرضا، وقضى بسعدها فصل القضا. وتولاها نعم المولى. وابتدر لسكناها الصفي الحلي. وفي يومكم هذا يرسل إليكم من يلم شعتها، ويطهر خبثها. ومتى رآكم بها ساربين وفي قرارتها راسبين. كره مغناها، واتخذ لنفسه سواها. فعاد ربعها كالرمس. ومتى تقبلها إذا قابلها، أخصب ربعها، وتعدى إلينا نفعها. ألا وإن من استرشد بحكمتي، واتبع كلمتي، أثبته في أمتي، وأتممت عليه نعمتي). . .
والرسالة تقع في نحو سبع صفحات من القطع المتوسط. وهي فكاهية المنزع إلى حد كبير، جميلة الأسلوب رقيقة العبارة تمتاز عن رسائل صفي الدين الأخرى، بالوضوح والسلاسة بالرغم من قيود البديع التي راعاها؛ ولكنها سلمت من التعسف والثقل. وبها بعض الملتزمات اللفظية التقليدية المرعية في رسائل العصر من نحو (المملوكة) و (تقبل الأرض)
و (تنهى). واجتمعت بها أغراض كتابية عدة منها الدعاء والشكوى والمدح والوصف والمجون والحكمة0
وقد عرضنا في هذا المقال لهذه الرسالة لكي تبرز إحدى خصوصياتها الهامة، وهى القص والحوار0 ونستطيع أن
نفهم منها أن فكرة النثر التمثيلي كانت تتراءى في مخيلات بعض الكتاب في ذلك العصر0 وان نقصها شئ من الإطالة ,
والتناسق وحسن الترتيب وقوة الحبكة وروعة الوقائع ودقة الاتصال بينها.
حقا! أصبحت القصة في عصرنا الحديث في مقدمة فنون القول , وكذلك التمثيليات. وألف من هذه وتلك، وترجم عدد
لا بأس به. وتناولها النقاد على اختلاف نزعاتهم بالنقد والتنويه والتعليق والتوجيه. وهم يبذلون محاولات جاهدة لكي يقننوا نقدهم، ويضعوا له الأسس والمناهج، حتى يعاونوا على تشييد صروح القصة والتمثيلية على دعائم متينة تسمق بفضلها إلى الكمال المنشود.
غير أننا نكلف الأيام ضد طباعها، ونرهق الزمن بما لا يطيق إذا نحن حاسبنا الأقدمين وفق شروطنا، ووزنا أعمالهم بموازيننا، ضاربين الذكر صفحاً عن الفروق بين ملابساتنا وملابساتهم، واتجاه الزمن بنا وبهم.
والذي نحب أن ننوه به هو أن القصة كانت لها حياة، وكان لها وجود، في العصر المملوكي، ولو إلى حد ما. وأن من مظاهر حياتها - فضلاً عن القصة الصريحة - المقامات والمحاورات والمفاخرات والموازنات والرسائل والوصفية، وتراجم الرجال والأبطال.
وفي مقدمة ما نشير إليه من ذلك كله كتاب (فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء).
ومؤلف هذا الكتاب هو شهاب الدين أحمد بن عربشاه الطبيب والمؤرخ الأديب صاحب كتاب (عجائب المقدور في أخبار تيمور) أصله دمشقي أنصاري، ولد بدمشق عام 791هـ، وقد هاجر مع أسرته منها حينما دهمها تيمور لنك التتري، وطوحت به الأيام حتى طاف بآفاق أسيوية عدة، ثم عاد إلى بلاد الأتراك العثمانيين واشتغل في ديون إنشائهم، وأتقن عدة لغات، ومهر في جملة علوم. واعتزل العمل بأخرة، وعاد إلى وطنه. ويمم شطر حلب، وزار في عهد سلطانه جقمق العلائي وقال السخاوي إنه لقيه بها عام 850هـ. وقد لبث بمصر حتى وافاه أجله عام 854هـ ودفن بالخانقاه الصاحية.
نعود بعد هذا إلى كتابه (فاكهة الخلفاء). فهو مؤلف قصصي بديع، اجتمعت فيه الأمثال واكتنزت به الحكم وتجلت لبه ضروب الدهاء والحيل، وغير ذلك من عدالة وصدق وأخلاق إنسانية، لا بأسلوب فج جامد خشن صريح، ولكن بأسلوب قصصي جذاب ممتع فيه خيال وتصوير، فروي على ألسنة الحيوان مما يمشي على أربع، ومما يطير بجناحين، ومما يزحف على بطنه، فهو إذاً غير مبتكر لهذا الضرب من القص، فقد سبقه به في العربية عبد الله بن المقفع أول من سن هذه السنة الحسنة لمن جاء بعده من الأدباء والقصاصين في كتابه (كليلة ودمنة) غير أن ابن عربشاه كان مبتكراً في صلب القصص ومتن الحكايات. وقسم الكتاب إلى عشرة أبواب في كل منها قصة طويلة يستطرد خلالها إلى قصص جزئية أخرى. ومن أبوابها - على سبيل المثال - باب في نوادر ملك السباع ونديميه أمير الثعالب وكبير الضباع. . .
وقد جمع ابن عربشاه في أسلوب قصصه بين طريقة ابن المقفع وطريقة كتاب المقامات وبخاصة الهمذاني والحريري.
فابن المقفع ابتدع - شخصية (دبشليم) الملك أحد ملوك الهند، يجلس في محفله ويطلب إلى شخصية أخرى هي (بيدبا) الفيلسوف أن يحدثه ويضرب له الأمثال، فيحدثه بيدبا ويقص قصصه على ألسنة الحيوان. وكذلك فعل ابن عربشاه فإنه افترض ملكاً عظيماً يحدثه رجل حكيم. ولكن بفارق يسير. ذلك أن الملك والحكيم كليهما أخوان لأب واحد كان من قبلهما ملكاً عظيماً خلف أبناء خمسة. وملك من بعده كبيرهم هذا وعاش الأربعة تحت ظله في وئام وطاعة، حتى عصفت بينهم ريح الشقاق والخلف. فتنافرت القلوب وتجافت النفوس وتفرقت الأهواء، فهال الأمر أصغرهم واسمه (حسيب) وكان حكيماً فيلسوفاً زاهداً. ولك يتركه أهل النم والوقيعة حتى أفسدوا ما بينه وبين أخيه الملك. فجمعه الملك في حفل من أعيان دولته، وأخذ يستطلع علمه وحكمته رغبة في التشهير به وتسفيهه. ففاض بينهم بحكمه وأمثاله، وساق قصصه على ألسنة الحيوان، وتكرر الحفل وتعدد القص، حتى اعترف له الجمع بالفضل والنبل.
(البقية في العدد القادم)
محمود رزق سليم
مدرس بكلية اللغة العربية