مجلة الرسالة/العدد 8/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 8/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 05 - 1933



في الأدب الإيطالي الحديث

الرواية في بونتاسياف!

للكاتب الإيطالي لوسيو دامبرا

(1)

في ذلك المساء بعد تناول الطعام، كانوا يتحدثون في شرفة (الفيللا) عن الشهرة، وكان رئيس الأركستر (فينيزياني) يلقى بسمعه في الحديث، وعلى ثغره ابتسامة حائرة، يتراءى فيها التهكم واضحاً جلياً، وبعد صمت عميق، قال:

- الشهرة. . . أوه!. اسمعوا إذن هذه القصة. ليس بينكم من لا يعرف (سيريني) المؤلف الشاب، المؤلف المسرحي الشهير. وقد أذكر إني سافرت معه من روما إلى فلورنسا بالقطار، فأيقظنا عند الفجر، صوت عامل يصيح: (بونتاسياف. بونتاسياف) ناحية كسائر النواحي، بل هي محطة عادية، تبعد عن فلورنسا بضعة كيلومترات، وليس فيها ما يستوقف المسافرين أو يلفت أنظارهم، ولكن الأدباء يا سادة ليسوا كغيرهم من المسافرين.

- صرخ (سيريني) بونتاسياف! - ياله من أسم جميل!. . . إنه منتهى الرقة والعذوبة والطرافة! إنه ليبدو لي كل الروعة!

ولقد شعرت عند سماعه الشعور الذي أحسه، لو حدثوني عن حديقة (بوبولي) أو جسر (كرايا)!!

ووراء (بونتاسياف) هذه، لستُ ألمس مدينة فلورنسا بل فيورنزا التاريخية، التي أتخيلها بتلك الحديقة (الميديسية) وقد زخرت بنساء النهضة الفاتنات. وأكاد أسمع في أعماق نفسي تلك الأنغام الشجية التي كانت تعرف بها قصائد (بوليثيان) الرائقة.

(بونتاسياف)!! أشاعر أنت بالجمال السحري الذي يغمر هذا الاسم؟ سأؤمها، سأؤمها، لأني أحبها كما يجب أن تحب، دون أن أعلم لماذا.!!

والمصادفات التي تخدم صرعى الغرام، أبت ألا تحقق أمنية عاشق (بونتاسياف) فلم تمض أسابيع، حتى اضطرته إلى الوقوف في ساحتها الكبرى (الوحيدة) أثناء سفره بالسيارة من فينيسيا إلى روما، لأن البنزين، كان قد نفد حتى آخر قطرة.

ذهب السائق يبحث عن القليل من هذا السائل الثمين، وأخذ (سيريني) يطوف هذه القرية، فأتم طوافها في وقت قصير.

وفي الواقع (وهذا ما يدلنا دلالة واضحة على أن أحلامنا بعيدة كل البعد عن الحقيقة!) لم تقع أبصار (سيريني) على ما يذكره بحديقة (ميدسيس) أو شعر (بوليثيان)!

وداعاً أيها الحلم المعسول! حلم (ميدسيس) وقد زخرت بحسان النهضة الفاتنات!. . . ليس في (بونتاسياف) كلها أثر للخضرة بله المروج.

وداعاً أيتها الأصداء الشجية، التي تردد أنغام قصائد (بوليثيان) الرائعة، ليس في (بونتاسياف) الغارقة في قيلولتها الصيفية غير نغمة واحدة: بكاء طفل، متواصل، ملح، مزعج يبعث على السأم والضجر، تنفجر قنابله من حانوت صغير في مؤخر قهوة القرية الحقيرة.

وهذه القهوة، دخلها (سيريني)، ليدخن بضع لفائف، ويكتب عدداً من البطاقات البريدية إلى أصدقائه، فلما أتم ذلك كان الملل قد أستبد به، واستولى ولم يرقه قط أن يبصر السائق يعود في هذه اللحظة ويداه فارغتان. إن العثور على لتر من إكسير الحياة لأسهل بكثير من إيجاد قطرة بنزين في هذه القرية المتواضعة. . .! والحاجة كالقانون، تملي إرادتها إملاء وتفرض مشيئتها فرضاً لابد من إيجاد قليل من البنزين، مهما كلف الأمر، فليعد السائق، وليبحث عن هذا السائل الثمين.

