مجلة الرسالة/العدد 801/أسرة طيبة
مجلة الرسالة/العدد 801/أسرة طيبة
كنا في سنة 1920 نسكن حي الغمرة في شمال القاهرة؛ وكان يساكننا في العمارة التي نحن نعيش فيها أسر مختلفة الجنس والدين والطبقة تعيش كل أسرة منها في انعزال عن الأخرى فلا يتلاقى الجيران إلا على السلم أو لدى الباب. وربما لقي الجار جاره في بعض الطريق فلا يعرفه، إلا إذا كان ممن يعلق شخصه بالذهن لسمة تميزه من سائر الناس كحسن يخترق البصر، أو قبح يسترعي النظر، أو شذوذ يشغل البال. . . من هؤلاء الذين يدخلون في هذا الاستثناء المعلم فهمي رزق أستاذ الدروس الخصوصية في حي (الظاهر)، ومدرس الدين والعربية في مدرسة (التوفيق)، فلا تجد أحدا من سكان العمارة ولا من قطان الحي ينكره إذا رآه، أو لا يذكره إذا عرفه! كان يسكن الشقة المقابلة لشقتنا، وكانت هذه الشقة لا تفتح في اليوم كله إلا أربع مرات: مرتين حين يغدو هو وأخوه الأصغر في الصباح، ومرتين حين يروحان في المساء، ثم لا يدري إلا الله أتغلق بعدهما على أم أو زوج أو أخت أو خادم. لا يستطيع بشر أن يعرف ذلك، لا بالعين لأنه لا يرى إنسانا في نافذة، ولا بالأذن لأنه لا يسمع صوتا في غرفة. أما الشذوذ الذي يغري به الطرف ويجمع له البال فهو شكله العجيب: كان مفرط القصر واسع البطن دقيق الأطراف أو قص العنق مخروط الوجه أغوص العين أكزم الأنف أهرت الشدقين غليظ الشارب والحاجبين. ومالي أطيل عليك بالوصف، وأنت تستطيع أن تخفف مئونته على قلمي إذا تصورت كرة أرضية من الخشب أو من غيره قطرها متران، وضع فوق قطبها الأعلى وجه عليه طربوش، وتحت قطبها الأسفل قدماني هما حذاء، ثم تدلى من الجانب اليمن ذراع قصيرة في آخرها مذبة عاج، ومن الجانب الأيسر ذراع أخرى في طرفها جريدة (الوطن)، ثم اكتسى الظهر والذراعان جاكتة كحلاء، واكتسى البطن والساقان بنطلونا أبيض؛ فإذا تخيلت بعد ذلك هذه الكرة تمشي فتدب في البطء دبيب السلحفاة، وتخطو في السرعة خطو الأوزة، اجتمعت في ذهنك صورة مقاربة للمعلم فهمي حينما رأيته لأول مرة يتدحرج هابطا في السلم؛ وكان قد علم من قبل أن جاره مدرس الأدب في الإعدادية الثانوية، وناقل الآم فرتر هذا العام إلى العربية، فلما أبصرني صاعدا حياني وعرفني بنفسه، ثم سألني أن يجلس إلي في القهوة قليلا ليعرض علي مسائل في الإعراب له فيها رأي. فقلت له: ولماذا نجلس في القهوة وبين بيتي وبيتك خطوتان إذا شئت خطوتهما إليك في أي وقت تحدده. فقال: أفضل أن أزورك في عشية الغد.
وفي الجلسة الأولى جرى بيني وبينه حديث في السياسة ونقاش في النحو تبين من خلاله أن الجل طيب القلب، وآفة الطيبة أنها تصيب أحيانا بالغفلة فتوقع صاحبها في الزهو وتورطه في الدعوى؛ فهو يفخر بأنه خطأ قول الشنقيطي في اللغة، وزيف رأي اليازجي في النقد؟ ويدعي أن مصطفى كامل كان يستشيره في خطبه قبل أن تلقى: وأن سعد باشا كان يستشيره في بياناته قبل أن تنشر.
وفي الجلسات الأخر علمت أن الرجل لم يتم التعليم الابتدائي، وأنه بحث عن مرتزق لا يضر به الجهل فلم يجد غير التعليم والصحافة، فاختار التعليم في المدارس الابتدائية، وتخصص في تدريس اللغة العربية، فكان يعلمها مشاهرة في المدرسة بجنيه، وفي البيت بريال. ومن هذا اليسير ينفق على كسوته وقهوته وتبغه، ثم يعتمد فيما جاوز ذلك على مرتب اخيه، وهو موظف بالابتدائية في وزارة المالية، وعلى تدبير أخته وهي تخيط في بيتها لبعض البيوت التجارية. وهو وهذا الأخ وهذه الأخت، هم الأقاليم الثلاثة التي تتألف منها هذه الأسرة المسيحية الطيبة؛ ففهمي هو الأب، وشحاتة هو الابن، وعابدة هي روح القدس! ثلاث أرباب وثلاثة عبيد، كل منهم لأخويه إله بالاحترام وعبد بالحب. وثلاثتهم يعيشون على الإيثار والتضحية؛ فالأخ الكبير قد نيف على الأربعين ولا يريد أن يتزوج لأن أخته لا تزال آنسة! والأخ الصغير قد أربى على الخامسة والثلاثين ولا يبغي الزواج لأن أخاه لا يزال أعزب، والأخت قد هدفت للسادسة والعشرين، وهي تدفع الخطاب عن يديها لأنها لا تحب أن تترك أخويها أعزبين.
