انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 80/محاورات أفلاطون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 80/محاورات أفلاطون

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 01 - 1935


8 - محاورات أفلاطون

الحوار الثاني

كريتون أوجب المواطن

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

أشخاص الحوار: سقراط. كريتون

مكان الحوار: سجن سقراط

سقراط - وستقول القوانين بعدئذ: (اعلم يا سقراط، إن صح هذا، أنك بهذه المحاولة إنما تسيء الينا، لأننا بعد إذ أتينا بك الى الدنيا، وأطمعناك وأنشأناك وأعطيناك كما أعطينا سائر أبنا الوطن قسطا من الخير، ما استطعنا للخير عطاء، فقد أعلنا فوق ذلك على رءؤس الأشهاد أن من حق كل اثنيني أن يرحل الى حيث شاء حاملا متاعه معه، إذا هو نفر منا بعد أن تقدمت به السن فعرفنا حق المعرفة وعرف على أي الأسس تسير المدينة، وليس فينا نحن القوانين ما يحول دونه أو يتدخل معه في أمره، فلكل منكم إذا ما كرهنا وكره المدينة، وأراد الرحيل الى إحدى المستعمرات أو الى أية مدينة أخرى، أن يذهب حيث شاء، وان ينقل متعاه معه؛ أما ذك الذي عركنا فعرف يف نقيم العدل وكيف ندير الدولة، ثم رضي بعد ذلكالمقام بيننا، فهو بذلك قد تعاقد ضمناً على أنه لابد فاعل ما نحن به آمرون. فمن عصانا، ونحن ما نحن، فقد أخطأ مرات ثلاثاً: الأولى أنه عصى والديه بعصيانه إيانا، والثانية أننا نحن الذين رسمنا له طريق نشأته، والثالثة أنه قطع معنا على نفسه عهداً أنه سيطيع أوامرنا، فلا هو أطاعها، ولا هو أقنعنا بأنها خاطئة، ونحن لا نفرضها عليه فرضاً غشوماً، ولكنا نحيره، فلما طاعتنا وإما إقناعنا. هذا ما قدمناه إليه، وهذا ما رفضته جميعاً.

تلك هي صفوف المآخذ التي ستقيم من نفسك هدفاَ لها يا سقراط إذا أنت أنجزت عزيمت، كما سبق لنا بذلك القول. ولاسيما أنت دون الآثينيين جميعاً) وهب أني سألت ولم هذا؟ فستجيب حقاً بأنني قد سلمت بهذا الاتفاق دون سائر الناس. ستقول القوانين (إن ثمت لبهاناً ساطعاً يا سقراط، بأننا والمدينة معنا لم نكن لنعكر عليك صفو العيش، فقد كنت أدوم الآثينيين جميعاً مقاماً في المدينة: لم تغادرها قط، حتى ليجوز لنا الفرض بأنك كنت تحبها؛ إنك لم تغادرها مطلقاً لتشهد الألعاب، اللهم إلا مرة واحدة حين ذهبت لترى البرزخ. ولم تفصل عنها لتقصد إلى أي مكان آخر، إلا إذا كنت في خدمة الجيش، ولم تسافر كما يس الناس، ولم يدفعك حب الاستطلاع إلى رؤية الدول الأخرى لتلم بقولنينها، فقد اختصصتنا بحبك لم تجاوز به حدود دولتنا، فكنا نحن أصفياءك المخلين، وقد رضيت بحكمنا إياك. إن هذه هي الدولة التي أعقبت فيها أناءك، وإن ذلك لينهض دليلاً على رضاك. هذا وقد كنت تستطيع لو أردت أن تقرر عقوبة النفي أثناء المحاكمة - وإن كان الآن ثمت دولة تغلق دونك أبوابها فقد كانت حينئذ تسمح بذهابك إليها، ولكنك ادعيت أنك تؤثر الموت على النفي، وأنك لم تبتئس من لموت. ولكن هأنت ذا الآن قد أنسيت تلك العواطف الجميلة، وترفض أن تحترمنا - نحن القوانين، التي أنت هادمها، وإنك الآن لتفعل ما لا يفعله إلا العبد الخسيس، فتولي أدبارك هارباً من العقود والعهود التي قطعتها على نفسك باعتبارك واحداً من أبناء الوطن؛ فأجب لنا أولاً عن هذا السؤال: أنحن صادقون في القول بأنك اتفقت على أن تُحكم وفقاً لنا، بالفعل لا بالقول فقط؟ أهذا حق أم كذب؟ بماذا نجيب عن ذلك يا كريتون، ألسنا مضطرين إلى التسليم؟

كريتون - ليس عن ذلك منصرف يا سقراط

سقراط - أفلن تقول القوانين إذن: (إنك يا سقرط ناقض للمواثيق والعهود التي أخذتها معنا على نفس اختياراً، فما كنت في أخذها عجلان ولا مجبراً ولا مخدوعاً، ولكنك لبثت سبعين عاماً تفكر فيها، وكنت خللها تستطيع أن تغادر المدينة إن كنا لم نصادف من نفسك قبولاً، أو كنت قد رأيت فيما اتفقنا عليه احجافاً بك. كنت في ذك مخيراً، وكان في مقدورك أن ترحل إما إلى لا قيديمون أو إلى كريت اللتين كثيراً ما امتدحتهما لحسن حكومتيها، أو ترحل إلى أية دولة أجنية يونانية أخرى. ولكنك كنت تبدو أكثر من سائر الأثينيين جميعاً، شغوفاً بالدولة، أو بعبارة أخرى، بنا - أي بقوانينها (إذ من ذا الذي يحب دولة لا قوانين لها) فلم تتزحزح عنها قط، ولم يكن العُمى، والعُرج، والمقعدون، بأكثر منك قبوعاً بها؛ وهأنت ذا الآن تفر ناقضاً ما قطعته من عهود. ما هكذا يا سقراط إن أردت بنا انتصاحاً، لا تضع نفسك بهروبك من المدينة موضع الشخرية

(وحسبك أن ترى أي خير تقدمه لنفسك أو لأصدقائك، ان أنت اعتديت أو أخطأت على هذا الوجه؟ أما أصدقاؤك فالأرجح أن يشردوا نفياً، وأن يسبو حق انتسابهم للوطن أو أن يفقدوا أملاكهم. أما عن نفسك أنت، فلو تسللت إلى إحدى المدن المجاورة، إلى طيبة أو ميفاراً مثلاً، وهما مدينتان تسيطر عليهما حكومة حازمة، فستدخلهما عدواً يا سقراط وستناصبك حكومتناهما العداء، وسينظر اليك أبناؤهما الوطنيون بعين ملؤها الشر لأنك هادم للقوانين، وسيقر في عقول القضاة أنهم كانوا في إذانتهم إياك عدولاً. فأغلب الظن أن يكون مفسد القوانين مفسداً للشبان، وأن يكون بلاء ينزل بالغفلة على بني الانسان.

