مجلة الرسالة/العدد 801/محمد إقبال

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 801/محمد إقبال

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 11 - 1948



شاعر الشرق والإسلام

للأستاذ مسعود الندوي

1389 - 1873 1357 - 1938

يعرف قراء العربية شيئا كثيرا عن زعيم الهنادك غاندي وزعيم الهند الإسلامية دفين الحرم القدسي الشريف محمد علي رحمه الله، وشاعر بنغال طاغور وغيرهم من رجال الهند وزعمائها. ولكن معرفتهم بشاعر الشرق والإسلام الدكتور محمد إقبال ضئيلة جدا. والتبعة في ذلك علينا، إذ لم ننقل أفكاره إلى لغة الضاد، حتى فاضت قريحته بهذه الشكوى اللطيفة:

نواث من به عجم آتش كهين افروفت ... عرب زنغمة شوقم هذوزب جراست

لقد أذكى شعري النار الخامدة في قلوب العجم، ولكن العرب لا تزال تجهل ما أبثه من آيات الوجد والشوق.

لذلك رأيت أن أتحدث إلى قراء الرسالة - وهم الصفوة المختارة من قراء العربية - عن محمد إقبال، الشاعر الحكيم الذي أوتي نورا من القرآن الكريم، وقبساً من أسرار الكون، ومنحة الله نظرة ثاقبة في حوادث المستقبل، وبصيرة نافذة في حقائق الأشياء.

نعم، أريد أن أتحدث عن الرجل الذي يقظ في شباب الأمة وشيوخها فكرة الاعتزاز بالقومية الإسلامية، وجعل من هذه الأمة البائسة المسكينة أمة قوية الشكيمة، متعصبة العزيمة، وثابة إلى المجد، حريصة على تراث أسلافها.

أني أود أيها القارئ العربي، أن أعرفك بالشاعر الحكيم الذي جعل من الشبيبة المسلمة الهندية، وهم متعمقون في القوية الملعونة، مسلمين صادقين مؤمنين بالوحدة الإسلامية محاربين لنزعات الإقليمية والجمود والإلحاد، وما أكثر عددهم؛ فكم من متسكع في ظلمات الزندقة والإلحاد ورد ماء شعره، فوجد فيه ما يثلج الفؤاد، وينور العقل، ويهذب النفس. وكأين من متشكك في عقيدته دخل حديقة شعره الغناء، وهو يريد أن يتنزه بين جداوله وأنهاره فشاهد فيها الزهرة الباسمة التي علقت بفؤاده، والنرجس الغض الذي أسر فؤاده بجمال عينها الصافية بين آونة وأخرى، حتى يشرب في قلبه بعض ما اشرب صاحبها من حب الإسلام والثقافة السلامية.

- 1 -

تخرج محمد إقبال في الكليات العصرية، ودرس فيها علوم الفلسفة والتاريخ إلى أن نال الشهادة العليا في الفلسفة. فعين معلما للفلسفة في الكلية الأميرية بلاهور، وذلك في السنوات الأولى من هذا القرن؛ ثم سافر إلى لندن، وأقام في جامعة كيمبردج زمنا يدرس الفلسفة والحقوق إلى أن منح شهادة المحاماة - ثم سافر إلى برلين لدراسة الفلسفة ومازال بها حتى نال لقب ورجع إلى مسقط رأسه سالما غانما.

نشأ إقبال مفطورا على التأمل والتعمق في حقائق الكون، وبدأ يقرض الشعر وهو في عهد الطلب. وظهرت من أول قصائده إمارات النبوغ والكمال، مع أنها كانت منسوجة على منوال شعراء العصر في الغزل والنسيب؛ ثم اخذ يقرض مقطوعات شعرية في الطبيعة وذكرى بعض الشعراء ورثاء بعضهم حتى ترقت فكرته الشعرية وأخذ يحس بما ناب وطنه وأهله من النوائب، فبدأ يجيش صدره بأبيات في الوطنية تأخذ بمجامع القلوب وتحرك النفوس الخامدة. ومن احسن قصائده في هذا العهد وابلغها أثراً في القلوب قصيدة نفثة مصدور، (تصوير درد) التي صور بها حال الهند السيئة وما فيها من تطاحن وشقاق بين أبنائها. وهي أول شعر مع عرف به الناس أن ناسج برده شاعر مطبوع يلهم القول إلهاما. وكذلك نجد كلمته (بلال) الروح الديني الذي امتاز به الشاعر، والذي جعله في ما بعد يتبوأ كرسي شاعر الإسلام الخالد الذي كان فارغا منذ مئات السنين. وجملة القول أن شاعرنا في أول عهده بالقريض، كان شاعرا مطبوعا وكنيا يترقرق الإخلاص في كل ما يجيش به صدره؛ لكنه لم يكن إذ ذاك الشاعر الحكيم الذي يشعر بتفكك أوصال الرابطة الإسلامية، فيدعو أمته إلى الاستمساك بعروتها الوثقى، وينظر في مساوئ الحضارة الغربية فيحذر أهل الشرق من الوقوع في شركها والانخداع بمظاهرها الخلابة. . .