وكل أخ يؤثر أخويه على نفسه؛ فالمعلم فهمي يحنو على عايدة وشحاتة حنو الأب الوالد الحدب: يقوم عنهما بشؤون البيت مع الناس، ويجلب لهما حاجة المطبخ من السوق، ويقبل مكرها أن يخصه أخواه ببعض المال لأنه بكر الأبوين ومظهر الأسرة
وشحاتة أفندي يؤدي مرتبه إلى أخته أول كل شهر فلا يأخذ منه إلا شهرية الحلاق. وماذا يصنع بالنقود؟ إنه لا يركب الترام لأنه لديه قدمين قويين تحملانه إلى الديوان ثم إلى البيت، وإنه لا يشتري الطعام لأنه يأخذ فطوره معه كل صباح: رغيفا في منديل، وطعمية في علبة، أو ملوخية في قارورة. . . فإذا رجع من عمله، تولى كنس الغرف ونفض الأثاث وغسل الآنية. ثم يجلس بعد ذلك إلى أخته فيدير لها آلة الخياطة، أو يرفه عنها بأحاديث المدينة، أو يذهب إلى التجار بالمخيط ليعود من عندهم بالقماش.
أما الآنسة عايدة فتشبل على العزبين أشبال الأم العطوف: تدبر لهما المنزل، فتطهي وتغسل وتكوي؛ وتدبر منهما الجسم، فتقي وتعالج وتمرض؛ ثم لا تكلفهما بعد لباس البيت إلا فستانا بسيطا كل عام تذهب به أيام الأحد إلى القداس.
وكان مرض الواحد مرض الثلاثة، إذا شكا أحدهم علة شكا الآخران ألمهما معه. وقد حرص المعلم فهمي على أن يقيس حرارة أخويه إذا لحظ عليهما فتورا أو سمع منهما شكوى. وفي ذات ليلة من ليالي الشتاء طرق علي الباب في أخريات الليل، فانتبهت فزعا وفتحت فإذا هو ينتفض انتفاض المحموم وينشج نشيج الطفل. فقلت له: خير يا صديقي، ما الذي يبكيك؟ فقال: أختي في نزاع الروح، وإن حرارتها ثلاثة وأربعون درجة وقد بعثت أخي في طلب الطبيب القريب؛ فلما أخبره بأن حرارتها ثلاث وأربعون أغلق الباب في وجهه وهو يصيح: اذهب يا مجنون إلى الحانوتي ولا تضع وقتك!
قال هذا المعلم فهمي وهو يجذب يدي حتى دخل بي إلى غرفة المريضة، فوجدتها راقدة في سريرها العالي، لحافها دائر على خصرها، ويداه مشبوكتان على صدرها، ونفسها يتردد هادئا كنفس الطفل، ووجهها يشرق نديا كوجه الصبح. وكان على مقربة من سريرها منضدة عليها مصباح كبير من طراز المصابيح التي كانت تضيء الصوارين في الأعراس والمآتم قبل أن تعم الكهرباء، فلما وقفت إلى جانب سريرها جست يدها ومسست جبينها وجدت حرارتها توشك أن تكون طبيعية؛ ولكن أخاها أراني الميزان فوجدت زئبقة على الآخر. فنفضت الميزان ووضعته في فم المريضة المستسلمة ثم قراءته فإذا هو سبعة وثلاثون درجة ونصف! فلما نطقت بالرقم دبت الحياة في عايدة ففتحت عينيها، وعاد الهدوء إلى فهمي فكف دمعه، وأخذ شحاتة الدهش فغفر فاه، وسرى النشاط من الغرفة إلى سائر البيت فقفزت من تحت الكنبة أرنب، وقامت من فوق المائدة دجاجة، وتمطت من بين الفرش هرة. ولكن المعلم فهمي أراد أن يتأكد مما قلت، فأخذ الميزان وأدناه من المصباح لضعف بصره، ثم أخذ يقلبه وينظر، ثم يقلبه وينظر، حتى مضى على الميزان دقيقتان بجانب المصباح المشتعل، ثم اهتدى أخيرا غلى الزئبق الصاعد فإذا هو في آخر الطرف الأعلى من الميزان. فقال وهو يرتجف: أنظر! ها هي الدرجة ثلاثا وأربعين! فقلت له وأنا أبتسم ابتسامة عريضة: هذه يا صديقي درجة المصباح لا درجة المريضة!
أحمد حسن الزيات