فلم يبق لديك إلا أن تفر من هذه المدن المنظمة ومن ذوي الفضل من الرجال، ولكن أيكون الوجود حقيقياً بالبقاء على هذه الحال؟

أم أنك ستغثى هؤلاء الناس في صفاقة يا سقراط لتتحدث اليهم؟

وماذا أنت قائل لهم؟ أفتقول ما تقوله هنا من أن الفضيلة والعدالة والتقاليد والقوانين أنفس ما أنعم به على الناس؟ أيكون ذلك منك جميلاً؟ كلا ولا ريب. أما إن فررت من الدول ذوات الحكم الحازم، الى تساليا حيث أصدقاء كريتون، وحيت الاباحية والفوضى، فسيجدون متعاً في قصة عروبك من السجن، مضافاً اليها ما يبعث على الشخرية من التفصيل عن كيفية تنكرك في جلد عنزة أو ما عداه من أسباب التنكير، وعما بذلته من ملامحك كما جرت بذل عادة الآيقين - ليس ذلك كله ببعيد، ولن ألن تجد هناك من يذكرك بأنك وأنت هذا الشيخ الكهل، قد نقضت أشد القوانين تقديساً، من أجل رغبة حقيرة في إستزادة الحياة زيادى ضئيلة؟ قد لا تجد إذا استرضيتهم، ولكن لا تلبث أن تثور منهم سورة الغضب، حتى يصكوا مسمعيك با يجللك عاراً. إنك ستعيش، ولكن كيف؟ - متملقاً للناس جميعاً وخادماً للناس جميعاً. وماذا أنت صانع؟ - ستأكل في تساليا وتشرب، لأنك قد غادرت البلاد لكي تصيب في الغربة طعاماً لغذاءك، وأين ترى ستكون تلك العواطف الجميلة التي تبدلها حول العدل والفضيلة؟ قل إنك راغب في الحياة من أجل أبنائك لتتعهدهم تربية وإنشاء - ولكن أأنت مصطحبهم الى تساليا، فتقضي عليهم بذلك ألا يكونوا أبنء الوطن الأثيني؟ أذاك ما سمنحهم إياه من نفع؟ أم أنت تاركهم واثقاً بأنهم سبكونون أحسن رعابة وتربية مادمت أنت حياً، حتى ولو كنت غائباً عنهم، إذ يعني بهم أصدقاؤك؟ هل تخيل لنفسك أنهم سيعنون بهم ما أقمت في تساليا، أما إن صرت من أهل العالم الآخر، فلن يعنوابهم؟ كلا، فان كان من يسمون أنفسهم أصدقاء، أصدقاءك حقاً، فانهم لاشك معينون بأبنائك (اضغ إلينا إذن يا سقرا، نحن الذين أنشأناك. لا تفكر في الحياة والأبناء اولاً، وفي العدل آخراً، بل فكر في العدل أولاً، وارج أن تصيب البراءة عند ولاة العالم الأسفل. فان فعلت ما يأمرك به كريتون، فلن تكون أنت ولا من يتعلق بك كائناً من كان، أسعد أو أقدس أو أعدل في هذا الحياة ولا في أية حياة أخرى , فأرحل الآن بريئاً، مجاهداً لا فاعلاً للرذيلة، ضحية الناس لا ضحية القوانين. أما إن صممت أن ترد الشر بالشر والضر بالضر، ناقضاً ما قطعته أمامنا على نفسك من عهود ومواثيق، مسيئاً إلى أولئك الذين ينبغي ألا يمسهم من إساءتك إلا أقلها، أعني نفسك، وأصدقائك، ووطنط، ونحن، فسننقم عليك ما دمت حياً، وستستقبك قوانين العالم الأسفل، وهي إخوتنا، عدواً، لأنها ستعلم أنك لم تدخر وسعاً في هدمنا. اصغ إذن إلينا، لا إلى كريتون)

هذا هو الصوت الذي كا، ي به يهمس في مسنعي، كما تفعل نغمات القيثارة في آذان المتصوف. أقول إن هذا هو الصوت الذي يدوي في أذني، فيمنعني من أن أستمع الى أي صوت سواه وإني لأعلم أن كل ما قد تقوله بعد هذا سيذهب أدراج الرياح، ومع هذا، تكلم إن كان لديك ما تقواه

كريتون - ليس لدي ما أقوله يا سقراط

سقراط - ذرني إذن أتبع ما تةحي به إلى إرادة الله

زكي نجيب محمود

انتهى الحوار الثاني، وسننشر الحوار الثالث ابتداء من العدد الآتي.

التصوف الأسلامي بقلم سليمان النابلس

توطئة

يدبأ الدين في أول أمره عقائد راسخة ومناسك ثابتة لاتسامح في أوامره ولا هوادة في نواهيه. ثم لا تلبث - بعد أن يتطاول الزمن وتمر السنون - أن تلين العريكة وتأخذ المياسرة مكان المعاصرة فيدب الشك الى العقائد الموروثة والسنن المرعية؛ إذ ذاك يبحث الانسان عن عقيدة تسوي ما بين نفسه وبين الكون تسوية مقبولة يرتضيها العقل ويقرها المنطق، وعندئذ تنشأ الصوفية والصوفية منحى في الفكر، لا بل في الشعور ويصعب تحديده، يظهر في محاولة العقل الانساني تفهم الطبيعة الروحية لحقيقة الأشياء، ويبرز في بِشر المرء وسروره بنعمة الارتباط الروحي مع الخالق العظيم

معنى لفة صوفي

لقد تباينت الآراء وتضاربت الأهواء في المصدر الذي اشُتقت منه لفظة صوفي، فمن قائل إنها من الأصل اليواني (سوف بمعنى حكمة كما ذكر أبو الريحان البيروني في كتاب الهند، ومن قائل - وهم الصوفيون أنفسهم - من صفا صفاءً. قال أبو الفتح البُستي

تنازع الناس في الصوفي

قدماً وظنوه مشتاً من الصوفِ

ولست أنحل هذا الاسم غير فتىً

صافي فصوفي حتى لُقب الصوفي

وذهب آخرون الى أنها متحدرة من معنى ديني، فينسبونها الى أصحاب (الصفة) وهم قوم من الصحابة كانوا يجلسون على باب المسجد يوزعون الصدقات على الفقراء. على أن الرأي الأكثر شيوعاً والأقرب للعقل والمنطق هو نسبتها الى (صوف) أي الى ظاهر اللباس. فأبو نصر السراج مؤلف كتاب اللمع - وهو أول كتاب ظهر عن الصوفية - يقول: (إن لبسة الصوف دأب الانبياء وشعار الأولياء، فلما اضفتهم الى ظاهر اللبسة كان ذل اسماً مجملاً عاماً. . . .)

وقد أيد العلامة (نوالدكه) هذه النظرية وشاركه في الرأي العالم الانجليزي الشهير (برون وان مما استدل به على ذلك الكلمة الفارسية (باشمينابوش) التي يسمون بها عادة، ومعناها اللفظي (لا بسو الصوف) وجبب الصوف كانت منذ القدم علامة الحياة البسيطة الساذجة

منشأ التصوف الاسلامي

يرجع بنا البحث عن منشأ التصوف الاسلامي الى الحركة الزهدية التي قامت في القرن الأول للهجرة تحت التأثير النفسي العميق المتكشف عن خوف من الله تعالى يوجب التسليم لأرادته سبحانه والانقياد لمشيئته. وعلى هذا يجمل بنا أن نبحث التصوف في طورين مختلفين 1 - طور الزهد: لم يكن لتصوف في هذا الطور نظاماً فلسفياً ولا مسلكاً دينياً وإنما هو طريقة في الحياة والمعيشة خاصة، تمتاز بالزهد في الملذات والابتعاد عن الدنيا حباً في الآخرة، فهو إذن إسلامي خالص لا أثر للعوامل الخارجية والعناصر الأجنبية فيه من نصرانية ويهودية وهندية وفارسية. ول ما هنالك أنه ظهر في صدرالعصر الأموي جماعة من المسلمين رغبوا عن هذه الحياة الاجتماعية الملأى بألوان اللهو والتهتك والخلاعة، وتطلعوا إلى حياة هادئة وفورة مرضية لضمائرهم التي تتشوق إلى الابتعاد عن صغائر الحياة وسخافاتها مطابقة لعقائدهم التي ما زالت شديدة التمسك بالحياة الاسلامية الخالصة من بساطة وسذاجة. زد على ذلك أن الحياة السياسية كانت قلقة مضطربة، فالفتنة قائمة بين الفرق والشيع، والمعارك مستعمرة بين مختلف القادة والأمراء، كل ينشد جاه الحكم ومجد السلطان غير ملتفت إلى ما يجره ذلك من هدر دماء المسلمين وتشتيت كلمتهم ورجوعهم إلى جاهليتهم الأولى. كل هذه العوامل غدت الحركة الزهدية وبعثت في قلوب بعض المؤمنين الميل عن المادة والانصراف إلى العمل الصالح في نفسه وتذكير الناس بأمور دينهم وعقائدهم. ويأتي (نكلسون) العالم الانجليزي الضليع في هذه الأبحاث فيضيف إلى هذه العوامل عاملاً آخر لا يقل عنها قوة وأثراً، ذلك أن الصورة التي يبرزها القرآن الكريم (للخق) عز وجل هي في نفسها تدعو إلى الخوف والرهبة، فهي صورة إآله جبار شديد البطش سريع العذاب. فالشعور بالخوف من جهنم الذي يكتنف قاريء القرآن يدعو حتماً إلى التصوف والزهد واحتقار لمادة والابتعاد عن سبل الضلال