يضجر (سيريني!) فيترك سيارته تنعم في ظل بيت صغير، هو أجمل البيوت، ويخرج إلى الساحة الكبرى حيث الشمس تذهب كل ما فيها وتلهبه، ويعود بعد قليل إلى سيارته ففيها على الأقل يستطيع أن يأخذ نصيبه من الراحة، فليتمدد فيها، وليرغم نفسه على أن ترضى بما لاتريد، وليتغنى بقطعة شعرية للشاعر (بوليثيان) وليهدئ من حركاته لعل الرقاد يلبي نداءه.

وأنه لكذلك، وإذا مصراع نافذة فوق رأسه يفتح، وتطل عليه مخلوقة فاتنة. . . تقابلت نظراتهما، فأحدثت في كل منهما ما تحدثه عادة، نظرات الرجل في المرأة والمرأة في الرجل. . وأخذت العيون تبحث عن العيون من طرف خفي حتى إذا تقابلت ازورت، وإذا ازورت تقابلت،. . وهكذا تم التعارف بينهما ولم يشاهد أحدهما الآخر قبل هذه الساعة.

وتخاطبت الأبصار بلغة سحرية، دون أن تتظاهر بأنها تتخاطب، وتفاهمت، دون أن تتظاهر بأنها تتفاهم واليكم ما قالته عيون المرأة للشاعر:

- أنت لطيف جداً! يا سيدي! أنت شاب أنيق جذاب من طبقة يندر أن ترى في ساحة (بونتاسياف) الكبرى. . . وبعد دقائق معدودات. يا سيدي الفتان. سيوافيك الشخص الذي تنتظره ولعله امرأة جميلة ترافقك في السفر. أو تفر معك!

وإذ ذاك. يزأر محرك السيارة. حيث يلتوي الطريق ستختفي إلى الأبد. أيها الحلم الجميل! ستختفي وأنت من تلك الطبقة التي لا تتسنى لنا مشاهدتها أكثر من دقائق قليلة خلال شقائنا الدائم ونحن بنات الريف التعسات اللواتي قضي عليهن أن يخلقن في الريف، وأن يتزوجن في الريف وأن يقضين الحياة في الريف خاضعات (لأمانة) يرتضينها على غير إرادة منهن

. . . أيها الشاب الجذاب، الذي سيختفي بعد بضع دقائق! إنه ليلذ لي كثيراً، من هذه النافذة أن أتصل بك! والاتصال بك خطيئة النساء اللواتي على شاكلتي. . .!!!

وقد انبرت لحاظ الشاعر تجيبها:

- (أنت جميلة أيتها المجهولة الفاتنة! أنت جميلة بعينيك البراقتين، وشعرك المسدول! أنت جميلة بهذه الجدائل المجعدة على الطريقة القديمة، وهذا الثوب الأسود الذي ترتدينه أملس مصقول إلى درجة تسمح برؤية النقط البارزة في جسمك البض.

وهذه الدانتيلا التي تماشي هذا الصقل وتحده، في غاية الأناقة والظرف!

وهنا، في هذه النافذة التي تخفي من جسمك الغض ما تخفي، وتظهر ما تظهر، تتراءين في وسط الهالة المظلمة التي تكتنفك، في جمال تمثال، من تماثيل 1859، كأنك آلهة من آلهة العصور القديمة، بهذه الزينة التي لا يعرفها عصرنا، عصر الفساتين القصيرة، وعصر الفوكس - تروت!

لقد أضاع عصرتا ذلك الجمال البالغ!

وكم تروقين لي، أنا الشاعر المفتون، أيتها السيدة الحسناء! إنكِ لتملكين ما تجملين به (بوناسياف) أكثر من كل صورته لي مخيلتي!! وإن لك وأنت تتظاهرين بعدم النظر إلي، بينا أنت لا تنظرين إلا إليّ إن لكِ وأنت تتصنعين التحديق في الأفق البعيد، بينا أفقك الواسع ينحصر في المساحة الصغيرة التي تشغلها سيارتي، إن لك ابتسامة حزينة تفتر عنها شفتاك الرقيقتان اللتان لم تشعرا بلذعة القبل الملتهبة ولم تتمتما بالجمل المغرية!

أيتها الريفية الحزينة التي زوجت منذ عشرة أعوام بمن لا تريد: بشيخ البلد! بالطيب! بكاتب العدل! - أيتها المرأة الشقية التي ترتضي أن تقضى في هذا المنزل قبل أن تعرف الحياة، والتي ترتضي أن تخنق في مهدها الأحلام المعسولة التي يسرح في عوالمها قلبها الخفاق، وتحلق في أجوائها مخيلتها الوثابة، بعد أن رضعت الخيال من القصص والروايات.