- 2 -

سافر محمد إقبال، أستاذ الكلية الأميرية في لاهور إلى لندن وبرلين ليتخصص في الحقوق والفلسفة، وقد شاهد الناس هذا الشاب الهندي في جامعات كيمبردج زبرلين مكبا على دراسته، مشتغلا بالبحث والتنقيب؛ لكنهم قلما تنبهوا للروح الإسلامي الذي بقي يضطرب طول إقامته بلندن وبرلين، ولم تقع أنظارهم على ذلك الشاب المسلم الذي ظل يراقب أحوالهم عن كثب، ومكث يعمل بصيرته في اكتناه أسرار رقيهم، حتى إذا رجع، رجع إلى وطنه مسلما صادقا، قد زادته التجارب قوة إلى قوته الإيمانية وأطلعته الأيام على مصير المسلمين وأسباب تقهقرهم وانحطاطهم.

ذهب صاحبنا إلى أوربا سنة 1905 وقفل منها عام 1908 فكث بها ثلاث سنين، مكباً على دراسته العلمية ما اشتغل في ظلالها بالشعر إلا قليلا. ولكن ذلك النزر القليل الذي فاضت به قريحته في تلك الفترة قد جاء، وعليه مسحة من الشعور الديني العميق، والاشمئزاز من مظاهر التمدن الحديث، والتبرم بالمتفرنجين من أبنائنا. وعلى ذلك فقد أحس أول مرة في أوربا بالجامعة الإسلامية وشعر بأن الوطنية الجغرافية لا تزيد المسلمين إلا تماديا في الغي وبعدا عن منهج الإسلام الصحيح. فتحولت فكرته الوطنية إلى فكرة دينية إسلامية، شاملة لكل من يدين بكلمة الإسلام. ومن هنا ترى أن شعره في هذه الفترة وعلى قلته وابسق فرعا، وأعلى جنى، وأطيب ثمرا منه في دوره الولد فتراه يقول:

نرالا سارى جهال سي اس كو عرب كي معمارني بنا ... بنا مهارب حصار ملت كي اتحاد

وطن يس الله

قد اتخذ (أي دار الإسلام) البناء العربي فنا فريدا ممتازا عن سائر أبنية العالم، فليست الوحدة الوطنية أساسا لبناء قوميتنا.

وكذلك نجده يشكو المتفرنجين المفتتنين بأوربا وبعدهم عن الدين، ويقول بأسلوبه الشعري القديم الآخذ بالألباب نعرب معناها ومجردة عن اللطائف الشعرية:

(بالأمس كان رجل ثائر يبكي ويصرخ على قبر الرسول أن مسلمي الهند ومصر يريدون أن يهدموا بنيان الإسلام، ومهما أراد زوار حرم الغرب هؤلاء أن يرشدونا إلى الخير، فغناهم لا يمكن أن يكون لهم أي سلطان علينا، لنهم طالما غفلوا عن اتباع سننك والاهتداء بهديك).

ثم يقول في هذه المقطوعة ما يبكي له قلب كل مسلم:

(ومن يصغي إلى كلامك يا إقبال؟ فغن الزمان قد تغير وغنك تقص علينا الأحاديث البالية في هذا العصر الحديث).

ولله دره إذ يقول من كلمة له، يخاطب بها القافلين من سفر الحج:

يا ليت من يسأل الحجاج القافلين من بيت الله الحرام: ألم يجدوا هنالك شيئا يهدونه إلينا غير كاس من ماء زمزم؟

وأجود شعره في دوره الثاني، كلمته الموجعة التي رثى بها صقلية حين عودته إلى الوطن. فإنه حينما مرت باخرته على تلك الجنة المفقودة عاودته الذكرى ولم يكد يملك فؤاده وعينه، فبكى ملء عينه وجاد طبعه بأبيات أبكت جما غفيرا من الناس ولا تزال تبكي ألوفا من الشبان.

ولله در تلك القريحة المبدعة التي جادت بهذه الكلمة العصماء التي أولها:

تعالي، ساعديني أيتها العين الثرثارة وابكي ما شئت دموعا ودماء فغن تربة المدينة الحجازية ماثلة أمام أعيننا.

ثم تطرق إلى ذكر العرب فهزته العاطفة وجعل يعدد مفاخرهم التاريخية:

كانت هذه البلاد يوما ما مركزا لأولئك العرب الذين كانت البحار ملعبا لسفنهم في سالف الأزمان

والذين زلزلوا عروش الكاسرة والقياصرة ... والذين كانت سيوفهم مخدعا للبرواق والرواعد

ثم تفنن في القول وقال: غن بلبل شيراز (سعدي) بكى على أطلال بغداد، وسكب (داغ) سجال دموعه على (دهلي) الشهيدة، وأدمى (ابن بدرون) فؤاده رثاءه للأندلس المرحومة، ومني إقبال الحزين بالبكاء على أطلالك وتذراف الدموع على تربتك، فكأن القدر اصطفى القلب الذي كان حريا لحبك محرما

وفي ختام الكلمة بيت، هو مروءة الشاعر وبيت فيه بيان الحقيقة، وبها تنتهي الكلمة، قال سقى الله ثراه ونضر وجهه يوم القيامة. يناجي صقلية:

اشرحي حالك وبوحي بما تكنه جوانحك من تباريح الشوق، فإني رجل قتله الحب وأضناه هوى مثلك، وبقية من الركب الذين كنت منزلهم ومحط رحالهم، سأذهب بهديتك إلى الهند وأبكي فيها أناساً، كما أنا ابكي هاهنا أمامك.

مسعود الندوي