ومن أهم الشخصيات الممتازة في هذا الدور الحسن البصري الذي عُرف بالزهد والورع والرجوع إلى السنة في بساة العيش وسمو الغاية. ومنهم أبو هاشم الكوفي الذي يقال إنه أول من أطلق عليه لقب (الصوفي) وأسس ديراً للمتصوفين في رملة فلسطين. ثم ظهر ثلاثة نفر فيما وراء النهر في فارس في أواخر القرن الثاني الهجري وهم: ابراهيم بن أدهم وشفيق البلخي وفضيل بن عياض، فنرى عندهم بدء نظام فلسفي، فهم يمثلون دور الانتقال من حياة الزهد إلى نظام التصوف الفلسفي، ولعلهم كانوا عاملين على الامتزاج بالتعاليم الهندية الفارسية لقرب موطنهم من هذه البلاد التي كانت تتفاعل فيها هذه المباديء المختلفة. ويظهر ذلك بجلاء عند الزعيمة المتصوفة رابعة العدوية التي كانت كما يقول نكلسون أول من أدخل نظام الحب الفلسفي والوجد والاتحاد بالله بدل الخوف والرهبة

2 - اطور الثاني: التصوف الفلسفي

لقد أخذ التصوف في هذا الطور شكلاً فلسفياً ونظاماً مستقراً في الدين يميل العلماء إلى نسبته إلى عوامل خارجية من نظريات فلسفية وأديان أخرى. فمن ذلك:

أ - المصدر الهندي: يعتقد بعضهم أن لهذا التشابه بين كثير من العقائد الصوفية في صورها الراقية الناضجة وبين بعض النظم الهندية وعلى الأخص الـ أساساً واحداً ونبعاً مشتركاً يجب أن يبحث عنه في الهند، فان معظم المتصوفة الاول نشأوا في خراسان وظهرت فلسفتهم الصوفية فيها؛ ولعل مبدأ الفناء الذي يندمج فيه المتصوف بالله ويفقد شخصيته الفردية، مستمد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من عقيدة (النارفانا الموجودة في الديانة الهندية

ب - المصدر النصراني: يعتقد المتصوفة أن غاية كل الأديان واحدة، وأنها كلها تصل بالأنسان الى الهدف المقصود والغاية المرجوة، فليس إذن أن يحتك المتصوفون بالرهبان السيحيين، ويمزجوا بهم فيظهر أثر ذلك في تعاليمهم وأنظمتهم، خصوصاً وقد ظهرت هذه النزعة التنسكية الزهدية في الكنيسة المسيحية في القرنين الأول والثاني للهجرة

ج - الافلاطونية الجديدة: ظهر هذا النظام الفلسفي في أوائل القرن الثالث المسيحي على يد (أمونياي ساكاس) وبلغ أوجه في زمن تلميذيه بلاتينيوس وفرفوريوس النحوي شارح تعاليمه. وإذا ما دققنا في تعاليم هذا المذهب الأدبية رأيناها تؤدي حتماً الى التصوف، إذ يعلم أن طريق الخلاص هو بالتجرد التام عن المادة، وأنفصال النفس عنها؛ بذلك يتصل الانسان (بالعقل الأول) اللفظ الفلسفي للحق سبحانه، وينال الغبطة التي يعبر عنها المتصوفون بالفناء. لقد انتشرت هذه التعاليم الفلسفية في العالم الاسلامي، وكان أثرها في الفلاسفة المسلمين واضحاً جلياً

د - فلسفة المعرفة جماعة هذا النظام الفلسفي الذي نشأ بين القرنين الأول والسادس للمسيح يعتقدون أن الايمان وحده لا يكفي للخلاص، بل إن المعرفة هي متممة. ويعنون بهذا أن يعرف المرء أنه من عنصر إآلهي، وأنه لابد أن يرجع في نهايته إلى هذا العنصر الذي نشأ منه، حينذاك وعندما ينغمس في هذا الاعتقاد تخلص نفسه من شوائب المادة ويقرب من الله. وقد انتشر هذا المذهب في العراق وفارس وتأثر بالمانوية وأثر فيها فأخذت منه عقيدة الظلمة والنور. أما إنه أثر في العقائد الصوفية فانا نلمس هذا في القول بأن الانسان يُخلق إلهياً، وكلا تقدم في العمر خلع حجاباً إلهياً واستبدا به آخر إنسانياً إلى أن يمر بسبعين ألف حجاب في أرذل العمر. ولا نجاة له إلا باتباع التعاليم الصوفية والانصراف عن المادة إلى الروح، بذلك يسلك طريق النجاة

هذه أهم المؤثرات الخارجية التي عملت على تغذية العقيدة التصوفية الاسلامية وخلقت منها طريقاً فلسفيً خاصاً. وليس من المستطاع رد كل من العقائد التصوفية الفردية الى أصلها الذي استُمدت منه، فعقيدة في مثل هذا الانتشار العظيم ذات مباديء كثيرة ونظم واسعة لايمكن أن تقع تحت تأثير عامل واحد مهما حل شأنه واتفقت الظروف على تقدمته والميل اليه.

كانت الصوفية دائماً مخيرة تنتقى من كل العقائد ما تستهي وتشاء. نظام شامل يمتص ويهضم - بعد بعض تغيير وتحوير - من كافة الآراء والمعتقدات المختلفة حوله، يكتسب أناساً من كافة الملل والنحل من موحدين ومشركين، معتزلة وسنيين، فلاسفة ورجال دين. هذه الاعتبارات كلها تضعنا في موقف دقيق يضطرنا الى القول بأن منشأ الصوفية الاسلامية الفلسفية لايمكن أن يجاب عنه بجواب شاف مريح

(يتبع) سليمان فارس النابلسي

في تاريخ الأدب المصري

ابن النبيه

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

أفديه إن حفظ الهوى، أوضيعا ... ملك الفؤاد؛ فما عسى أن أصنعا

من لم يذق ظُلم الحبيب كظلمه ... حلواً فقد جهل المحبة وداعى

يأيها الوجه الجميل تدارك الصبر ... الجميل، فقدعفا، وتضعضعا

هل في فؤادك وحمة لميتم ... ضمت جوانحه فؤاداً مًوجعاً

هل من سبيل أن أبث صبابتي ... أوأشتكي بلواي، أو أتوجعا إني لا ستحيي كما عودتني ... بسوى رضاك إليك أن أتشفعا

أغنية شائعة، نستمع إليها، ونطرب لها، ونحفظها، وقليل من هو الذي يعرف أن قائلها أبن النبيه الشاعر المصري الذي أحببنا أن نحدثك عنه اليوم

- 1 -

يذر التاريخ ولاينسى لصلاح الدين وخلفاء صلاح الدين أنهم

هم الذين حموا ذمار الشرف من غارة الأوربيين الذين كانوا

يمنون النفس بالآمال الكاذبة في الشرق وامتلاك أرضه، فكان

العصر عصر حرب وقتال ونضال ونزال بين الشرق

والغرب، خرج منه الشرق ظافراً منتصراً على أيدي ملوك

مصر وخلفائهم. ولقد ولد شاعرنا على ما يظهر قبل أن يلي

صلاح الدين حكم مصر بقليل، ولنه نشأ لم يعش بمصر طوال

حياته، بل تركها إلى أقطار أخرى كانت كذلك تحت حكم

الأيوبيين؛ غير أنه على ما يظهر لي - لم يغادر الديار

المصرية مرة واحدة، بل كان يزورها في الحين بعد الحين،

واستطاع أن يتصل فيها بطائفة من وزراء الدولة وكبار

رجالها القاضي الفاضل، وأسعد بن مماتس، وصفي بن شكر.

