مجلة الرسالة/العدد 800/أقصوصة شعرية:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 800/أقصوصة شعرية:

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 11 - 1948



الحسناء والبلبل

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

(هذه الأقصوصة الشعرية تصور ما قد ينشئ بين الإنسان

وغير الإنسان من عواطف نبيلة، ومشاعر سامية. وهي مهداه

إلى الذين يقدسون معاني الحب والوفاء في هذا الزمان)

هي حسناء في ربيع الحياة ... تتراءى كأجمل الذكريات

حسنها قبلة العيون جميعا ... ومراد الأحلام والأمنيات

وصباها أرق من طلعة الفج ... ر، وأبهى من روعة الزهرات

وعلى وجهها الجميل من الفك ... ر سمات أنعم بها من سمات

هي شوق إلى معانقة المج ... هول يبدو في حيرة النظرات

ومعان عميقة لست أدري ... ها، ولكن أحسها في حياتي

عندها بلبل يغني غناء ... يجعل القلب هائما حيث شاء

ويثير الأحلام في كل نفس ... تبصر الحلم كوكبا وضاء

كلما زادها من الشدو والأن ... غام زادته روحها إصغاء

وهي مفتونة تكاد تراه ... عاشقا يملأ الحياة بهاء

فتراها تضمه إن أتاها ... وإذا غاب أتبعته النداء

وأماني النفوس تبدو رموزا ... حينما تستكن فيها حياء

وجدته في بيدر مهجور ... يتغشاه مثل صمت القبور

وهو من جرحه يئن أنينا ... يترامى على الثرى في فتور

فانثنت نحوه، وخفت إليه ... وانحنت فوقه بقلب كسير

وأست جرحه، وعادت به تس ... عى إلى بيتها الجميل الصغير

ثم جاءت له بحب وفير ... مثلما يشتهي، وماء نمير

وأقامت له هنالك عشا ... مهدته له بزهر نض أتراه لما تقوى وطارا ... ترك العش خاويا وتوارى؟

كيف ينسى من أنقذته وقد كا ... ن يرى الموت ليله والنهارا؟

إن أضاع الذمار والعهد إنس ... فمن الطير ما يصون الذمارا

كان يمضي كما يشاء قريبا ... أو بعيدا يسابق الأطيارا

ثم تدعوه بالصغير فيهفو ... ثائر الشوق لا يطيق انتظارا

كغريب نائي الديار دعته ... فمضى مسرعا يؤم الديارا

علمته الغناء والألحانا ... فشأ الطير منطقا وبيانا

فإذا ما سمعته يتغنى ... خلته في غنائه إنسانا

وإذا ما رايته وهو يهفو ... بجناحيه حولها نشوانا

خلته عاشقا يطوف بمعشو ... ق يغنيه حيه الحان

يا له من هوى يؤلف ما بي ... ن الغريبين خلقة ولسانا

يا لهذا الغناء ترسله الرو ... ح، فيلقى من إلفها ترجمانا

حين يأتي المساء كان يغنى ... فيثير المنى بحلو التغني

فتناغي شقيقها كل نفس ... وتناجي رفيقها كل عين

وهي مسحورة تضم من الشو ... ق فراش الهوى، ومهد التثني

فإذا ما انتهى من الشد ونامت ... وبأعماقها صدى كل لحن

ثم راحت تهيم في عالم السح ... ر، ودنيا الهوى، وأفق التمني

حيث تحيا كما تشاء الأماني ... حين يسمو بها الربيع المغنى

وإذا ما الصباح هل عليها ... وهفا قلبه الرقيق إليها

فاستفاقت من حلمها غير ذكرى ... لم تزل تستكن في ناظريها

أرهفت سمعها فطارت من البل ... بل أنغامه إلى مسمعيها

فإذا قلبه يحركه الشو ... ق فيذري الدموع من مقلتيها

وإذا ما استراح قامت إليه ... وهي مسحورة تمد عينيها

فغذته بالحب من راحتيها ... وسقته بالماء من شفتيها

هكذا ظلت الحياة زمانا ... تتجلى سعادة وأمانا وتمد الحسناء بالحل والشو ... ق، فتفتن في الأماني افتتانا

غير أن الزمان من شأنه الكي ... د ومن ذا الذي يكيد الزمانا؟

والليالي إلى المودة آنا ... والليالي إلى العداوة آنا

وأرى العمر ساحة ينبت الده ... ر عليها نباته ألوانا

فهو إن شاء بنيت الفرحة الكب ... رى، وإن شاء ينبت الأحزانا

في مساء من أمسيات الشتاء ... تدرك النفس فيه معنى الفناء

وتنوح الرياح نوح الثكالى ... فتضج الجبال بالأصداء!