أيتها الريفية الحزينة، التي تستطيع أن تجد الحب في جميع الكتب، ولا تتصور أنها تستطيع أن تجده في غير المدن! أيتها الريفية الحزينة التي تتحسر على ألا تفهم من الحياة غير واجبات الزوجية، وعواطف الأمومة والتي تتحدد آمالها كل يوم، وفي مثل هذه الساعة. عند غروب الشمس!

أيتها الريفية الحزينة التي تبحث من فتحة هذه النافذة عن قليل من الهواء، وقليل من الفضاء، وعن قطعة من السماء، تبصر فيها النجم يشعل زهرته المتلألئة!

أي مدام (بوفاري) أي حرقة تعتلج في صدرك عندما تدركين أن الأسفار الجميلة التي تحلمين بها، لن تتحقق منها غير هذه الوقفة الكئيبة التي تقفينها كل يوم، عند هذه النافذة! أي مدام (بوفاري) (بونتاسياف)! ما أروع حب الاستطلاع الذي تنم عنه عيناك! عيناك اللتان تنظران إلي، دون أن تتظاهرا بالنظر إلي! عيناك اللتان تتكلفان البحث في البعد عما لا أدري وهما لا تبحثان في الحقيقة إلا عني، أنا الجالس في هذه السيارة التي جاءت من حيث لا تدرين، والتي تتأهب لان تذهب

إلى حيث لا تدرين! أه! لو كان يستطيع رجل مثلي أن يقف هنا، أو لو كنت تستطيعين أن تنزلي إليه وتركبي إلى جانبه في هذه السيارة وأن تختفي معه هنالك حيث يلتوي الطريق عند تلك النقطة التي تمثل حد العالم الذي أذن لك أن تعرفيه حتى اليوم!

آه لو كنت تستطيعين أن تذهبي معه. وألا تعودي بعد اليوم. . . . . .! (2)

هكذا تناجت منهما العيون، وقد طالت بينهما المناجاة لأن البنزين كان ما يبرح صعباً إيجاده، حتى في ضواحي (بونتاسياف)، وسيريني الذي بلغ من الشهرة حداً قصياً، واعتاد أن يعرفه الناس في كل مكان، طفق يحدث نفسه يقول: لا شك إنها عرفتني، لأن رسمي كثيراً ما ينشر في الصحف والمجلات، وهذه نظراتها التي لا ترفعها عني تدل بوضوح على إنها تعرف من أنا!. . وهي مهما كانت (بوفارية) لا يمكن أن تنظر بهذا الشكل إلى رجل عادي، يمر في طريقه بنافذتها!

ولا بد أن تكون قرأت لي، وقرأت لي كثيراً لأن ساعات الفراغ في الريف أطول منها في المدن، وإذن فللنساء وقت كاف فوق الكفاية، لأن يلتهمن الكتب مكاتب، مكاتب!! وما دامت فلورانسا على قيد خطوتين من (بونتاسياف) فمما لا ريب فيه إنها ذهبت إلى مسارح التمثيل وأبصرت بعض رواياتي تمثل فيها، وربما رأتني عندما يستدعيني المتفرجون إلى المسرح لأحييه ويحيني بين عاصفة من التصفيق والهتاف!. وفي هذه اللحظة ظهرت في النافذة امرأة مسنة، أحاطت بوجهها هالة من الشعر الأبيض. فنظر إليها (مارك سيريني) وأستأنف حديثه مع نفسه: من المؤكد إن هذه المرأة أمها فهي تشبهها كل الشبه، وهذه أبنتها تسر في أذنها وأني واثق إنها تقول لها: (أترين هذا الرجل هو مارك سيريني) الكاتب المسرحي الشهير!!. . أجل، لاشك إنها قالت لها ذلك أو شيئاً يماثله، لأن الأم أيضاً أخذت تنظر إلي ولا ترفع بصرها عني!! انظرا إلي!. . انظرا إلي!. . أيتها السيدتان العزيزتان ترى هل أروق في أنظاركما؟

انظرا إلي ولا تغضا الطرف عني حياء (وخجلا) فقد فرض على أصحاب الشهرة أن يمتع الناس أنظارهم بهم!!

اختفت الأم، ولكنها لم تلبث أن عادت، وفي يدها مجلة عرف من جلدها الأزرق إنها مجلة (ألالليستراسيون) وفتحت الأم المجلة على حافة النافذة وأشارت بيدها إلى صفحة فيها، تلفت أنظار أبنتها إليها، ثم عادت إلى التحديق في الشاعر: (لاشك إنهما تقابلان بين رسمي المنشور في المجلة وبين وجهي. . . أجل أيتها السيدتان أنا هو (مارك سيريني) لحماً ودماً. . أنا هو (مارك سيريني) الذي لم يك ليخطر له أن من الممكن أن تضطره المصادفات للوقوف في (بونتاسياف). . . أنا هو (مارك سيريني) الذي سيرحل بعد قليل، ولكن بعد أن يكون قد ترك قلبه في هذه النافذة، لأنه شاعر، والشاعر مجنون، وهو هو هذا الجنون الذي أطبق عليه، وجعله مفتوناً بك أيتها المجهولة المغرية، إلى حد الوله!!.