والراجح عندي أنه لم يغادر مصر إلا بعد أن مات صلاح

الدين، فانه حينما خرج من مصر مدح العادل، والعادل لم بل

حكم الجزيرة إلا بعد أن مات صلاح الدين، ولذلك فابن النبيه مدين لمصر بتنشئته وثقافته، ومدين لها بالرقة والعذوبة التي

تتجلى في شعره، وتأسرك إلى قراءته قسراً، غير أن نفسه

الطموح الراغبة في العظمة والمجد بدأت تتطلع إلى نيل

مركز سام ومنصب رفيع، ورأى أن في مصر من العظماء

من لا يستطيع قهرهم ولا منافستهم، فحث الخطا إلى الجزيرة

حيث يستطيع أن يجد له ميداناً للعمل والتقدم، فاتصل بالملك

العادل، ومن بعده اتصل بابنه الملك الأشرف الذي كان يلقب

بشاه أرمن لاستيلائه على بلاد الأرمن، وقد اختص بهذا

الاخير، حتى إنك إذا قلبت ديوانه وجدت معظمه في مدحه

والثناء عليه، وحتى لتوهمك مقدمته أنه إنما جمع قصداً لكي

يجمع ما قاله في الملك الأشرف من مدائح، ولقد أصبح أثيراً

لديه يستصحبه في رحلاته وتنقلاته، وأصبح ابن النبيه اللسان

المسجل لما يلقاه المليك من خير أو نصر أو حداث هام؛ ,

صار كاتب الانشاء له، يدبج عنه الرسائل، وأحياناً كان يكتبها

بالشعر كما سنتحدث بعد. ويقول من أرخ لأبن النبيه: إن له

شعراً أعذب من الماء الزلال، وأغرب من السحر الحلال،

ونثراً ألطف من كاسات الشمول، وأدق من نسمات الشمال، فالنظم والنثر عنده جنتان عن يمين وشمال. . . غير أننا

سنقصر كلامنا اليوم على شعره، وإن كنت أرجح أن المقدمة

التي في صدر ديوانه، وهي مقدمة نثرية من صنع ابن النبيه

فان منها قوله: وأحق الناس بعد الله تعالى بالشكر ملك أشار

اليه بنان البيان، وأينع بذكره جنان الجنان، وقلد بذكره

القريض فزان الأوزان، عف وعفا، وكف وكفى، وأحيا رفات

الوفا، فزمان دولته غض الغضارة، نض النضارة، حلو

البشارة، بديع الاشارةن المولى السلطان الملك الأشرف شاه

أرمن، سلطان العراق والشام، مظفر الدين ناصر أمير

المؤمنين، أبو الفتح موسى اين السلطان الملك العادل سيف

الدنيا والدين، أبي بكر بن أيوب خليل أمير المؤمنين، خلد الله

ملكه كما خلد في ديوان المحامد ذكره، وخذل بسلطانه أعداء

الدين، وأعز نصره، ولما لم يجد مملوك دولته، وغرس

فواضله، وربيب نعمته، الفقير إلى الله تعالى أبو الحسن كمال

الدين علي بن محمد بن النبيه ما يكافيء به أياديه، ويجاري به

إحسانه الذي يخجل الغيث روائحه وغواديه، توفر على

استخراج جواهر صفاته من بحر كرمه، ونظم فوائد فوائده فكافأ نعمه بنعمه، وجمعها في هذا الكتاب معترفاً أن الشرف

للجوهر لا للناظم، وأن الفضل للبحر الذي أرسل اليث على

أجنحة الغمائم، وجعله عرضة لنقد الخواطر، وميداناً لجولان

قريحة كل متأمل وناظر، وسبيل كل منصف ينظر فيه الايمان

بآيات سحره المبين، إقالة العشار فيما لعله يعرض من الخطل

الورد على المؤلفين والمصنفين، وليعفوا وليصفحوا، ألا

تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم. فاذا أنت قرأت تلك

المقدمة من قلم ابن النبيه، واستنبطت منها أموراً أربعة: أولها

أن القصد من جمع الديوان تسجيل ما قاله في الملك الأشرف،

ولذلك رتب الشعر، فبدأ أولاً بما قاله في الملك العادل والد

الأشرف، ثم ثلث بما قاله في الملك الأشرف، وهو معظم ما

قاله من الشعر، ث ذكر ما قاله في غيره من أمراء الأيوبيين

والوزراء. ثانيها أن الشعر الذي في ديوان ابن النبيه شعر

يقره ويرضاه ويعده سحراً ويفخر بنسبته إليه، ومن أجل ذلك

ترى من أرخ له يقول: إن هذا الشعر الذي بين أيدينا ليس

بكل شعره وإنما هو اختيار منه، مستدلين على ذلك بأنه شعر

بارع جيد يدل على أن صاحبه قد مرن على قول الشعر طويلاً حتى انقاد له، وأصبح ذلولاً، فحذف منه ما لا يرضي وأبقى

منه هذا الديوان الصغير، الذي اشتمل على جيد شعره (وإلا

فما هذا شعر من لا نظم إلا هذا الديوان الصغير) كما قال

صاحب فوات الوفيات، على أنه على ما يظهر لم يجمع ديوانه

كله، إذ أنك ترى في آخر ديوانه بعض شعر وقصائد ألحقها

به جامع الديوان بعد ابن النبيه. ثالثها أن شعر المدح يجب أن

ينبعث عن عاطفة حية هي عاظفة الشكران وحفظ الجميل،

وهو يرى أن المدح لذلك واجب لأنه شكر للنعم على ما أنعم،

وشكر المنعم أول الواجبات قال. . . إن شكر كل منعم

واجب، وقام على ذلك دليل انعقد عليه إجماع أئمة المذاهب،

وذل يدلنا على أنه حقاً من ممدوحه حس الصنيع وأيادي جمة

استحق من أجلها أن يشكر وأن يثنى عليه. رابعهما أن تلك

المقدمة تعتبر نموذجاً لنثره، وهي لذلك تستطيع أن تعطينا

صورة عن هذا النثر الذي دبجته براعة ابن النبيه، فهو نثر

صناعي يلتزم فيه السجع، ويكون لصناعة المحل الأول في

إنشائه، شأنه في ذلك شأن كتاب النثر في ذلك العصر الذي

حمل لواء الزعامة فيه القاضي الفاضل ون نهج منهجه، فلا جرم كان نثره صناعياً خاضعاً لأحكام البديع وقوانيينه، هذا

وإن شعره ونثره وتوليه أعمال الانشاء للملك الأشرف تدلنا

على نوع الثقافة التي تلقاه حتى هيأته لتولى ديوان الانشاء

فهو علوم الدين واللغة العربية تل العلوم التي كان لزاماً أن

يأخذ منها بحظ وافر يساعده على تولي هذا المنصب، ولقد

تلقى هذه الثقافة بمصر، إذ أننا قد رجحنا أنه لم يغادر وادي

النيل إلا بعد موت صلاح الدين، فيكون قد شب وترعرع في

أرض مصر، والثقافة المصرية كانت زعيمة الثقافات، كما

كان ملوكها زعماء الملوك

- 2 -

لأبن النبيه مذهب في الحباة يشبه مذهب غيره من شعراء مصر أو على الأقل شعراء مصرر الذين درسنا أقوالهم، ذلك المذهب الذي ينظر إلى الحياة نظرة من يريد التمتع بما فيها من خير وجمال، لا يصدف عنه، ولا ينأى بجانبه عن حسنه وما كمن فيه من أسباب السرور والمتعة، فهو يوقن أن الدنيا متقلبة، فهي جيناً ضاحكة، وأحياناً عابسة، فما له يعكر على نفسه صفوها حينما تكون صافية، وما لا ينتهز الفرص وينال اللذة؟