أخذ البلبل الجميل يغني ... أغنيات تهيم في الظلماء

وإذا صوته يسيل دموعا ... فكأن الغناء رجع بكاء

أتراه يحسن خطو المنايا ... حين تسري بركبها في المساء؟

أتراه يرى الحياة تتهاوى ... في وهاد سحيقة الأرجاء؟

وأتاها الكرى مثير الخيال ... فانتشت روحها بخمر الليالي

فرأت في منامها أن نسرا ... محكم الخلق، مدمج الأوصال

أبصر البلبل العزيز يغني ... وهو يمضي محلقا في الأعالي

فانثنى نحوه، فانشب فينه ... مخلبا حده كحد النصال

ومضى مصعداً، وللبلبل الشا ... دي صريخ يغني كطيف الخيال

فجرت خلفه تولول حتى ... أبصرته يغيب خلف الجبال

وتراءى الصباح جهم المحيا ... تعصف الريح فيه عصفا قويا

فاستفاقت من نومها وهي تشكو ... ألما كامنا، وحزنا خفيا

أرهفت سمعها لتسمع منه ... نغمة حلوة ولحنا شجيا

لم تجد صوته فهبت من الرو ... ع تنادي من ليس عنها قصيا

فإذا البلبل العزيز المغني ... جعل الموت صمته أبديا

وجمت ساعة، وفي القلب منها ... حرقات تطوي الجوانح طيا

وجرى دمعها فأنت أنينا ... يجعل الموت خاشعا مستكينا

ثم راحت تضمه في حنان ... وتنادي به نداء حزينا: أيها البلبل العزيز أما تب ... صر قلبي يسيل دمعاً سخينا؟

كنت في هذه الحياة طليقا ... كيف أمسيت للفناء رهينا؟

سوف تبقى معي هنا أبد الده ... ر، وغن كنت تستثير الحنينا

سوف تحيا ذكراك في قلبي البا ... كي، وإن كنت في التراب دفينا

لم يا بلبلي ارتضيت الفراقا ... فشببت الحنين والأشواقا؟

ما لهذا الظلام يغمر نفسي ... فيبيد الضياء والإشراقا؟

ما غناء الحياة من غير إلف ... يجعل القلب واثبا خفاقا

سوف أبكيك طيلة العمر حتى ... يأتي الموت مسرعا سباقا

سوف أمضي مع الحياة بقلب ... ليس يبغي من الهموم انطلاقا

كلما مرت الليالي عليه ... لم تزده إلا هوى واشتياقا

دفنته - وليس ذاك عجيبا - ... حيث قضى حياته تطريبا

كيف ترضى بأن يكون بعيدا؟ ... كيف ترضى بأن يكون غريبا؟

فإذا أقبل المساء تراها ... تؤثر الصمت أو توالي النحيبا

وترى طيفه يغني مهيبا ... فغدا قلبها ينوح مجيبا!

وإذا اقبل الصباح تراها ... تسأل الليل أن يعود قريبا

لترى حولها من الصمت والوح ... شة ما يشبه الفناء الرهيبا

لم تزل هكذا زمنا طويلا ... وهي تزداد من أساها نحولا

وتنادي الفناء حتى أتاها ... عاصف الداء من لدنه رسولا

ثم جاء الفناء يسعى رهيبا ... فطواها، وسار عنها عجولا

فثوت في مكانها حيث كانت ... تسمع البلبل العزيز الجميلا

وتلاقى الروحان بعد افتراق ... في مكان لما يزل مجهولا

ومضى عنهما الزمان، فصارا ... قصة للوفاء، تروى فصولا

إبراهيم محمد نجا

صلاة للأديب رشيد ياسين

رب أنزل على ضميري السكينة ... وقني هاجسات نفسي اللعينة

واطو ما تنشر الرغائب من جور ... وما يخلق الهوى من ضغينة

وأنر لي دربي ولا تنس عبدا ... تائها في الظلام يقفو ظنونه

واغتفر عثرتي فما كنت شيئاً ... غير ما شئت - خالقي - أن أكونه

أنا ما كنت غير رسم شقي ... أنت ظللت بالهوان جبينه!

طينة صورت - كما شئت - قلبا ... مستبدا، وعزمة موهونه. .

أعلى ما برت يداك يقاضي ... عدلك السرمدي تلك الطينة؟!

(بغداد)

رشيد ياسين