وله؟. . . وأكثر من ذلك أيضاً!

هكذا في طرفة عين؟. . هكذا في طرفة عين!

ولقد استحال عدم اصطباره إلى شيء آخر، حتى إنه لم يستطع أن يخفي استياءه، عندما أبصر السائق يعود بعد أفول الشمس، وفي يده وعاء فيه قليل من البنزين، حصل عليه بأعجوبة من سائق أستوقفه على قارعة الطريق.

وأخذ (سيريني) يحدث نفسه: (لماذا وجدت البنزين أيها الأبله!. ألم تحدثك نفسك أن سيدك أمسى لا يرغب في الابتعاد عن هذا المكان؟ وإنه هنا وتحت هذه النافذة يمتع نفسه بالنظر إلى عيون حسناء مغرية؟ لقد كان خيراً له أن تعود فارغ اليدين ما دام قلبه قد امتلأ!!).

ولكن السائق الذي لم يك نبيا ولا يمت إلى نبي بصلة النبوة ولا صاحب كرامة تسمح له أن يشعر من مسافة ثلاثة كيلومترات أن سيده صار فجأة لا يرغب في البنزين لم يفهم التأنيب الخفي الذي يسدده إليه سيده لأنه بذل أكثر مما في وسعه حتى حصل على الوسيلة التي ستمكنه ان يرقد براحة وهدوء في سريره الوثير بروما!

علام هذا الصمت. . .؟ ما باله لا يتكلم والشمس توارت، والليل جن؟

أشعل الضوء في غرفة المجهولة الحسناء، فلم يعد في الإمكان تمييز وجهها الجذاب وعينيها الدعجاوين وغدا شبحها يتراءى أغبر قاتما وهذا الشبح لم يك أقل جمالا من وجهها وعينيها فهذا رأسها قد اتكأ على ساعديها بهيئة جميلة.

تهيأ كل شيء وأشعلت الفنارات!. . . فوا أسفاه على الزمن الماضي زمن الفنارات التي تضاء بالاسبتلين! ذلك الزمن الذي كان يضيع الإنسان فيه وقتاً طويلا ليجد ما يلزمه من ماء وكارببر! فلا يحصل على ما يريد إلا بعد الغضب والصخب. . ولكن المرء إذا كان عاشقا ولا سيما إذا كان يرغب عن السفر فان الفنارات القديمة تستطيع أن تؤدي له خدمات عظيمة.

وداعا أيها الحلم المعسول! أخذت السيارة تجأر وأخذت تعدو وأخذت تبتعد وما زالت تجأر وتعدو وتبتعد حتى اختفت عند النقطة التي يلتوي فيها الطريق.

ترى هل يعود إلى (بونتاسياف)؟

فابتسم (سيريني). . . لن يعدم سبباً للعودة. . .

(3)

لم يعد في الحال، ولكنه عاد!!!

كان للشاعر في أحد أدراج مكتبه بروما رواية لم يتم منها إلا بضعة مشاهد. وهو مؤلف نشيط خصب الإنتاج سريع العمل إلى حد يفوق التصور. ولا شك ان هذه الصفات تبلغ حدها الأسمى إذا كان الحب يلهب منه الدماء ويسعر في قلبه الضرام. . .

وكان إذا اخذوا عليه حبه، لا يتردد في الإجابة: (يخفف المغرمون عن أنفسهم بالتنهد، أما أنا فبالكتابة!. . أحصوا أحصوا رواياتي تجدوا كل رواية بامرأة. . .)

ولما لم يكن للرواية الأخيرة امرأة. فإن تقدمها كان بطيئا جداً. . . أما الآن وقد غدا وجه تلك الريفية الحسناء لا يفارق مخيلته فإن الشاعر اكتشف الينبوع الذي يستمد منه وحيه وإلهامه، وفي وقت أقل من القليل، أتم الرواية، ونقلها وقرأها لأصدقائه المخلصين. وراحت الصحف، تعلن عنها بحروف بارزة، أنها اعظم حادث مسرحي، لذلك الموسم.