خذ من زمانك ما أعطاك مغتنماً ... وأنت ناه لهذا الدهر آمره

فالعمر كالكأس تستحلي أوائله ... لكنه ربما مجت أواخره

واجسر على فرض اللذات محتقراً ... عظيم ذنبك، إن الله غافره

وكان لهذا المذهب آثاره الكبرى في حياته العملية، فهو يحب الخمر ويطرب لشربها، ويترع الكأس ويروي بها ظمأ نفسه، وهو يهفو الى السقاة يتغزل فيهم، ويصف محاسنهم، وقد كان السقاة يُختارون من أجمل الفتيان وأصحبهم؛ بل إنه يهفو الى كل وجه جميل، ولو كان وجه جندي من الكماة، وهو يحن الى مجالس الأنس يسعى إليها ويدعو صحبه ليشاركوه لذته، وهو يأنس الى الطبيعة يحب جمالها، ويغرم بمفتنها فيصفها، وهو يجد لذة في الخروج الى الصيد يخرج الى اللاة مع رفقة حسان الوجوه، ثم يعود بما وقع في يده من صيد، وذك كله نتيجة لهذا المذهب الذي اختطه لنفسه، وكان شعره صورة حية له، فأنت تسمعه يصف الخمر ويقول:

تأمل كؤس عتيق الرح ... ق ترى الماء يجمد والخمر ذائب

لما في الزجاجة رقصالشب ... اب ومفرقها أشمط اللون شائب

وترعد غيظاً إذا أبرزت ... من لدن كالمحصنات الكواعب

كأن الحباب على رأسها ... جواهر قد كللت في عصائب

لحمرتها صح عند المجو ... س أن السجود الى النار واجب

وسصف موطن نال فيه السرور من الخمر والساقي ويقول:

رق الزجاج وراق كأس مدامنا ... ورضاب ساقينا الأغن الأهيف

فمزجت ذاك بهذه وشربتها ... ولثمته، وضممته يتلطف

وجنيت من وجناته لما استحى ... وردا بغير رضا بنا لم يقطف

ورنا الى بطرفه فكأنما ... أهدي السقام لمدنف من مدنف

بتنا وقد لف العنق جسومنا ... في بردتين: تكرم وتعفف

ويقول مرة أخرى متغزلاً بالساقي وكأن من الأتراك:

ساق أن جبينه في شعره ... قمر تبلج في الليالي السود

غصن تزنح خصره في ردفه ... فعجبت لمعدوم في الموجود

إياك والأتراك إن لبعضهم ... أشخاص غزلان وفعل أسود

أجسامهم كالماء أنها ... حملت قلوباً من صفا الجلمود

وتسمع منه غير ذلك كثيراً في وصف الخمر وسقاتها والتغزل فيهم؛ ولعل بعضهم لامه على شرب الخمر أو على الاثار من شربها فقال له:

الراح روحي، فكيف أهجرها ... منظرها طيب ومخبرها

راح إذا ما الفقير صافحها ... إغناه ياقوتها وجوهرها فاذا ذهبت تستمع الى حبه للطبيعة وغرامه بها سمعته يقول:

قس بالسماء الأرض تعلم أنها ... بكواكب الأزهار أحسن زخرف

أحداق نرجسها لحد شقيقها ... مبهونة بجماله لم تطرف

والطل في زهر الاقاح كأنه ... ظًلْك ترقرق في ثنايا مرشف

وهو إحساس طيب وشعور حميد يوجه نظرك إلى أن في الأرض جمالاً قد تزيد قيمته عما في السماء من نجوم وكواكب، فليقبل على الزهوز يتمتع بمرآها، ويستلذ بشميم رياها وينعم بجمالها - كا كان له - كما حدثتك - لذة خاصة في الصيد حينما يخرج مع جماعة (حسان الوجو) فيصطادون ويتمتعون وهو يصف لك ذلك في قوله:

برزنا الى الهو في حلبة ... حسان الوجوه خفاف المراب

بنادقهم في عيون القسي ... كأحداقهم في قسي الحواجب

فتلك لها طائر في السما ... وهذي لها طائر القلب واجب

وحلت سوابق شهب خو ... طفُ حجْن المناسرُ المخالب

بزاة لها حدق الأفعوا ... ن وأظفارها كحماة العقارب

فللأفق نسران: ذا واقع ... وذا طائر حذر الموت هارب

وألق كلابنا ضارياً ... يباري هبوب الصبا والجنائب

تطير به أربع كالريا ... ح ويفترض عن مرهفات قواضب

ويضرب في ليل جلبايه ... شعاع شهاب من العين ثاقب

وعدنا نجر ذيول السرو ... ر والطير والوحش ملء الحقائب

ألا تراه يصف لك رحلة شقية؟ إذ انه قد خرج مع جماعة حسان الوجوه يقصدون اللهو والتمتع فاختاروا الصيد ملهى لهم فخرجوا يبغونه، ولكنه قبل أن يصف لك ما فعلوه في رحلتهم مضى يحدثك عن جمال رفقته وأن عيونهم كالسهام تصيب القلوب وتدميها، فأحداقهم البنادق هذه هدفها طائر في السماء، وتلك يجب لها طائر القلب ويخفق

ذهبوا الى مكان الصيد فأطلقوا بزاتهم وكلابهم فانطلقت لاتلوى على شيء تصطاد ما عن لها، وبعد أن وصف لك بزاتهم وكلابهم التي كانت عدتهم طمأنك على نتيجة الرحلة وأنها أنتجت نتيجتها فعادوا يجرون ذيول السرور والطير والوحش ملء الحقائب هذا وكان أكبر شيء يسره مجلس أنس يجمع بين روضة فيها مختلف الأزهار والورد حف بها نهر، وهناك بين أصحابه يجلس مغن يطرب السامع ويملك عليه نفسه، ثم تدور المدام في يد ساق جميل فيسكر سكرين من الخمر والجمال الساقي. وقد وصف ذلك المجلس حينما أرسل الى أحد أصحابه يستدعيه إذ قال:

نحن في روضة وزهر ونهر ... ومدام كالشمس من كف بدر

ومغن قد راسلته الشحار ... ير، فأغنت عن جس عود وزمر

أنت روح، ونحن جسم فان غب ... ت فان القلوب تكوى بجمر

إن كفا إليك قد كتبتها ... تتهادى ما بين سكر وشكر

فأنت ترى من كل ما ذكرناه أنه كان يذهب في الحياة مذهب الذين يريدون أن ينالوا منها كل متعة ولذة، يلتمسونها في كل مكان، وترى أن مثله الأعلى في الحياة كان أن يتمتع بها، ولا يضن على نفسه بشيء من مباهجها، وكله ثقة في أن الله سوف يغفر الذنوب جميعاً

(البقية في العدد القادم (احمد أحمد بدوي

6 - بين القاهرة وطوس

نيسابور

للدكتور عبد الوهاب عزام

برحنا سبزوار والساعة ثمان من صباح الخميس ثاني رجب سنة 1353 (11 أكتوبر سنة 1934) فضربنا في السهل صوب الشرق نصف ساعة. ثم ارتقينا جبلاً هبطنا منه الى سهل فسيح، وهذا رأينا إيران ما بين قصر شيرين وطوس، سهولاً تحيط بها جبال، فما يزال المسافر على جبل او في سهل يفضي البصر فيه الى جبل حيثما توجه. هبطنا سهلاً كثير الشجر والزرع، قد انتثرت القرى في أرجاعه، تحيط بها الأشجار الباسقو، ورأينا زروعاً شتى منها البطيخ والقطن. ورأينا لوز القطن قد تفتح، ولما تعدُ الأعوار ذراعاً

وبعد مسيرة وربع من سبزوار، نزلنا بقرية على الطريق اسمها شوراب، فأكلنا من عنبها واستراحنا قليلاً. ثم استأنفنا السير تلقاء نيسابور والقلوب يملؤها الشوق، والفكر يستجمع ما وعى من أحادديث التاريخ عن المدينة العظيمة ذات المياه والقرى والأشجار - المدينة ذائعة الصيت فب العلم والأدب التي نشأت علماء يفتخر بهم المسامون على الأدهار، بلد مسلم بن الحجاج صاحب الصيحي، والحاكم المحدث الكبير، وأبي القاسم القشيري صاحب الرسالة، ومحيي الدين النيسابوري الفقيه، وفريد الدين العطار وعمر الخيام - المدينة التي يقول فيها الخيام

شراب نشابور وآب دبير ... جواني كند كرخورَد مردبير

وترجمته (شراب نيسابور وماؤ ذبير يردان الشيخ الى شبابه)

ويقول الانوري:

حبذا شهر نشابوره درُبشت زمين ... كربهست است همين است وكرنه خودنيست

وترجمته (حبذا مدينة نيسابور! إن يكن على ظهر الأرض جنة فهذه، وإلا فلا جنة)

نيسابور مدنية أزلية، يرى الفرس أن بانيها طهمورث ثالث الملوك البيشداديين، وأن اسكندر الكبير خربها ثم عمرها شابور الملك الساساني فسميت باسمه. وقد عرفها اليونان القدماء وسموها نيسوس. ويقال إنهم باكوس إله الخمر ديونيسوس أي إلة نيسابور

وقد تعاقب عليها البُناة من الساسانيين والعرب والغزنويين والسلاجقة كما توالت عليها النوائب من الزلال والغارات في عصور شتى. أصابها زلزال عظيم سنة نيف وخمسائة من الهجرة وسنة 666 وسنة 801. ودمرها الغُز سنة 548 حين غلبوا السلطان سنجر السلجوقس وأسروه. وهي المصيبة التي نظم فيها الأنوري الشاعر الفارسي قصيدته المعروفة (دموع خراسان) ولكت المدينة على رغم هذه المصائب كانت في معظم العهد الاسلامي قبل التتار عامرة مزدهرة حتى سميث أم البلاد وقبة الاسلام

وقد رووا في عمرانها ونضرتها ما يستبعده العقل. فمن عجائبها الاثنى عشرية أنه كان بها اثنا عشر نهراً تنحدر من الجبال، واثنا عشر مائة مدرسة (أي ألف ومائتان) واثنا عشر مائة قرية، واثنا عشر ألف قناة تجري من اثني عشر ألف ينبوع

قال ياقوت وهو ممن أدركوا غارات التتار:

(وأصابها الغز في سنة 548 بمصيبة عظيمة حيث أسروا الملك سنجر وملكوا أكثر خراسان، وقدموا نيسابور، وقتلوا كل من وجدوا، واستصفوا أموالهم حتى لم يبق فيها من يعرف، وخربوها وأحرقوها، ثم اختلفوا فهلكوا. . . واستولى عليها المؤيد أحد مماليك سنجر فتقل الناس الى محلة منها يقال لها شاذباخ وعمرها وسودها، وتقلبت بها أحوال حتى عادت أعمر بلاد الله وأحسنها وأكثرها خيراً وأهلاً وأموالاً لأنها دهليز المشرق، ولابد للقوافل من ورودها.) وقال بصفتها قبيل غارة التتار: (وعهدي بها كثيرة الفواكه والخيرات) وقال: (لم أر فيما طوفت من البلاد مدينة كانت مثلها)

ثم كانت القارعة التي دمرت حضارة الاسلام - كارثة التتار - فأحرقوا وهدموا، وقتلوا وسبوا وسلبوا، وتركوها خاوية على عروشها، ولم تنسها المصائب من بعدُ، فقد أغار عليها الأزبك وغيرهم في عصور مختلفة

ذكرنا هذه الخطوب ونحن قادمون على نيسابور، ولكن خيال المدينة الكبيرة المزدهرة المزدحمة بمساجدها ومدارسها كان يغلب علينا فنمنى النفس برؤية نيسابور في زينتها وجلالها

وردناها والساعة عشر وثلث فأبصرنا إلى يسار الجادة قرية هي بقية الأحداث من نيسابور، كما يبقى من الجنة الناضرة عود يابس، أو من الرجل العظيم قبر دارس

ماتت المدينة فلم يبق إلا أن نزور قبرها فيما بقي من قبور أبنائها، فها نحن أولاء نسرع المسير إلى قبر عمر الخيام. وقفت بنا السيارات بعد قليل على حديقة بعيدة من البلد فدخلنا بستاناً كبيراً تتوسطه طريق واسعة، فهبطنا درجات إلى مستوى سرنا به خطوات، وهبطنا إلى مستوى آخر، وبجانبنا قناة تنحدر إلى المستوى الأسفل فتفضي إلى حوض في وسط الطريق. وتنتهي الطريق إلى مسجد صغير جميل نقشت على بابه آيات من القرآن، واسم الشاه طهماسب الصفوي الذي بناه. وفي المسجد ضريح لأحد أبناء الأئمة من آل البيت النبوي رضي الله عنهم، واسمه محمد المحروق وينتهي نسبه إلى زين العابدين علي بن الحسين

وإلى يمين المسجد مصطبة لها درجات قليلة ولها سياج من الرخام وفي وسطها عمود كتب على أوجهه أبيات من الشعر. فهذا قبر عمر الخيام. وقد سمعت ممن زاروا القبر قبلاً أنه كان في طاق في جدار المسجد (وفي جدار المسجد على جانبي الباب طاقان) ثم نقل إلى هذا الموضع

لم يعجبنا قبر الخيام، فقلت لوزير المعارف، كان ينبغي أن تكون بجانب القبر أشجار تتهدل أغصانها عليه، وتنثر الأزهار فوقه كما وصف الخيام قبره قبل موته، وكما رآه نظامي العروض بعد موت الخيام فوجوده مصدقاً لما قال. قال نعم. لابد أن يكون كما وصفت

كتب على صفحة من العمود: (الحكيم عمر الخيام - وفاة الحكيم سنة 517 هجرية -) وفوق ذلك رباعية من نظم ملك الشعراء بهار ترجمتها: اجلس إلى قبر الخيام واقض الوطر، واتبغ فراغ ساعة من غم الأيام. إن تسأل عن تاريخ بناؤ مرقده فهو (أطلب سر القلب والدين من قبر الخيام) (رازدل ودين وقبر خيام طلب)

وعلى الصفحة الثانية رباعيتان ترجمتها:

عاد السحب يبكي على العشب الأخضر، فلا ينبغي العيش

بغير الخمر الحمراء. هذا المرج مسراح أبصارنا اليوم فليت

شعري من يسرح بصره غداً في أعشاب قبورنا؟

نحن لُعَب، والفلك بنا لاعب، حقيقة هذه لا مجاز فيها، كنا لاعبين على نطع هذا الوجود، فعدنا إلى صندوق العدم واحداً بعد آهر

وعلى الصفحة الثالثة رباعيتان:

ظهر بحر الوجود من الخفار، وما استطاع أحد أن يثقب جوهرة الحقيقة هذه، كل تكلم بما يهوي، وما قدر احد أن يبين عن الحقيقة

ليس عندنا يقين ولا حقيقة، ولا يستطاع تزجية العمر كله في رجاء هذا الشك، هلم نأخذ اقداح الصهباء بأيدينا لا نضعها، ما فرق الصاحي والسكران في عذه الجهالة؟

وعلى الصفحة الرابعة رباعيتان:

أولئك الذين كانوا بحار الفضل والآداب، وصاروا في كمالهم مصابيح الأصحاب، لم يجدوا للخروج من هذا الليل المظلم طريقاً، فحدثوا بالأساطير ثم أخذهم النوم

إن هذا الدوران الذي يتجلى فيه مجيئنا وذهابنا، لا تستبين له بداية ولا نهاية، ولايستطيع أحد أن يخبر صادقاً من أين جئنا وإلى أين نذهب)

ووراء قبر الخيام مزهرة جميلة كتب على أرضها بألوان النبات: (حكيم عمر خيام)، ورأينا بجانب القبر خابية، كأن واضعيها رأوا مناسبة بينها وبين قبر الشاعر الذي كان مستهتراً بالخمر. وقرأت على هذه الخابية أنها موقوفة على مسجد إمام زاده محمد المحروق. فقلت قد وضعت في غير موضعها، وقُرنت بما هي منه براء

وقد مُدَّ وراء قبر الخيام رواق كبير وضعت فيه كراسي للجلوس ومدت فيه موائد الطعام

استراح الوافدون قليلاً واجتسوا ما شاءوا من أصناف الشراب ثم وقفوا يشربون على ذكر الخيام، قلت بئس ما ذكرتم صاحبكم! وانتبذت أنا وزميلي الأستاذ العبادي جانباً وتركنا القوم وخيامهم. وقلت لبعض رفقائنا الايرانيين أين قبر العطار؟ فلابد لقادم نيسابور أن يزوره، فيسر لنا المسير اليه فذهبت أنا وبعض الحاضرين إلى قبر العطار. سارت بنا السيارات في طريق غير معبدة فانتهينا إلى حديقة ذابلة الشجر والزهر، وفي وسطها بنية ثمانية عليها قبة، ولجنا الباب خاشعين إلى قبر عال عليه كسوة خضراء، وإلى رأسه عمود أسود أطول من القامة قليلاً عليه آية الكرسي وأبيات في مدح الشيخ فريد الدين العطار.

لبثنا برهة في حضرة شيخ الصوفية الجليل، والشاعر المفلق المكثر الذي نظم زهاء ثلاثين منظومة فيها أكثر من ألف ألف بيت - ناظم منطق الطير، وإلهي نامه، وأسرار نامه، وجوهر الذات الخ ومؤلف خاشع، والذكرى الجليلة آخذة على النفس آفاقها وهنا لطيفة لا يسعنب إهمالها

بينما أرخج من باب حديقة العطار أحسست بوخزة في كفي فظننت زنباراً لسعني، فأخبرت رفيقي الشاعر الشاب النابغة رسيد الياسمي فضحك وقال: قبلت الزيارة. قلت: لاغرو أن تكون وخزة من العطار ينبهني بها من الغفلة. ألم يقل معاصرو العطار: (إن شعره سوط السالكين)؟ قال بلى. ثم ارتجل بيتاً فارسياً

نيس عطار است اين، زنبور نيست

ر تحمل ميكني زو دور نيست

(خذه حمة العطار لا حمة الزنبار، فان تحملت فهو أهل لذلك)

فاجبته على الفور:

لسع الزنبار كفي عادياً ... ودواءً كان شعر الياسمي

ولما قدمنا مشهداً جاء الى شاعرنا النابغة وقد نظم أبياتاً كثير في هذه الواقعة أترجمها نثراً فيما يلي معتذراً اليه من هذه الترجمة المرتجلة التي لا تفي بشعره السلس، ومعتذراً الى القراء عم فيها من مدح: جاء عزام من أرض مصر لمختارة الى نيسابور من أرض

إيران، فأراد أن يقبل تربة العطار إذ ملأت محبته روحه،

وذهب بدءاً الى مرقد الخيام فرأى مكاناً ناضراً زاهراً، وسمع

صيحات الطرب، ورنات الكؤوس من كل جانب، ورأى

القلوب تفور بناز الصهبا. قال عزتم: أيها القلب دع بساط

الشراب والسرور، واعجل الى العطار ذلك الشيخ الوقور،

فسلك الصحراء رجل الطريق هذا حتى رأى قبراً عليه حجر

أسود، فلثم سدة العطار وطاف في هذه البقعة المباركة. ثم

صاح بغته وقال مضطرباً قد أصاب كفي زنبار. قال له

الياسمب: يا عالم مصر! بل يا أيها الدر المتلألئ في بحر

مصر!

(هذه حمة العطار لالسعة الزنبار، فان تتحمل فهو لذلك أهل)

حمة العطار توقظك حتى لا تخلو لذة من ألم إن تبتغ الحبيب فلابد من السعي الجاهد، وإن ترد اللذة (نوش) فلابد من الحمة (نيش). إن تكن ذقت حلاوة الخيام، فوخزة العطار خير يا عزام

من يجزك يوقظك من الغفلة، ومن ينعمك يدعك في غمرة. وخزة اليقظة تبعدك من الضلال، واللهو ينأي بك عم السداد، وانبعثت حينئذ من هذا الجدث صيحة بينة مفصحة وعتها أرواحنا:

(يا من اختلط وجوده بالعدمن وامتزجت لذته بالألم!

إذا لم يتداولك الهبوط والصعود، فكيف تعرف نفسك في هذا الوجود) وجعنا من العطار الى الخيام فذكرت في الطريق قول حافظ الشيرازي. . . .

(يتبع) عبد الوهاب عزام

البعث

بقلم فريد عين شوكه

إلى مهد الرسالة في عامها الثالث

تحية عيد الوكن وعيد الميلاد

سَلاَماً فِتْةَ الوطنِ المفَدى ... وأَشْبال الفراعِنَةِ القُدامي

دَعَتْ مصرُ العزيرةُ فالتففتمْ ... جُنوداً حَوْلَ رايتها قِياما

وأشعَلتُم بها رُوحاً فَتياً ... يُكشفُ عن جَوَانبها الظلاما

وكان بقلبها جرح تَنزى ... وأرهق جسمها المُضْي سقاما

فَمسته أناُلكم فأغْفى ... وكاد اليومً يلتئمُ الْتِئاما

ألستمْ خَيرَ مَنْ يحنُو عليها ... إذا ما الروع لج بها احتداما؟

شَبابَ النيل مصرُ إليك تشكو ... بَنِينَ تفننوُا فيها اجْنِرَاما

فكانوا الجُند للباغي عليها ... وفي أيدي الدخيل بها حُساما

يُمزق شَملها بدَداً ويُوهي ... حَنايَا جسمها الواهي كُلاَما

وكم في مِصْرَ من أبناءِ سُوءٍ ... أضاعُوها وما حَفَروا الذماما

فكالُوها عَذَاباً واضطهادا ... وسامُوها سِباَباً واتهاما

وعاثُوا في نواحيها فساداً ... احبتْ دونه الموتَ الزواما

وعَبوا كل موردها اخْتِلاساً ... وما عَرَفَتْ نفوسُهمُ احتشاما

أولئك شرُّ من وَلَدَتْه مصرٌ ... فجازاها عُقُوقاً وانتقاما

أولئك داؤهِا يَفْرِى حَشَاها ... وَيُرْهق صدْرَها نُوَباً جِساَما

مُصاَبُ النيلِ أبناءٌ رَعاهم ... ليغْدُوا في كِنَنَتِه سِهاما

فكانو مِعْوَلَ العاَدِي عليه ... وباتوا فيه حرباً لا سلاما

سليل النيل وَيْحَكَ كيف تَغْفوٌ ... وَقَدْ نَخَر الفساَدُ بك العظاما

أترضي أن تَذَل بأرضِ مصرٍ ... ويصبحَ عُودُك النادي حطاما ونيلُ ما أحَن تَرَاه مهداً ... وأشهىَ عذْبَ مورده مُداما