وما كاد يذاع هذا النبأ الخطير، حتى هرع إلى (سيريني) عدد كبير من رؤساء فرق التمثيل، وعرضوا عليه مسارح روما، وميلانو وتوران ونابل لتقوم أشهر الفرق بتمثيلها للمرة الأولى. وكان بين المتسابقين ممثل فرنسي شهير، حاول ان يحتكر تمثيل هذه الرواية الرائعة لفرقته، ولم يطلب لذلك أكثر من المدة التي تكفي للترجمة، وقد بذل جهوداً عظيمة لينيل باريس شرف تمثيلها لأول مرة، ولكنه لم يفلح.

وتقدم رؤساء آخرون يعرضون مسارح برلين وفينا ولندن لأن (سيريني) كانت له شهرة اوربية لا تقف عند حد، وقد سرت عدوى هذه الحميا إلى إحدى صاحبات العروش، فأسرعت إلى عرض مسرح البلاط الملكي!

أما الشاعر فقد كان يلازم الصمت، ولا يجيب بحرف، وكل ما فعله أنه أوعز إلى سكرتيره الخاص بتسجيل أسماء المدن التي تعرض عليه. وتجمع عليه أصدقاؤه وألحفوا عليه في السؤال:

- أي المدن اخترت؟. . روما؟ ميلانو؟ فلورنسا؟ توران؟ نابلي؟

كان (سيريني) لا ينبس ببنت شفة، وإنما كان يجيبهم بهزة رأس تدل على النفي كل الدلالة!

- إذن. هل اخترت مدينة أجنبية؟ باريس؟ برلين؟ فينا؟ لندن.

ولكن الشاعر لبث صامتا، رأسه وحده كان يتكلم!

- فانفجر أحد أصدقائه وقال: إذن. . إذن أين؟؟

- هل اخترت مسرح (الماريونيت)؟. . مسرح (الفينيول)؟

أخذ (سيريني) يبتسم بوداعة وسكينة. . وأخيراً أجاب:

- ستمثل روايتي لأول مرة في (بونتاسياف)!!

في (بونتاسياف)؟؟

دهش الجميع، وطفقوا يحتجون في غير هدوء ولا سكون، أما (سيريني) فانه لبث يبتسم ابتسامته الغامضة ويعيد في غير ملل:

- قلت لكم في (بونتاسياف)!!!. . . كفى!!!

ولم يستطع أحد بعد ذلك أن يستدرجه إلى قول جملة غير هذا، فتسارع أصحاب المسارح ورؤساء الفرق والممثلون وسفراء الملكات إلى داره ليروا: أمازح هو أم جاد؟ أم اعتراه جنون مزاح؟. . . كلا!. . إن (سيريني) وهو جالس إلى منضدته يعيد بدون ملل: (ستمثل روايتي لأول مرة في بونتاسياف)! وقد زاد على ما تقدم: (هاهي مستريحة في هذا الدرج، على غاية ما ترون من الصحة، ولم يصف لها أي طبيب تبديل الهواء اللهم إلا إذا كان هواء بونتاسياف).

فأخذ بعضهم ينظر في وجوه بعض والدهشة ترفع من عيونهم الحواجب، وتقطب الجبهات، وشرعوا يتساءلون عن سبب هذا العناد، فاختلفت آراؤهم وتضاربت، ولكن أحداً منهم لم يستطع إدراك الحقيقة.

وقد أسرع رؤساء شركات التمثيل بالرجوع إلى القطار لأنه لم يك بينهم من يفكر في (بونتاسياف) عادوا مخفقين وأكثرهم كان قد تعاقد سلفاً على تمثيلها في أشهر المدن وأكبر العواصم! ولكن تمثيل رواية جديدة، للمؤلف المسرحي الشهير (مارك سيريني) عملية رابحة، تدر الذهب الكثير فهل يتركها الجميع؟ كلا لقد قبل أحدهم (وكان أمريكياً) أن يمثلها لأول مرة في (بونتاسياف) لأنه بحساب أمريكي، رأى أن هذه العملية ستدر عليه أرباحاً أمريكية أيضاً. . وهكذا تعاقد مع المؤلف ووقع الاتفاق، ولما كانت شركات التمثيل المنظمة لا تستطيع أن تذهب بممثليها إلى (بونتاسياف) حيث لا عمل لهم، فقد وعد أن يهيئ في ثمانية أيام، فرقة خاصة لتقوم بتمثيلها ثلاث ليال متواليات. . . وبعد ستة شهور يمنح امتياز الرواية للفرق العادية لتمثلها في كبريات المدن وأمهات العواصم.

حلب. إيزاك شموش