وأرضُك جَنةٌ شفتْ سماءً ... وطابَتْ مَمبتاً وزَكتْ مُقاما

تُدرُّ على الأجانب ما أرادوا ... وتلقى أنتَ صبيها جَهاما

وكم من أَجْنَي جاء يسعى ... إليها ليس يمتلك الرغاما

فينهل ورْدّها العذب المُصفى ... وَيلتهم الغني فيها التْهاَما

ويعتقد الضياع بها وَيُثرى ... ثراء تحت أعْينه تَرالا

ويحسدُه البنون وقد تناسوْا ... متى أَثْرَى وَكيف بها تَساَمَى

لقد أفنى الحياةَ بها جهاداً ... وَهم عَبَروا حياتهُم نياما

وَكم ضاقت مواردها ولًما ... يَصيقُوا بالكفاف لهم طعاما

وَلو حرِمَتء نفوسثهُمُ جًناًها ... لعاشوا رغم وَفرته صياما

فيالضَرَاعةِ الابناءِ حتى ... رَضُوا بالعيش ذُلاً واهتضاما

وَيالهَوَانهمْ حتى استرحوا ... إلى أن يصبحوا فيها طَغَاما

صَحَوْنا أيها الوًكنُ المُفدى ... وققمنا نًسًترد لكَ السناما

وجَمعنا هًوَاك على صَفاءٍ ... فقد ضقنا بواديك انْقِساما

سَنَدْفعث عن حماكَ فلا يُغشى ... ونًرْعًى عذْبَ وِرِدْكَ أَنْ يُساما

فلا يلقي الغريب له كِفاَفاً ... وَلاَ يًرْوِي بودينا أُوَاماَ

في مصر شباب!

على أثر ما قام به السباب طيلة أيام العيد من جهاد في سبيل الاقتصاد

بقلم محمود غنيم

آمنت أن في الحمى شباباً ... أغرّض جبارَ القُوَيْ وثابا

ينتزع الثناء والإ عجابا ... ويُسمعُ الصم إذا أهابا

شاهدتهُ وقد مشى أسرابا ... يفتل لصناعة الأسباب

مرتدياً من طُهره جلبابا ... متضياً من عزمه قرضابا

تخاله إذا مشى شهابا ... كأن تل الأيدي الرطابا

تقدم الصهباء والأكوابا ... إذ بُسطت تسألُ الا كتتابا مَنْ ناطحت أهرامهُ السحابا ... لم يعْيه أن يصتع لثقابا

أو يسبح الصوف له ثيابا ... ولا تبتنوا القصور والقبابا

بل ابتنوا المصنعَ والدولابا ... ينفثُ من دخانه ضبابا

يُمطر مصرَ ذهباً لبابا ... ترى الأكف فحمه خضابا

إنْ تفتحوه تفتحوا أبوابا ... ينصب منها الرغد انصبابا

مَنْ بَيْن مصنعاً بني محرابا ... ومن يسدْ بغير مال خابا

أَرَ شعباً بلغ الآرابا ... وماله ل يبلغ النصابا

أوطاننا عشنا بها أغرابا ... ضيوفها باتوا لها أربابا

جاسوا خلال أرضها ذئابا ... واحتكروا الطعام والشرابا

فامتلوا بذلك الرقابا ... هم في الهواء زاحموا العٌقابا

وفي العٌياب ملؤا العبابا ... يذود عن حياضه احتسابا

لا ينبغي أجراً ولا ثوابا ... وغيره يقتسم الأسلابا

ويُحز الأموال والألقابا

شبابَ مصرَ حسبُك انتسابا ... إِن سَ الجدودَ واذكر الأعقابا

لا نَسْمُ ميراثاً بل اكتسابا ... واغتصب المعالي اغتصابا

والحرُّ يدرك المنى غِلابا ... لايُمنح الحر ولا يُحابى

كن كالذئاب شرة ونابا ... فانما الحياة أن تُهابا

لا أن تجيد الخط والحسابا ... وتحذقَ العلومَ والأدابا

أضفْ إلى تاريخ مصرَ باب ... يُحدث في صفحته انقلابا

أكلما سألته أجابا ... كانوا رءُوساً فَغدَوْوا أذنابا

ثورةُ العقل

للشاعر التونسي محمد الحليوي جابا=كانوكااك

قلتُ للقلب حَلِّ عنك الأماني ... وأرحني فقد هدمت كياني

ما ضلالُ الخلود. . . ما باطلُ المجد ... وما الصيتُ ماليء الآذان؟

أترى هذه الأكاذيبَحقاً ... اتراها جديرةً بالثواني أيها القلب ثثبْ إلى الرشد وانظر ... نظرة العَقْلِ في لباب المعاني

إنما الخلدُ والخلود خَيَالٌ ... وخَبَالٌ في فطرة الانسان

ذاك يا قلبي المريض عزاءٌ ... يَهَبُ النفس راحة السلوان

قَدْ تَرَاَءت لك الحياة سَرَاباً ... أو كطيف يمرُّ بالوَسْنان

فتطلبْتَ من غُرورك مجداً ... وأردتَ الحلود في الأزمان

ورأيت الشبرَ الذي أنت فيه ... غير كُفْءٍ لبرك الإنساني

فملأتَ الدُّنيا دوياً بغيضاً ... مُجْلباً، كيْ يحسك الثقلان

ضلةً ضلةً، أيا قًلْبُ أقْصر ... وارحنى فقد بريتَ كياني

أنتَ نحسي وشقْوتي وعذابي ... وغترابي في مُنْتَدى الأخدان

أنتَ بؤسي في غدوتي ورواحي ... لا تني الدهرَ باعثاً أشجاني

أرْهقني كآبتي وانفرادي ... وحنيني لغامضات المعاني

وحياتي قضيتها زغرات ... مُحرقاتٍ. أَأَنتَ كالبُرْكان؟

يَا فوؤداي تجاهل المجد وأنعمْ ... وَأرِحْني. . . فقد محقتَ كياني

سُمتَني العَسَف في طلاب الأماني ... وَتكاءدْتَ في الغْلا جثماني

بعثَ للمجد لذتي وكؤوسي ... ومُدامي ومجلس الريحان

شبابي أذْبَلْتَه وهو غَضُّ ... في كتال ودفترَ وَسِنَانِ

اللداتُ الاترابُ في فضل عيش ... ناعم الظل، مُعجبٍ، ريان

يَنهْلون الشباب والحب كأساً ... من رُضاب الكواعب الحُسان

في ضيلء وفي صفاء ولهوٍ - وعبير منشر وأغاني

وبقينا أنا وأنتَ فُرَادي ... في جحيم الآلام والأحْوان

قُلْتَ: إني مغردٌ لا أُبالي ... في سمائي بعلة الدوران

أنظر الشعر في الحياة , ابكي ... في نظيمي شقاوة الانسان

ذاك حَظي. . . وما أبهتُ لَمجْدٍ ... أو رجوت الخلود في الأزمان

قُلْتَ: يا بؤسَ طائر يتغنى ... في ضجيج الأحياءِ والأكوانِ

أتراني أقولُ ما قال قَبلي ... شَكْسَبِيرٌ أو شاعرُ اليونان كان هو ميرُ - أيها القلبُ - شيخاً ... سَاغِبَ البطن، ذاحَشاً ظمأن

يطلب النزْرَ من طعامٍ وروى ... بأغاني الآباد والأزمان

يا لا عمى يجوبُ بَراً وبحراً ... داميَ القلب دامي الجثمان

يا لَكُرْنيل يَرْفع النعل فقراً ... وعلىٍ يضيقُ بالطيلسان

هان أمر النبوغ في الأرض حتى ... صار محضُ النبوع محضَ الهوان

قسم الله مله في البرَايا ... ثم حض الأديب بالحرمان

خصهُ بالإسار والقَتْلِ والتغ ... ريب والنفي عن حِمى الأوطان

خصه بالعذاب، بالألم الدائب ... بالاضطهاد بالنكران